بعد الوباء.. الصحة والتعليم ركيزتان للأمن

مع الاقتراب من ثلاثة ملايين إصابة وتجاوز مئتي ألف وفاة (من دور المتوفين خارج المستشفيات) تترسّخ قتامة التوقّعات، حتى لدى بلدان لا تعوزها الإرادة لإنعاش الاقتصادات، وفي المقابل يؤكّد نهم الحكام كل المخاوف على حقوق الناس.

مهمّ جداً استخلاص الدروس من الغزو الوبائي الحاصل، والأهم أن تجد هذه الدروس مسلكها الى سياسات ما بعد الوباء. وإذ يقال الآن أن المسألة الصحّية ينبغي أن تصبح محوراً رئيسياً في السياسة الدولية، فالمطلوب أن تصبح أولوية على المستوى الوطني، خصوصاً في البلدان النامية، ومنها البلدان العربية. لطالما حذّر المختصّون من عواقب إهمال الصحّة والتعليم باعتبارهما استثماراً في مستقبل أفضل للشعوب والمجتمعات، أو إهمال التنمية عموماً باعتبارها تعزيزاً لفرص العمل، لكن الحكومات اعتادت تخصيص أكبر الميزانيات للدفاع والأمن، وعلى رغم صواب دوافعها فإن مخرجاتهما قابلة عموماً للجدل. ثم أن هاجس الاقتصاد “المستقرّ” من دون إصلاح ولا تنظيم غالباً ما استهلك نسبة مهمة من تلك الميزانيات وما لبث أن انكشف زيفه عند أول هزّة ليظهر أن الفساد كان ولا يزال يلتهم نسبته المتزايدة.
أصبح “نظام ما بعد الفيروس” ملزماً، دولياً ووطنياً، بأن يتعامل مع الصحّة والتعليم كركيزتين أساسيّتين للأمن، بكل جوانبه، على قدم المساواة مع “الأمن” نفسه. وما على مَن لا يعترف بهذا الاستحقاق وحتميته الصارمة سوى أن ينظر الى ما أحدثه الوباء في غضون أسابيع من إغلاق وتعطيل للاقتصاد والحياة العامة، وما كشفه من عجز لدى الحكومات والسلطات قويةً كانت أم هزيلة، وما سبّبه من خسائر مادية ومعنوية لا يزال الاقتصاديون والاجتماعيون يحاولون احصاءها، وكلّما طالت الأزمة كلّما وجدوا أن الحصيلة مفزعة. هذا ينطبق أكثر على الدول المتقدمة، حيث بدأ المحلّلون يرون في الوضع الراهن وما بعده “عودة الى الثلاثينات” من القرن الماضي على أثر جائحة الانفلونزا و”الكساد الكبير”، بل إن البعض ذهب الى مقارنة مع تداعيات “الطاعون الأسود” في القرن الرابع عشر.
الإغلاق في حدّ ذاته لن تُعرف مضاعفاته الصحّية إلا بعد فترة من إنهائه، فجميع المصابين بأمراض غير كورونية أرجأوا أو أرجئت تلقائياً متابعتهم طبّياً، وجميع التلاميذ والطلاب تضعضع تركيزهم، وجميع الباحثين عن عمل سيجدون الفرص القليلة وقد قلّت أكثر. هناك مخاوف على الحقوق والحرّيات، وتصاعد للتمييز على كل الأسس، وشحن ذاتي أو سياسي للغرائز. لا مكان للمهاجرين واللاجئين، وحيث يوجد عمال وافدون نُظر إليهم كأنهم مصدر الوباء أو يأخذون فرص طبابة لا يستحقونها لو أصيبوا. لن تكون إعادة فتح الحدود سهلة أو سلسة حتى في أوروبا التي اعتبرت الغاءها أحد إنجازاتها التاريخية، أما الدول التي لم تتمتع بإنجازٍ كهذا فقد تجد أن الفتح الموسمي والمتقطع أو الإغلاق المزمن كان إجراءً “حكيماً” بل رؤيوياً، مع أنه وليد تزمّت سياسي متحجّر.
