تركيا تطمس تاريخ الأرمن ثمناً لـ«الصداقة»

اراز بادروس
من نوافل القول عند ذكرى كل مجزرة، من إبادة الأرمن إلى إبادات روندا والبوسنة وكوسوفو، إن السياسيين والمثقفين القيمين على دماء الضحايا، يتعهدون عدم النسيان. إن التذكر أو عدم النسيان هو أقل الايمان، أو فعل الحد الأدنى أمام هول هذه المجازر.

هذه الفكرة أول ما يتسلل إلى الأذهان عند التمعن بالسجال اللبناني مع تركيا على أثر خطاب رئيس الجمهورية ميشال عون في الذكرى الـ99 لتأسيس دولة لبنان الكبير. ذلك أن حدثين بارزين في تاريخ السلطنة العثمانية، انعكسا بشكل جذري على لبنان، ديموغرافياً وسياسياً. الحدث الأول هو المجاعة الكبرى وما صحبها من عنف. هذه المجاعة أطاحت بثلث سكان المتصرفية، أي ما يعادل 250 ألف انسان. هل تتخيلوا معنى أن يختفي ثلث سكان البلد من الوجود، نتيجة سياسات السلطة الحاكمة.
الحدث الثاني هو وفود الناجين الأرمن من المحرقة العثمانية الكبرى عام 1915، إلى لبنان وسوريا. كانت قوافل الموت الأرمنية، كما سُميت حينها، تتجه نحو البادية، ويفر الآلاف منها باتجاه مدينة حلب، ومنها الى لبنان. وصل عشرات آلاف الناجين الأرمن الى لبنان حيث استُقبلوا في مناطق مختلفة، وتشكلت مجتمعاتهم في أنحاء البلاد. لاحقاً، استُكملت هذه الهجرة بآلاف آخرين فروا من تسليم السلطات الفرنسية لسنجق اسكندرون الى الجانب التركي، كي لا يلقوا حتفاً مشابهاً لبقية الأرمن تحت الحكم التركي. ما بين مليون ومليون ونصف أرمني سقطوا في هذه المجازر، ولم ينج سوى القليل. واليوم تريد تركيا منّا، نحن أحفاد الناجين الأرمن أن ننسى. لكن وللتاريخ، لم يكن الأرمن وحدهم ضحايا هذه سياسة الإبادة العثمانية، إذ استهدفت أيضاً الاشوريين والسريان والكلدان في “مذابح سيفكو” التي أودت بحياة نصف مليون انسان أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها.
لم يحصل لبنان على تعويض من الجانب التركي، لا بل لم يُطالب به حتى. والأرمن اليوم شهود على هذا التعنت التركي ازاءهم، إذ تعمل على قمع أي محاولة لتخليد الذكرى في المهجر، وتُواجه بدبلوماسية متعنة أي اعتراف بالمحرقة.
في المقابل، نرى في أوروبا أساليب أخرى في التعاطي مع مثل هذه الجرائم، كما حصل مع ألمانيا التي دفعت تعويضات بالمليارات لضحايا مجازرها بحق الشعوب. وألمانيا لا تعترف فحسب بالمحارق، لكنها أيضاً زرعت الوعي بها في الأجيال المقبلة من خلال برنامج تعليم تقدمي. هكذا تُبنى الأمم، وتُجنّب الأجيال المقبلة ويلات الماضي.
المفارقة هنا أن تركيا لا تكفي بالتعنت فحسب، بل تريد أيضاً منا النسيان. تريد تركيا منا أن ننسى ملايين الضحايا. أي شعب ينسى ضحاياه، ممن قضوا في سياسة تجويع مُفتعلة؟
هذا ثمن كبير لصداقة يبدو أنها من طرف واحد فقط، لبنان، ذلك أن تركيا تبدو المستفيد الأكبر من العلاقات الاقتصادية المتنامية بين البلدين. بيد أن لبنان اليوم يستورد من تركيا منتجات تنافس الى حد كبير المنتجات اللبنانية. وهذه مخاوف سبق أن عبّر عنها الصناعيون، إذ أن تركيا تُنافسهم في عقر دارهم وتحرم السوق اللبنانية مئات وربما آلاف الوظائف. فعلى الرغم من جودة المنتجات الغذائية اللبنانية، تصدّر تركيا منتجات غذائية الى لبنان بقيمة 132 مليون دولار، تشكل ما نسبته 20% من مجمل الصادرات التركية في هذا المجال. كما تصدّر الى لبنان منتجات نسيجية من ملابس وأقمشة بقيمة 115 مليون دولار، ومعادن عادية ومصنوعاتها بقيمة 96 مليون دولار. هذه المنتجات تضرب القدرات اللبنانية.
لا تقتصر العلاقات الاقتصادية بين لبنان وتركيا على التبادل التجاري. بل تتعداها إلى السياحة وقطاعات أخرى. في السياحة، يميل الميزان السياحي بين البلدين لمصلحة تركيا إذ يدخلها سنوياً ما لا يقل عن 250 ألف سائح لبناني، ويرتفع مستوى الإقبال عليها كل سنة.

