السيد محمد حسن الأمين: الإسلام جاء ليحرر الدين من الدين

هل يمكن إصلاح الدين الإسلامي في ظل دعوات التجديد الديني مع العلم بأنّ الفقه يحتاج للتجديد، والعقيدة، والسيرة، والتاريخ، بشكل نشعر معه باستحالة الإصلاح؟

أنطلق من رؤيتي وفلسفتي الخاصّة في هذا الموضوع التي سبق وذكرتها في جلسات سابقة، نقلها الفيلسوف الإسلامي والشاعر الكبير محمد إقبال، نقلاً عن والده وكان والده عالماً ومجدداً ورآه يقرأ في كتاب الله في القرآن الكريم، فوقف إلى جانبه وقال له: «يا بني إقرأ هذا القرآن وكأنه يتنزّل عليك للتوّ».

وتابع سماحة العلاّمة المفكّر السيد محمد حسن الأمين: شدّتني هذه العبارة لتلخيصها الدقيق للتوجّه الذي يسيطر على تفكيري قبل قراءة العبارة من زمن بعيد، والذي أستطيع أن ألخّصه بالقول: إنّ نص القرآن الكريم ـ بموجب العقيدة الإسلاميّة نفسها ـ هو نص متجدد باستمرار، وإلّا لم يكن النص الأخير الذي يخاطب الله سبحانه وتعالى فيه البشر، فلو أنّ القرآن الكريم يُقرأ مرّة واحدة ويوضع له تفسير حاسم نهائي لا يقبل إعادة النظر على طول الأزمنة لكان القرآن الكريم فَقَد جوهر إعجازه بوصفه كتاباً صالحاً لكلّ زمان ولكلّ مكان، والذي أحسبه أنّ البشرية ـ وبالأخص المسلمين ـ مطالبون دائماً وباستمرار وفق تطور الزمن والحياة والظروف التي يعيشونها أن يعيدوا قراءة النص الديني تحت ضوء المستجدات في الفكر والعقل والاكتشافات والتنوّعات التي تعتري المسيرة البشريّة، ولكن الذي حصل في التاريخ الإسلامي أنّ قرنَين أو ثلاثة، وهي بدايات التاريخ الإسلامي، تمّ فيها التفسير الكامل للنص الديني وبدا الأمر كما لو أنّ الأجيال القادمة باتت أجيالاً مقلّدة وتابعةً لهذا التفسير وللعلوم والمفاهيم التي أرساها ما نسمّيه أو يسمّيه المسلمون بالسلف الصالح.

اقرأ أيضاً: صعود وهبوط مستوى المسلمين.. السيد محمد حسن الأمين: لإعادة الإعتبار للنزعة العقلية في الفكر الإسلامي

وجهة نظري تقول أنّ في هذا تعطيلاً لقوّة النص الديني وقابليّته للتجدد قراءة وتفسيراً، في ضوء المعارف الجديدة والدائمة والمتتابعة التي يرتقي فيها الإنسان من مراحل إلى مراحل أكثر غنىً وتنوّعاً وحاجةً للإبداع الفكري، بل الإبداع على جميع مستويات العقل والحياة.

ولذلك عندما توقف هذا المسار التصاعدي للإبداع والتفكير، واقتصرت الجهود الفكريّة فيما بعد القرن الرابع الهجري على تلقين العلوم والمعارف والتفسيرات التي أنجزها علماء القرون الأولى تحوّلت جهود العلماء فيما بعد إلى إنجاز الحواشي على هذه المؤلّفات الأصيلة ثم التعليق على هذه الحواشي، أي بما يمكنني قوله إنّه نوعٌ من الاجترار بدت فيه محاولات الإبداع لأنها شكل من أشكال البدعة والتمييز واضح بين البدعة والإبداع، حيث البدعة إدخال ما هو غير ذي علاقة في الدين، بينما الإبداع يتعلّق بالقراءة المبدعة للنص الديني، ومثل هذه القراءة يمكنها أن تحقق الغرض من استمراريّة النص الديني والقرآن بصورة خاصّة..

