قضم النفوذ الإيراني «بالتقسيط» حتى تحقيق نتائجه

النفوذ الايراني
هل باتت المنطقة في وضع متفجر إثر التهديد الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله بالرد على عمليتي قتل عنصرين للحزب في دمشق والتجسس بطائرات من دون طيار على معقله الأساسي ومسكن معظم قادته الكبار، الضاحية الجنوبية لبيروت؟ علمتنا التجارب إن الإسرائيليين يتعاملون مع أي تهديد يرونه حقيقياً على محمل الجد، فكيف سيتعاملون مع التهديدات الأخيرة؟

لقد تعاملت القيادة الصهيونية منذ بداية الحرب الأهلية السورية مع واقع تزايد نفوذ الحركات الأصولية على حدودها واحتمال أن تُستبدَل بالنظام السوري الذي يحمي حدودها منذ أربعين عاماً، ثم تدخُّل الجانب الإيراني للحد من هذا النفوذ، بمبدأ الصبر والترقب، وفق مبدأ “دع الأعداء يقتل بعضهم بعضاً”، وحين بدأت الصورة تتكشف عن استبدال نفوذ إيراني قوي مصحوب بتزخيم الأرض السورية بالأسلحة الإيرانية الثقيلة بالنفوذ الأصولي، بدأت التحرك نحو الجانب الروسي، فكانت بدايات التعاون الإسرائيلي- الروسي في ما يخص الساحة السورية (بالطبع حدثت لقاءات كثيرة بين الجانبين قبل هذا في مواضيع أخرى مختلفة تخص الطرفين بلغت أحد عشر لقاء) مع لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في موسكو في 27 شباط 2019. الهدف الإسرائيلي الأول من الزيارة عبّر عنه نتنياهو بوضوح 3 مرات، الأولى في رسالة متلفزة إلى الشعب الإسرائيلي عشية سفره إلى موسكو قال فيها: “سترتكز محادثاتنا على التموضع الإيراني في سوريا. نعمل ضد هذا التموضع ونغِير على القواعد الإيرانية وسنواصل العمل ضده. سأبحث هذا الأمر مع الرئيس بوتين. سنواصل العمل إلى أن نُخرج الإيرانيين من سوريا، لأن إيران تهدد بتدمير إسرائيل ولن نسمح لها بالتموضع قريباً من حدودنا”. أما الثانية، فكانت في المؤتمر الصحافي للرئيسين قبيل دخول قاعة الاجتماع، وكان من ضمن ما قال نتنياهو على مسمع من بوتين: “إن الخطر الأكبر على الأمن والاستقرار في المنطقة ينطلق من إيران، وعلينا أن نبذل كل ما في وسعنا من أجل منع تأثير هذا الخطر، وسوف يسرني أن أناقش معكم هذا الموضوع”، أما رد بوتين فتضمن التعليق على كل النقاط التي تناولها نتنياهو في كلمته التمهيدية سوى نقطة الإيرانيين.

