الانتفاضة في العراق: إلى أين؟

توك توك الاحتجاجات في العراق

من الصعب أن نرى كيف ستتخلى ايران عن النفوذ السياسي، الاقتصادي والاستراتيجي الذي حققته منذ عشرات السنين. ومع ذلك من الصعب ان نرى ادارة ترامب، مع كل ارادتها للانصراف من العراق تتخلى في هذه النقطة بعد أن تحدتها طهران ومؤيدوها بهذا الشكل الخطير.
قبل بضعة اشهر من اندلاع الانتفاضة الشعبية في العراق في 1 تشرين الاول 2019 نشر صحافي عراقي مقالا لاذعا تحت عنوان “هل العراق ورقة تتقاذفها الريح؟” كي نجيب على هذا السؤال يجدر فحص جذور المشاكل في العراق البعثي، الدوائر المغلقة التي يتحرك فيها منذ قيامه، والتأثير المحتمل للانتفاضة الاخيرة على مستقبل الدولة.
لقد خلق احتلال الولايات المتحدة وحلفائها للعراق في 2003 توقعات عالية لسياقات الاشفاء الاجتماعي، التحول الديمقراطي، الرفاه الاقتصادي والاستقرار السياسي. اما عمليا فأحدثت الخطوة هزة عظيمة لم يشهد العراق مثلها منذ قيامه في العام 1920. ففي اعقاب الحرب وقعت انتقالة حادة من حكم السنة الذي يعود الى مئات السنين الى حكم الشيعة. وكان معنى الامر هو ان تقاليد الحكم في الدولة انتقلت الى شيعة عديمي التجربة بينما السنة الذين سلبت منهم مكانتهم التاريخية يواصلون التحرك بدوافع كل هدفها محاولة اعادة الدولاب الى الوراء بكل سبيل ممكن.

إقرأ أيضاً: https://janoubia.com/2020/01/14/%d8%b3%d9%84%d9%8a%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%a8%d8%b7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%85%d9%87%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d8%b9%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%af-%d9%88%d8%a5/ سليماني «بطل الجمهورية» بعين «الأسد».. وإسرائيل تسعى لطرد إيران من سوريا!


انتقال مفاجيء وحاد آخر كان من الدكتاتورية عديمة الكوابح الى ديمقراطية مهندسة من فوق لم يعبر السكان الذين يفترض ان يحملوها على اكتافهم في السياقات الطويلة والبطيئة التي كان يفترض أن تعدهم لهذا العبور. تغيير هام آخر كان العبور من سلطة مركزية الى سلطة موزعة بينما يصعب على بغداد العاصمة اقامة ادارة سليمة في الاجزاء المحيطة من الدولة. وكان جزء من التحول الكبير ايضا العبور من حزب حاكم واحد ووحيد، هو حزب البعث، الى تعدد من الاحزاب والفصائل التي تتصارع فيما بينها على نيل القوة والنفوذ. وما شدد بقوة اكبر الفوضى في الدولة كان حل جيش صدام حسين الذين في ذروته ضم نحو مليون جندي واقامة جيش معد على عجل ضعفه الكبير شكل ارضا خصبة لصعود ميليشيات شيعية تسمى الحشد الشعبي التي تخضع في قسمها الاكبر لامرة ايران.
مشكلة بنيوية اخرى يعاني منها العراق هي دوائر العنف التي لا تنتهي والتي يسير فيها وتخلف ندبا عميقة في المجتمع العراق. هكذا وعلى مدى ثلاثة عقود من النظام البعثي شهد سكان العراق ثلاثة حروب هي الاصعب في تاريخه: الحرب الايرانية العراقية (1980 – 1988)، حرب الكويت وآثارها (1990 – 1991) والحرب في 2003. ولكن حتى بعد الحرب الاخيرة لم يعد السلام الى العراق إذ اندلعت الحرب الاهلية التي تواصلت حتى 2008 وأدت الى صعود المنظمات السنية الفوضوية القاعدة ودولة الاسلام في العراق والشام (داعش) والتي زرعت الدمار والفوضى في الدولة. اما الدائرة الاخيرة التي توجد في ذروتها فهي الانتفاضة التي تدور منذ نحو ثلاثة اشهر ولا نزال لا نرى نهايتها.

للانتفاضة الحالية توجد مزايا خاصة جديرة بالاشارة. الاولى، الصراع هو في داخل ما يسمى “البيت الشيعي”، أي صراع الشيعة ضد الشيعة، بينما ينظر الاكراد والسنة من الجانب ولا يشاركون فيه. ميزة اخرى للانتفاضة هي الصراع بين من يعرفون انفسهم كوطنيين عراقيين وبين الشيعة العراقيين المؤيدين لايران. كما توجد ايضا مناكفة خفية بين التيار المؤيد لايران والتيار المؤيد لامريكا. كقاعدة توجه الانتفاضة الشعبية ضد كل مؤسسات الدولة التي تعتبر عفنة وفاسدة حتى الاساس. وقد سار المنتفضون بعيدا وهم يطالبون بتغيير جذري لنظام الحكم بما في ذلك الغاء الدستور للعام 2005 والذي ثبت التوزيع الطائفي لادوات الحكم. ولم يتردد المنتفضون في اتخاذ خطوات حادة ضد رموز الحكم وبالمقابل اتخذت الميليشيات واجهزة الامن خطوات عنيفة أدت الى موت اكثر من 500 شخص. والى ذلك يجري صراع على مستويات عديدة على الهوية الوطنية والدينية، على وسائل السيطرة في الاقتصاد، في الجيش، في مؤسسات الحكم، وعلى توجه الدولة.

