«محاولة متأخرة للبكاء» على وُجوه من المأساة السّورية

غلاف كتاب
في مجموعتها القصصية المحتوية على عشرين قصّة قصيرة، والموسومة بـ"محاولة متأخرة للبكاء"، ترصد الكاتبة السورية زينة حموي، - فنيّاً – مجموعة ملامح من معاناة شعبها ووطنها، وهي ملامح تعكس وجوهاً متعددة ومختلفة، من وجوه مأساة السوريين التي ولَّدتها الحرب الشرسة التي اندلعت داخل سورية منذ عدة سنوات.

وهذه المجموعة القصصية الصادرة مؤخراً (وفي طبعة أولى 2019) عن “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر” (بيروت، الجناح، شارع زاهية سلمان – مبنى مجموعة تحسين الخياط)، يحمل غلافها الأخير شهادتان: الأولى للكاتب والقاصّ المغربي أنيس الرافعي؛ والثانية للأكاديمية والروائية والقاصّة السورية الدكتورة شهلا العجيلي. ومما جاء في شهادة الرافعي: “محاولة متأخرة للبكاء”، موشور سردي “أوبرالي”، تتطايف وتتصادى داخل بوتقته الجهنمية، المصطخبة، موضوعات المرأة والحرب والحب والنزوح والسفر والطفولة والتشدد الديني والكتابة والموت والحياة. وجماع هذه الموضوعات “الدرامية”، التي تقدم نفسها للقائ بوصفها استعارة كبرى عن العطب الذي يمس جوهر الكائن مثل ندبة جرح وجودي طويل الاندمال، قادم من منطقة مخصوصة وغميسة يمكن أن أدعوها بـ”ما تحت شعور الحكي”، وهو توصيف نفسيّ ذو مرجعية “يونغية”، موائم للمكان القاهر والمقهور، الذي يتجسد هنا تحديداً في سورية الشهيدة والشاهدة على ويلات الدمار وقباحات العالم.

اقرأ أيضاً: مارغريت دوراس الدَّاعية إلى تدمير كل ما «يُدمِّر».. المعرفة

ومضمون شهادة العجيلي هو: يرتفع صوت زينة حموي من بين ركام الأغراض المنسية والمتروكة، ويعلو واثقاً فوق الجثث والأجساد المغيّبة في كل الجغرافيا السورية، إنه صوت ناقد يحمل معه كلاً من نبرة الحرب وهمس الحرمان، وينتقل إلى المنافي ليحكي عن انعطاف الرغبات والأحلام، وعن أمراض الجسد وانحرافات القيم التي كشفتها الحرب. تصنع قصص “محاولة متأخرة للبكاء” إطاراً فنياً متماسكاً وفريداً، مشغولاً من الفانتازي والعجيب، والواقعي، بمحمولات ثقافية ثرية، يضم مآسينا الفردية الصغيرة منها والكبيرة، ويستقصي موزاييك المعاناة السورية العتيقة، التي زادتها الحرب وما لحقها من شتات. فداحة ودرامية، ويذكّر دائماً بجرح المرأة التاريخي الذي يبدو بلا ضفاف.
وهنا مقتطف من قصة “لا أرى بحر زكريا”: عام كامل وهم يقتاتون بالهم فيأكلهم التعب. قضوا الثلث الأول من العام في المدينة الرياضية مع مئات النازحين، ثم تمكنوا من استئجار غرفة صغيرة في سوق الصفن، ودبَّر أبو فارس عملاً لدى محمصة في شارع القوتلي، يُلبّي بصعوبة الحدّ الأدنى للعيش.
عام كامل تحوّل فيه فارس من تلميذ في المدرسة إلى “صبي طلبات” يأخذ البيتزا ويعود بالبقشيش. عام واحد كَبُر فيه الولد كثيراً، خطوط الشّارب مسحت ملامحه الطفولية بسرعة وقسوة، ونبتت في قلبه وعقله هموم ومسؤوليات جِسام. نضج فارس إلى الدرجة التي جعلته يرمي حلم البحر في سلة الطفولة ويُغررقِها في أعماق الماضي، ثم يستبدل بكلّ أحلامه أمنية واحدة: العودة!!
عام كامل وهو يحاول إقناع والديه بالعودة إلى حلب، يكرّر اقتراحاته وحساباته مطلع كل فجر: أجرة التاكسي من غرفتهم المستأجرة إلى محطة الباصات، ثم تذكرتين لأبويه فقط، وسيقبل أن يقضي الطريق هو وأخته وقوفاً، ثم أجرة ميكرو يعيدهم إلى بيتهم في جمعية الزهراء. هذا كلّ ما في الأمر. لا يفهم سبب تشدّد أهله في الرفض!

اقرأ أيضاً: «إحكي يا شهرزاد» نسخة.. دريّة فرحات

تبكي أمه كلما عرض شكواه وطلبه، يتعلّل أبوه كل مرة بحجة ما: يتذرّع أولاً بالعمل وبالسلفة التي أخذها من صاحب المحمصة، فهي لم تُسدّد بعد… لن يسرقه. ومرات يؤجّل أبو فارس لأسباب أمنية، فخطّة فارس الطرقية لم تحسب إلا حساب وسيلة النقل، وأسقطت خطورة الحواجز والاشتباكات والخطف والاختفاء والموت المحتمل. وأحياناً يرتبك الأب ويبرطم بكلمات عن الوقت غير المناسب والأخبار التي تصلهم عن بيتهم المدمّر وحبهم المنكوب.
وأحياناً كثيرة، وفي حالات اشتداد النقّ، يزجر الأب ابنه وينهاه عن ذكر الموضوع مرة أخرى… يطبق على البيت حزن ثقيل، وينقبض صدر فارس وأبيه وأمه وأخته بألف غصّة وغصّة.

السابق
ناقلة النفط ستينا إمبيرو غادرت إيران
التالي
فرق التفتيش في وزارة العمل تستكمل مهامها.. إقفال واحد و34 ضبطاً