العلاقات الميدانية بين الأديان

نحن نشعر في هذه المرحلة المتأخرة من تاريخنا أنّ هناك توجّهاً نحو ما يسمى بحوار الأديان، وأعتقد أنّ السبب في ذلك هو أنّ الكثير من المشاكل التي يشهدها الاجتماع البشري سواءً كان في دائرة صغيرة كالوطن أو في دائرة أكبر كالعالم، فإنّ الكثير من هذه الصراعات والمشاكل يعزى فيها الأمر إلى اختلاف الأديان والعقائد، مع أنّنا نلاحظ بصورة شبه مطّردة أنّ جميع الأديان والعقائد تتميّز بأنّها تحضّ على مكارم الأخلاق، وعلى التسامح ومحبّة الآخر، ولا نلاحظ أنّ هناك عقيدة دينيّة تدعو الناس إلى الاختلاف والصراع بسبب اختيار الآخر لدين غير دينها.

يشرح سماحة العلاّمة المفكر السيد محمد حسن الأمين: أننا أمام هذه الحقيقة من حقّنا أن نستنتج أمراً غايةً في الأهميّة، هو أنّ هذه الصراعات الخطيرة ـ والتي نلجأ إلى معالجتها بحوار الأديان ـ ليس منشؤها اختلاف هذه العقائد وهذه الأديان، بل هي صورة من صور الصّراع السياسي والاجتماعي والتزاحم على المكاسب، سواء كانت هذه الصراعات بين الأفراد أو بين الدول، ولكن الإنسان يريد دائماً أن يعطي لرغباته وأهوائه الخاصّة أو رغباته القوميّة والإثنية والعشائريّة والطائفية طابعاً أخلاقياً مقدّساً، فيجعل من اختلاف الدين وكأنه هو السبب في رفض الآخر، بل في الصراع مع الآخر وحذفه ونفيه بحجّة فساد عقيدته الدينيّة.

اقرأ أيضاً: أسلمة العلوم السياسية والاجتماعية

ولذلك ومنذ فترة بعيدة، ومنذ بدأت أُشارك في المؤتمرات التي تختص بالحوار الديني، أو محاولات التقارب الديني والمذهبي، لأنّ مثل هذه الجهود والمؤتمرات لا نفع لها وإنما هي صورة من صور المجاملة، أو هي صورة من صور الجدال التي يطمح فيها أطراف كلٍّ من المذاهب والأديان المحاورة إلى اجتذاب الآخر أو إلى دحر الآخر، ودحر أفكاره ومفاهيمه وتصوّراته الدينيّة.

لذلك اقترحتُ في أحد هذه المؤتمرات أنّ هذا الحوار بدلاً من أن يكون حواراً عقيماً لا يغيّر من عقائد الأطراف، وخاصّة الحوار المذهبي بين الطوائف الإسلاميّة، اقترحتُ أن يستبدل بحوار سياسي اجتماعي يهدف إلى تحديد المشاكل المشتركة بين شعوب الأمّة؛ لأنّنا بذلك سنصل إلى درجة من الوحدة السياسيّة والاجتماعية بسبب اكتشافنا لأنّ الأزمات التي نعيشها متشابهة بل متماثلة، كمشكلة التنمية والحريّة والديمقراطية في عالمنا الإسلامي، أو بين المسلمين وأتباع الأديان الذين يعيشون معهم، ويعانون المشكلات نفسها، الأمر الذي يؤدي إلى تحقيق إنجازٍ كبيرٍ يتمثّل في المناهج المشتركة التي يمكن أن يتفق عليها الجميع لتحقيق التقدّم والنمو في هذه المجتمعات، ويدعوها أكثر فأكثر إلى الترابط والتماسك وصولاً إلى الوحدة لمجابهة التحدّيات التي تواجهها، وإذ ذاك فإنّ العلاقة بين الأطراف سوف تغدو علاقة طبيعيّة وحميميّة ومشتركة.

وفي ظلّ هذه العلاقة الحميمة يمكن ممارسة لون من ألوان الحوار حول الأديان وطبيعتها ومقاصدها وحق الاختلاف في اعتناقها، ولكن ذلك كله في ظلّ علاقات سياسيّة واجتماعية طبيعيّة، لأنّ الأمر ـ كما أشرتُ في البداية ـ كان ولم يزل فارغاً وبدون مضمون، لأنّ المشكلة الحقيقية بين المتحاورين ليس الدين وإنما هو العوامل المسببة للصراع والتناحر السياسي والطائفي كشكل من أشكال الصراعات التي شهدها ويشهدها التاريخ في سبيل المطامع والمصالح التي يريد كل طرف أن يكون هو الأقوى والأقدر والأكثر تحقيقاً لمطامعه وامتيازاته.

اقرأ أيضاً: العلمانيّة المؤمنة

بالخلاصة، فإنّ الأمر كما يبدو لي يظهر أنّ الجهود المبذولة للحوار بين الأديان والمذاهب ليست هي المنهج الذي يوصلنا إلى المقاصد التي تسعى إليها الأمم والشعوب في سبيل التقدّم والرّخاء وتوفير الأجواء الدنيوية السليمة، لكي يمارس فيها الفرد والجماعة عنصر الإيمان والتصعيد الروحي، وتهذيب المشاعر والأخلاق والإيمان الحقيقي بالله سبحانه وتعالى، ولا أحسب على الإطلاق أنّ طرفاً من الأطراف ممكن أن يفرض عقيدته على الآخرين، لا بواسطة القوة ولا بواسطة ما يعتقد أنّه ينطلق من المنطق السليم. فلنتفق على أمور الدنيا ولنعترف باختلاف الأديان وحريّة ممارسة الإنسان لأيّ عقيدة دينيّة شاء، فهذه مسؤولية أمام الله وأمام ضميره، والاختلاف هذا لا يؤثّر على إقامة الاجتماع الإنساني في صيغته الراقية التي تحترم الإنسان، يحترم فيها الإنسان الإنسانَ الآخر وحقّه في الاختلاف.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج)

السابق
بساطة الحياة في قرى منطقة «موكي» في إيران
التالي
الإدعاء على 4 محامين ونقابتهم تعطي الإذن بالملاحقة