اقرأ أيضاً: هل الشّيعة في لبنان مستعدون للحرب؟

موقف بوتين مما دار داخل الاجتماع أوضحه بعده بيان صدر عن “الكرملين” وخلا أيضاً من أي إشارة إلى الإيرانيين، إذ أعلن أن الجانبين بحثا “قضايا التعاون بين البلدين في المجالين التجاري الاقتصادي والإنساني، والملفات الدولية والإقليمية الملحة، وخاصة الوضع في سوريا والتسوية الفلسطينية الإسرائيلية”. أما نتنياهو، الذي أعلن أن محادثاته في الكرملين تُوِّجت بالاتفاق على تشكيل «مجموعة عمل» تهدف إلى إطلاق جهود لخروج كل القوات الأجنبية من سوريا، وأنه أوضح لبوتين “بشكل لا يقبل التأويل أن إسرائيل ستستمر بالعمل عسكرياً ضد إيران على الساحة السورية، على أن يتكفّل خط عسكري ساخن بين إسرائيل وروسيا بالحيلولة دون وقوع أي اشتباك عارض بين البلدين”، فقد نقلت “يديعوت أحرونوت” عن الصحافيين الإسرائيليين الذين رافقوه قولَه لهم إن “مجموعة العمل” هذه سيشارك فيها ممثلو العديد من الدول بهدف دراسة سبل إخراج القوات الأجنبية التي دخلت سوريا بعد الحرب الأهلية ما عدا القوات الروسية، إذ إن وجودها يعود إلى ما قبل اندلاعها. وأضافت الصحيفة أن نتنياهو حصل على انطباع مفاده أن إخراج القوات الإيرانية من سورية بات هدفاً معلناً لروسيا، وأن الرئيس الروسي بات يبدي تفهماً للمسوغات الاستراتيجية الإسرائيلية لعملها العسكري في سورية. وتابعت الصحيفة القول إنه تم إطلاع بوتين وفريقه على معلومات استخبارية إسرائيلية توثق مواطن التواجد العسكري الإيراني في سورية.
أما القناة (13) الإسرائيلية، فقالت إن نتنياهو تمكّن من إقناع بوتين بحق إسرائيل في مواصلة العمل العسكري في سورية بحرية.
وفي حدث للإذاعة الرسمية العبرية، قال وزير “شؤون القدس” المرافق لنتنياهو إلى روسيا زئيف إلكين، إن “ما حققه نتنياهو من إنجازات لصالح إسرائيل عبر توثيق علاقته ببوتين لم يتمكن أي زعيم إسرائيلي قبله من تحقيقها”.
وبعد يوم واحد على اللقاء بين الرجلين، جاء حديث الرئيس الروسي إلى الصحافيين فيً الكرملين ليصدِّق ما ورد في الكلام الإسرائيلي، ومن دون تخصيص الإيرانيين بالذكر دائماً، ومما قاله: «نود تشكيل (مجموعة عمل) تعمل بعد قمع آخر بؤر الإرهاب على التطبيع النهائي للأوضاع: الجمهورية السورية والمعارضة وبلدان المنطقة وجميع المشاركين في الصراع، وهذا مرتبط بسحب كل القوات المسلحة من سوريا” (والجملة الأخيرة ذات أهمية بالغة في كلامه)، مؤكداً أن “هذا الأمر يتوافق تماماً مع الموقف الروسي ونحن تحدثنا عن ذلك مع الرئيس نتنياهو”. وأعاد نتنياهو بعد أسبوع من لقائه بوتين، وخلال جلسة حكومته في 3 آذار، تأكيد ما كان ذكره من الاتفاق على التنسيق العسكري بين الجيشين الروسي والإسرائيلي.
يُذكر في هذا الصدد أن بوتين كان تعهد للرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال قمة هلسنكي في 16 تموز من العام الفائت على “إعطاء أولوية لضمان أمن إسرائيل” وعدم التدخل في الضربات الجوية الإسرائيلية على القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها في سوريا مقابل أن لا تضغط الولايات المتحدة من أجل خلع الأسد ونظامه من الحكم في سوريا (مع ما تأمله من منح الأسد إياها –إذ تم له استعادة الحكم- الحصة الأكبر من كعكة إعمار سوريا)، كما يدلّ الاجتماع الثلاثي لمستشاري الأمن القومي الأميركي جون بولتون والروسي نيكولاي باتروشيف والإسرائيلي مئير بن شبات يومي 24 و25 حزيران/ يونيو 2019 في القدس، أيّما دلالة إلى الأهمية التي باتت يحتلها أمن إسرائيل في إستراتيجية الروس على رغم أن مضمون المحادثات بقي سرياً سوى بعض تسريبات من وسائل إعلام إسرائيلية وغربية تحدثت عن مقايضة النظام السوري بالقوات الإيرانية وميليشياتها، وألا تكون سوريا قاعدة لتهديد جيرانها، وتعزيز الروس رقابتهم على الحدود السورية لتقليص تهريب الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله في لبنان، وحرية إسرائيل في الأجواء السورية، وسحب واشنطن قواتها من شرق سوريا مقابل إبعاد الوجود الإيراني عن الحدود الإسرائيلية 100 كم، تمهيدًا لإنهائه تمامًا.
لقد فتح اجتماع القدس الثلاثي الباب أمام مسار جديد من إدارة الصراع في سوريا، ومن المتوقع أن تستمر روسيا في ضبط الدور العسكري الإيراني والسماح لإسرائيل بحرية العمل هناك على أمل انتزاع موافقة أميركية وإسرائيلية ببقاء النظام السوري، وبذلك تكون إسرائيل قد أمّنت الحرية المطلقة لطيرانها فوق العراق بتسهيل أميركي، وفوق سوريا بتسهيل روسي.
ولكن هل يدلّ التحذير الروسي الأخير (الإثنين 26 آب) من أن العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في سوريا ولبنان قد تتسبب باندلاع حرب واسعة النطاق في الشرق الأوسط، وأنها تثير قلقاً بالغاً، على تبدّل في الموقف الروسي؟ على الأرجح لا، وأن هذه التحذير ما هو إلا تنبيه إلى ضرورة الوصول إلى حل للمسألة السورية وفق الخطة الموضوعة من دون حرب.

اقرأ أيضاً: فائض القوة عند حزب الله والمخاطر التي تواجهه

أما السؤال الأهم المطروح، فإنه هل ستقف إيران مكتوفة اليدين أمام مسلسل إنهاء نفوذها؟ وما الذي تستطيع فعله حيال هذا الأمر؟ هل ستذهب في المواجهة ضد الدول الكبرى منفردة في وقت تضيِّق المقاطعة الاقتصادية الخناق على رقبتها، أم تقرر القيام بخطوة انتحارية بتفجير ساحات نفوذها في وجه هذه الدول؟ أم أنها ستستجيب أخيراً لصوت العقل وتتخلى عن أحلامها الإمبراطورية وتستجيب بهدوء للخطط الغربية للمنطقة مصغية إلى ما قاله الرئيس الاميركي ترامب من فرنسا اليوم إن بلاده “لا تبحث عن تغيير النظام في إيران، بل تريد جعلها دولة ثرية إن رغبت”، مع ما سيستتبع ذلك من أكباش فداء، وعلى الأرجح أن أولها سيكون الحزب الذي كانت له المساهمة الأكبر في تحقيق الحلم الإمبراطوري الإيراني… “حزب الله” اللبناني.
إن الرد الطبيعي في ظل ما ورد في طيات المقال على السؤال الذي طُرح في البداية حول كيفية تعامل إسرائيل مع تهديدات حزب الله الأخيرة، هو استمرارها فعلاً في استراتيجية قضم النفوذ الإيراني بالتقسيط حتى تحقيق نتائجها، مقابل عجز الإيرانيين عن قضم النفوذ الإسرائيلي بالجملة بحرب واسعة يُجمع المراقبون على استحالة قيامها بها.

السابق
بشرى من ندى بستاني لأهالي زغرتا والنبطية
التالي
معركة بأساليب مختلفة بين إسرائيل وحزب الله: لكن ما دور العملاء؟