اقرأ أيضاً: حفيدةُ صدام … إلا البيبسي!

هذه علاقة اقتصادية من المفترض أن تُعطي لبنان كفة أعلى في التعاطي مع الجانب التركي. لكن العكس يحصل. تستفز أنقرة لبنان، ربما لأنها تعرف بأننا شعب لا نجرأ على خلق أزمة معها، رغم كونها المستفيدة الأكبر من هذه العلاقة. ذلك أن وزارة الخارجية التركية لم تجد ضيراً في إدانة تصريحات الرئيس ميشال عون في خصوص الحقبة العثمانية في لبنان، والزج بنفسها في خطاب داخلي لبناني له علاقة بالذكرى المئوية المقبلة لقيام دولة لبنان الكبير.
لهذا السبب، يدين الرئيس اللبناني والطبقة السياسية بمن فيها الأحزاب الأرمنية، لأحفاد الضحايا اللبنانيين ومن ضمنهم الأرمن، بمقاربة مختلفة لهذه القضية. والرد يجب أن يكون عبر إقرار 24 نيسان يوماً وطنياً لإحياء ذكرى مجزرة الأرمن. لن يكون اليوم عُطلة رسمية، كي لا تُضاف أعباء جديدة على هذه الدولة المتهالكة، لكنه سيشهد بعض الحراك الثقافي وربما التربوي لإحياء هذه الذكرى المهمة لقسم ليس باليسير من اللبنانيين. أرمن لبنان يستحقون هذا الاعتراف بمعاناتهم وبقصتهم التأسيسية في هذا البلد، سيما أننا اليوم نتعرض لحملة ممنهجة تستهدف تاريخنا ووجودنا، وتدفع بأبنائنا إلى الهجرة.
إذا كان الرئيس اللبناني فعلاً متمسكاً بترسيخ التنوع في لبنان، والحفاظ عليه من الاندثار، من الضروري أن يُسجل موقفاً في الدفاع عن قسم من أبنائه تعرض أجدادهم للإبادة، وما إنكار الماضي إلا تمهيد لتكراره. وربما من المفيد أيضاً أن تنضم القوى والشخصيات الحقوقية اللبنانية إلى هذا النداء من أجل لبنان، ولأرمنه لأن هناك اليوم من يجرحنا في الصميم. ولأننا تعلمنا من التاريخ وآلامه، يجب أن لا يقف الأرمن وحدهم في مواجهة من يملك القوة لارتكاب الجرائم واخفاء آثارها.

السابق
رئيس دائرة مكافحة تلوُّث البيئة السكنية سابين غصن: وزارة البيئة تُخطط لمواجهة أية أزمة نفايات جديدة
التالي
الحسن تعلن فتح الطريق المجاورة لمبنى الاسكوا