ثمة فوضى كانت موجودة، كما لفت الى ذلك الوزير الفرنسي السابق، وظهرت خلال إدارة الأزمة وستكون آثارها قوية في المرحلة التالية. الفقرة الأولى في المادة 25 من شرعة حقوق الانسان لا تشير الى الأوبئة لكنها تطلب أن يكون “لكل شخص حقّ في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، خصوصاً على صعيد المأكل والملبس والسكن والعناية الصحّية (…) وله الحقّ في ما يأمن به من الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمّل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن ارادته والتي تفقده أسباب عيشه”. إذا كان المواطنون المؤمّنون في دول الغرب استشعروا تراجعاً في هذه الحقوق، فما القول عن مواطنين لم يلمسوا شيئاً من تلك الحقوق طوال حياتهم. ستكون معجزة حقاً إذا لعبت نسبة الشباب (نحو 70 في المئة) في البلدان العربية والافريقية دوراً في درء اجتياح كوروني عاتٍ، فلولا ذلك لصعُب تصوّر الحال. ومع ذلك، تكرّرت في التوقّعات الجادة تحذيرات من المجاعة، تحديداً في افريقيا التي ستنجو من الوباء لكنها ستعاني من “وضع اقتصادي كارثي” في ما بعده.
خلال أسبوع واحد خرج الأمين العام للأمم المتحدة ليُطلق إنذارين: الأول في شأن أن الفيروس “قد يتحوّل الى سلاح خطير في أيدي الإرهابيين”، والآخر في أن الوباء “كأزمة بشرية يقترب من التحوّل الى أزمة حقوق انسان”. في المقاربتين هناك بُعد استخباراتي غربي، فليست المرّة الأولى التي يثار فيها القلق من امتلاك إرهابيين سلاحاً بيولوجياً، ولعل ما حال دون وصوله اليهم حتى الآن أن الدول “الراعية” لم تزوّدهم إياه، لكن تسرّبه غير المتعمّد من المختبر الصيني يثير شكوكاً هلعة، فبعد “كورونا” أصبح الأسوأ توقّعاً مشروعاً. أما بالنسبة الى حقوق الانسان فقد عرضت “الايكونوميست” عشرات الحالات من سعي الحكام الى استغلال الوباء للحصول على أقصى ما يمكن من الصلاحيات وتشديد قبضاتهم على السلطة، في حين أن أنطونيو غوتيريش طرح قائمة من الانتهاكات نجد فيها التمييز وعدم مساواة هيكلية تعوّق الوصول الى الخدمات المتعلّقة بمكافحة الفيروس، مخاطر الاستجابات الأمنية القاسية التي تقوّض الاستجابة الصحّية، ظهور خطاب الكراهية واستهداف الفئات الضعيفة، تزايد القومية العرقية والشعبوية والاستبداد…
من الواضح أن الوصفة التي تطلب أن تكون تدابير الطوارئ “قانونية ومتناسبة وضرورية وغير تمييزية” ستكون فقط من نصيب المدوّنات الرسمية لا الممارسات الحكومية. فالمستبدّون يسمحون بمعالجة مرضى “كورونا” كـ “كرم أخلاق” من لدنهم، لكنهم لا يسمحون باعتبار ذلك في إطار حقوق الانسان. في احدى الدول العربية خرج الناس في لحظة محدّدة للتصفيق تعبيراً عن امتنانهم وتقديرهم للعاملين في الجسم الطبي، وصباح اليوم التالي قالت مانشيتات الصحف أن التصفيق كان لمبادرات السيد الرئيس.
يجري التعامل مع حتميّة البحث عن “أصل الفيروس” كما لو أنها وسيلة للمناكفة السياسية وليست خطوة حاسمة وضرورية للقضاء على الوباء، ولذلك فإن الاتهامات المتبادلة لم تفد أي طرف حتى الآن بل أجهضت فكرة التعاون الدولي لمصلحة إخفاء الحقائق. ليس بعيداً عن الواقع ما قيل بأن إدارة الدول الكبرى للأزمة والسجالات الدائرة على خلفية الوباء كانت أقرب الى “حرب فيروسية” منها الى كارثة إنسانية ينبغي العمل على ألا تتكرّر. وداخل هذه الحرب التي يحاول العسكريون التقاط أسرارها وديناميتها، هناك طبعاً ذلك السباق الى اللقاح وقد غدا من أثمن الأسرار البزنسية للدول.

السابق
«حزب الله» يحتكر «البترودولار» بين سوريا ولبنان.. و«الكورونا» تتمدد و«التعبئة» تتفلت!
التالي
أسرار الصحف اللبنانية ليوم الاثنين 27042020‏