«بنك الأهداف» بين أميركا وإيران.. تواطؤ ومصالح !

اميركا ايران

بعد تفاجؤ متابعي الأزمات السياسية والعسكرية المعقّدة في العالم بقتل القوات الأميركية في غارة جويةٍ الشخصيةَ الثانية في إيران بعد المرشد الأعلى ورئيسَ الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وأربعةً ضباط إيرانيين كبار كانوا برفقته، هم اللواء حسين جعفرى نيا والعقيد شهرود مظفرى نيا والرائد هادي طارمي والنقيب وحيد زمانيان الأميركية، بعد لحظات من وصوله جوًّا من لبنان، كما أفادت وكالة “أسوشييتد برس”، تتفاعل ردات الفعل يومًا بعد يوم حتى وصلت إلى الأمم المتحدة، التي حذر أمينها العام أنطونيو غوتيريش من حرب جديدة في الخليج لا يمكن العالم تحمل نتائجها، وإلى درجة وصف صحيفة “إندبندنت” البريطانية التوتر الأخير بين أميركا وإيران بأنه “يتجه نحو حرب كبرى قد تكون الحرب العالمية الثالثة”.

إقرأ أيضاً: أي إيران تثأر لسليماني: «الثورة» أم «الدولة»؟

وإن كان غوتيريش يرى، بحكم منصبه على رأس هيئة أممية وُجدت في الأساس لحل نزاعات العالم، أن عليه في شكل آلي النزوع إلى التحذير من خطر الحروب، إلا أن القوة الأعظم عسكريًّا التي تغرد منفردة وتتخذ القرار الذي ترى فيه مصلحة لها وتنفذه دون الخضوع لأي مرجعية، نفّذت تصفية الرجل بعد محاولة سابقة كشفتها صحيفة “نيويورك تايمز”، ومفادها أنه سبق لسليماني أن كان هدفًا لعملية أميركية سرية خلال قيادته سيارة ضمن قافلة سيارات متجهة من إيران إلى شمال العراق في كانون الثاني 2007، لكن قائد المهمة الجنرال ستانلي ماكريستال تراجع  عن قتله في اللحظة الأخيرة “لتجنُّب توابع قتل العسكري الإيراني البارز”، كما قال في مقالة له في الجريدة ذاتها. إلّا أن فجر يوم 4 كانون الأول 2020 بدا مختلفًا، وكأن شيئًا ما فيه قد تغيّر  في عزم الإدارة الأميركية، بعد أن عيل صبرها على سياسات إيران العدوانية التي تعْهَدُ بها إلى سليماني ليترجمها أفعالًا على الأرض ضدها، فذكّرت بقتل “مالئ الإقليم وشاغل أهله” العالمَ بأن لا صديق لها دائمٌ ولا عدوًّا هو كذلك.

تتبّعته طويلًا، لكنها لم توحِ للقيادة الإيرانية من قريب أو بعيد أن الرجل من أهدافها، فالحلف مع إيران كان ثمينًا جدًا بالنسبة إلى الأميركان، إذ جعلهم ينفلشون في المنطقة الممتدة من أفغانستان وصولاً إلى سوريا، مرورًا بجوهرة التاج العراق. ولكن… ما الذي تغيّر فجر الرابع من ك1 ؟

في الحقيقة أن قناعات القيادة السياسية في أميركا بضرورة تصفية سليماني، التي أحجمت عنها إدارتا بوش الابن وأوباما من قبل وتكفّلت تصريحات كثيرة لرئيس الإدارة الحالية دونالد ترامب بعدم نيّته الحرب مع إيران في جعل الأخيرة تعيش حالة طمأنينة وارتخاء، كانت قد تغيرت قبل أسبوع واحد فقط من العملية، وتحديدًا إثر مقتل موظف أميركي بهجوم بالصورايخ على قاعدة أميركية بكركوك يوم 27 كانون الأول نفذته ميليشيات عراقية، ثم تكرّست نهائيًّا بعد الهجوم على السفارة الأميركية ببغداد الذي خطط له سليماني ونفّذه “الحشد الشعبي” في العراق، وبالطبع بعد أخذ هذه الإدارة في الحسبان الردَّ الحتمي لإيران وجميعَ العواقب التي سوف تترتب عليها، إن في حق الرعايا الأميركيين في الشرق الأوسط وأماكن أخرى على شكل اغتيالات، أو في حق السفارات والقنصليات على شكل تفجيرات أو قصف بالصواريخ، والأخطر في حق البوارج والمدمرات التي تجوب بحار المنطقة، إما عبر كوماندوس يتسلل إليها أو صاروخ أو أكثر باليستي يستطيع الوصول إليها وتجاوز أنظمة الحماية الأميركية وإغراقها، فتحقق بذلك إيران بذلك نصرًا ميدانيًّا يعادل، أو ربما يفوق حجم خسارتها سليماني.