هنا أودّ أن أذكّر أنّ محاولات ليست قليلة جرت في مرحلة العقم الفكري بهدف التجديد والمصالحة بين الحكمة والشّريعة كما يعبّر الفيلسوف الفقيه ابن رشد وتالياً حركات تجديدية نهضويّة في الفكر الإسلامي وصولاً إلى عصر النهضة الحديث، أي إبّان وبعد سقوط الدولة الإسلاميّة العثمانيّة.

ولكن قوّة الجمود والمحافظة وتكريس الفكر السابق الذي جعل منه فكراً مقدّساً حتى وهو يتضمّن الكثير من الأخطاء والانحرافات والخرافات، بحيث أصبحت كل محاولة لإعادة النظر في التراث ومحاولة تجاوزه فيما يجب تجاوزه من هذا التراث، أصبحت في نظر العامّة ومن يجاريها من الخاصّة صورةً من صور البدعة والكفر أحياناً، بمعنى أنّ المجتمع الإسلامي أصبح أسيراً لتصوّرات معيّنة تجاه الدين والكون والحياة والإنسان، وإذا كنتَ تسألني ما هو المنهج الذي يمكّننا من خلاله أن نحدثَ النهضة النوعيّة لمسيرة الإسلام، فإنّني بالإضافة إلى الدعوة للاستفادة من حركات النهضة السابقة؛ أدعو إلى مشروع قد يبدو أكثر جرأة مما يتحمّله الذهن الإسلامي الراهن ـ وخاصّة لدى المؤسسات الدينيّة ـ أدعو إلى التحييد النسبي للتراث العقائدي والفقهي والأدبي، الضاغط على عقولنا والعودة إلى الينابيع، وفقاً لما ذكرته في مطلع الكلام، أن نقرأ القرآن كما لو أنه يتنزّل علينا للتو، والسيرة النبويّة كما لو أنّها تكتب اليوم، وأنا على يقينٍ أنّ مساحة التحول والتغيير في الفكر الإسلامي الحديث حينئذٍ ستكون أوسع وأكثر رحابةً وأكثر استجابةً لمواجهة التحديات التي تمليها علينا العصور الراهنة والقادمة.

إنّ فتح أوسع مجال لحريّة البحث والتفكير، ونحن مطالبون بذلك قرآنياً، سوف يكون لها نتائج نوعيّة على إنتاج فكر إسلامي حديث، يكون أكثر اتصالاً بالينابيع الأولى، وأكثر قدرة، على أن نجعل الشعلة المضيئة في التراث الإسلامي مستمرّةً وأن نعاف الرماد حول هذه الشعلة، وبهذا المعنى لا تكون حركة التجديد التي ندعو إليها مقطوعة الصلة بمجمل التراث أو بجميع التراث.

اقرأ أيضاً: مسؤولية نهضة الأمّة مناطة بالمفكّرين والفقهاء وليس بالسلطات

تعقيب:

من وجهة نظري أنّ المجابهة العنيفة لدعوة رسول الله لم يكن مصدرها دعوة النبي للتوحيد فحسب، بل مصدرها هو أنّ هذه الدعوة ستحرر العرب وغيرهم من سطوة الكهنة وما لديهم من امتيازات كبرى يستندون فيها إلى العقائد الدينيّة الفاسدة التي رسّخوها في أذهان شعوبهم، فالنبيّ اعتبر بأنّه جاء لينسف الأديان السائدة، وبهذا المعنى يصبح الإسلام في ذلك العصر دعوة ضدّ الدين، أي الدين السائد. فإذا سألتني عن اليهود والمسيحيّين في ذلك العهد: أليسوا تابعين لأديان سماوية كما اعترف بذلك القرآن الكريم؟

أقول: بلى، ولكن هذه الأديان كانت قد تحوّلت إلى مؤسسات دينيّة محرّفة، وكانت سلطات الكهنة ومصالحهم تتحكم بها، فكأنّ الإسلام جاء ليحرر الدين من الدين، أي يحرّر الدين الحقيقي من الدين السائد، وهذا أصعب ما واجهته دعوة النبي.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج)

السابق
اعترف بانضمامه الى تنظيم ارهابي.. ماذا في التفاصيل؟
التالي
رغبات ومشاعر…