ان العنصر “الوسيط” اليوم بين المنتفضين ومؤسسات الحكم هو الزعيم الشيعي الاعلى آية الله علي سيستاني المؤيد على طول الطريق لمطالب المنتفضين. عنصر آخر يظهر حضورا بارزا ويعزز قوته في اعقاب الفوضى السائدة في الدولة هو قيادات العشائر التي تحاول ملء الفراغ السلطوي الذي نشأ مع استقالة رئيس الوزراء عبدالمهدي، الشلل الذي يصيب البرلمان وعدم القدرة على الوصول الى تسوية حول السبل لايجاد حل للمشاكل العميقة للدولة.
مع يعقد بقوة اكبر المشاكل البنيوية هذه هو حقيقة أن العراق عالق في توتر بين قوتين خارجيتين عظيمتي القوة ليس له القدرة على التحكم به او حسمه بينهما. فمن جهة تقف الولايات المتحدة التي فتحت صندوق مفاسد ولكنها لا تعرف كيف تخرج منه. وحتى وقت اخير مضى كانت كل ارادة ادارة ترامب هي الانصراف من العراق في ظل تقليص الاضرار على الولايات المتحدة ومحيطها، ولكن الامور تدحرجت بخلاف ارادتها. من جهة اخرى تقف ايران التي تسعى الى مواصلة توسيع نفوذها قدر الامكان. عمليا تواصل طهران الحرب الايرانية العراقية بوسائل اخرى: السيطرة على الدولة بواسطة “القوة الرقيقة” وتحويلها الى ما يسمى بالانجليزية “Frenemy” (العدو الصديق) بعد عشرين سنة من الحرب تحولت ايران من عدو لدود الى صاحبة السيطرة الاكبر في العراق.

ومؤخرا ارتفع الصراع بين الولايات المتحدة وبين ايران على السيطرة في العراق درجة عندما تطورت مواجهة جبهوية توجد في ذروتها بين قوات عراقية مؤيدة لايران وبين الولايات المتحدة. وفي اعقاب هجوم الميليشيا المؤيدة لايران على قاعدة امريكية أدى الى وفاة مقاول امريكي واصابة عدد من الجنود الامريكيين هاجمت الولايات المتحدة في 29 كانون الاول 2019 قاعدة لمنظمة كتائب حزب الله المدعومة من ايران وتسببت بموت 25 من رجال الكتائب. بعد وقت قصير من ذلك حاصرت ميليشيات مؤيدة لايران من الحشد الشعبي السفارة الامريكية في بغداد وزرعت الدمار في محيطها دون أي محاولة من الجيش العراقي لمنع ذلك. ومع أن رجال الميليشيات انسحبوا بعد يوم من مجال السفارة ولكن رد ادارة ترامب لم يتأخر. في 2 كانون الثاني 2020 كان الرد بقتل قاسم سليماني قائد قوة القدس والمسؤول عن اعمال الحرس الثوري الايراني خارج ايران. وقد فتل معه تسعة اشخاص آخرين بينهم نائب قائد الحشد الشعبي الذي يدعى ابو مهدي المهندس.

لقد اشارت الانتفاضة الشعبية بوضوح الى تبلور وطنية عراقية – شيعية مناهضة لايران بوضوح وبالمقابل الى تعزيز قوة التيار المناهض لامريكا والمطالب من الولايات المتحدة سحب قواتها من الدولة. السؤال الاكبر هو اي قوة من هذه التيارات ستتغلب. مثلما تبدو الامور الان مشكوك أن يكون بوسع المعسكر المعارض لايران ابعادها عن كل مراكز القوة التي احتلتها في ارجاء الدولة. بل ومن الصعب أن نرى كيف ستتخلى ايران عن النفوذ السياسي، الاقتصادي والاستراتيجي الذي حققته منذ عشرات السنين. ومع ذلك من الصعب ان نرى ادارة ترامب، مع كل ارادتها للانصراف من العراق تتخلى في هذه النقطة بعد أن تحدتها طهران ومؤيدوها بهذا الشكل الخطير. وعليه، فطالما استمر الصراع بين ايران وبين الولايات المتحدة على ارض العراق، سيصعب على الدولة الوقوف على قدميها، فما بالك ان ليس للمنتفضين بديل متبلور وواضح لمشاكل الدولة البنيوية.

في مقال نشره مؤخرا ادعى المحلل الشيعي سجاد تقي كاظم أن “الازمة في العراق لا تنبع من انها دولة موحدة يراد تقسيمها بل دولة منقسمة يراد توحيدها بالقوة”. ومشورته هي ان يسير كل واحد من اقسام العراق الثلاثة في طريقه كون هذا ما يجري عمليا. وبالفعل يبدو أنه بينما توجد العراق العربية – الشيعية في ذروة أزمة غير مسبوقة، فان المنطقة السنية هادئة جدا بينما الاقليم الكردي يزدهر، الامر الذي يمكنه أن يحقق جدول الاعمال لحل من الفيدرالية العراقية. ولكن بعد الاحداث الاخيرة يبدو الحل لمشاكل العراق ابعد من أي وقت مضى.

السابق
بري استقبل باسيل.. ماذا جرى خلال اللقاء؟
التالي
ثأر إيران لمقتل سليماني لم ينته بعد.. «حزب الله» على أهبة الاستعداد!