كان التوجه الأميركي الأول بعد الاغتيال تجاه طهران، التي أمرت برفع الراية الحمراء في مدينة قم على قبة مسجد القائم في جمكران، وهو تقليد إيراني يرمز إلى طلب الثأر، تسليمَ القائم بالأعمال السويسري فيها رسالة من واشنطن إلى القيادة السياسية الإيرانية كشف نائب قائد الحرس الثوري الإيراني علي فدوي للتلفزيون الإيراني أنها تضمنت طلبًا بـ”ألا يتجاوز حجم الرد الايراني سقف الانتقام لسليماني فقط”، وهو ما يشبه بداية اقتراح سيناريو لنزع فتيل الأزمة تلقفه الإيرانيون من جهتهم واستجابوا له بردٍّ بالغ الوضوح من المتحدث باسم هيئة أركان الجيش الإيراني العميد أبو الفضل شكارجي بأن “الأميركيين سيتلقون ضربة أقوى في حال ارتكبوا أي جنون بعد رد طهران”، وبتصريح من المستشار العسكري لخامنئي لـ”سي أن أن” بأن “الرد على مقتل سليماني سيستهدف مواقع عسكرية أميركية، والقيادة الإيرانية أكدت عدم سعيها للحرب، وعلى واشنطن أن تقبل ردًّا يتناسب مع فعلها”… وهكذا، بدأ يحتل الحيزَ الإعلامي بسرعة قياسية تعطيلٌ لمفاعيل تصريحات نارية كانت صدرت عن الجانب الإيراني بعد العملية مباشرة، كتأكيد المرشد الأعلى علي خامنئي في بيان عن الموقع الإعلامي لمكتبه أنّ “انتقامًا قاسيًا سيكون في انتظار المجرمين”، وقول الرئيس الايراني حسن روحاني خلال استقباله الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني وزير الخارجية قطر (التي نقلت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية أن الطائرة المسيَّرة “أم كيو 9 هانتر كيلر” MQ9 HUNTER KILLER التي قتلت سليماني انطلقت من أراضيها) إن “الانتقام حق إيران الطبيعي، وأميركا ارتكبت خطأ كبيرا ستشهد تداعياته طيلة السنوات المقبلة”، وكذلك إجابته على سؤال لابنة سليماني خلال تقديمه واجب العزاء قائلًا: “الجميع سوف ينتقمون، لا تقلقي بشأن ذلك”، وتصريح نائب قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي لوكالة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية الرسمية، بأن الانتقام “سيجري على نطاق جغرافي واسع، ومن شأنه إنهاء الوجود الأميركي بالمنطقة”، وتوجيه خَلَف سليماني، إسماعيل قاآني، تهديدًا بأن الجميع “سيرون جثث الشيطان الأكبر في كل الشرق الأوسط”، ودعوة “كتائب حزب الله” العراقي “الإخوة في الأجهزة الأمنية العراقية إلى الابتعاد عن قواعد العدو الأميركي مسافة لا تقل عن 1000 متر”.

إقرأ ايضاً: ما هي فرقة «الشيطان 82» أو «الموت من الأعلى» المُرسلة الى الشرق الأوسط؟


أما الإجراء الثاني ذو الدلالة على قرار الإدارة الأميركية تخفيف وجودها على الأرض في العراق، فكان “إيقاف تدريبها القوات العراقية مؤقتًا”، كما  أفادت وكالة “رويترز”، التي نشرت أيضًا خبر “رسالةِ نوابٍ ألمان تقول إن اللفتنانت جنرال الأميركي بات وايت قرر زيادة مستوى الحماية لقوات عملية «العزم الصلب» المنتشرة بالعراق بقيادة الولايات المتحدة”. وكان الإجراء الثالث إرسال وزارة الدفاع الأميركية “3000 جندي أميركي إضافي إلى الشرق الأوسط كإجراء احترازي في ضوء تصاعد التهديد”، وفق “رويترز”.

وفيما كان العالم يترقب بوجلٍ على وقع التصريحات النارية “الانتقام” الإيراني وحجمه ونوعه، يبدو أن الإجراءات الأميركية الثلاثة السالفة الذكر، إضافة إلى الرد المباشر والسريع للرئيس الأميركي دونالد ترامب في حسابه على “تويتر”، بأن بلاده “حددت لضربات قوية وسريعة 52 هدفًا داخل إيران تكتسب أهمية كبيرة بالنسبة إلى إيران والثقافة الإيرانية في حال تعرضت القوات أو المنشآت الأميركية لأي هجوم”، وإعلانه أن “رقم 52 هو عدد الأميركيين الذين احتجزوا لأكثر من عام في حادثة الاعتداء على السفارة الأميركية وموظفيها في طهران عام 1979″، وتحذيره الإيرانيين من تكرار الحادثة أو توجيه المزيد من التهديدات… كلها عوامل ساعدت في إعادة الإيرانيين إلى عالم الواقع وإدراكهم أن ما يصرحون به شيء والواقع من حولهم شيء آخر مختلف تمامًا،
كما دفع أيضًا وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في وقت لاحق إلى رد التحية بمثلها بالقول عبر “تويتر” بالقول إن “أميركا لا تزال ملتزمة بعدم التصعيد مع إيران”، على رغم توجيه في بداية الأزمة تهديدات عالية النبرة، كتلك التي وردت في مقابلة مع “إيران إنترناشيونال عربي” وأعلن فيها “انتهاء عصر مسايرة أميركا الإرهابيين كسليماني وقواته، الذين يهددون حياة الأميركيين”، وقوله لشبكة “فوكس نيوز أنه “ناقش الضربة التي استهدفت سليماني مع وزير خارجية بريطانيا وعضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني يانغ جيه تشي”. 

السابق
بعد بيان الخارجية.. «الوطني الحر» يزور السفارة الايرانية معزياً
التالي
قضية كارلوس غصن.. هل تفجّر العلاقة بين لبنان واليابان؟