وتقهقه وتلوّح لي من ورائي الخمسون

عمر الخمسين
تستيقظ عند الصباح، تلملم جسدك وتنهض، تقف عند المرآة، تلقي التحيّة على نفسك متأففاً من تحوّلات وجهك، تفتقد النضارة، تحدّق بالخطوط المستجدة اسفل عينيك، تدقق في تكاثر الشيب، تحرّك شفتيك يميناً وشمالاً، تغمز بعينك مرّة ومرّتين وثلاث مرّات كالأبله، تعيد لوجهك حركات طفولية فكاهية، تتناول شفرة الحلاقة، تعرف ان عليك تغييرها ولم تغيرها اهمالا وكسلا وبخلاً إذ ما زلت تعتقد بإمكانية صلاحيتها، تجرحك،تدميك، ترميها ، تقتنع فقط اذا توجعت وسال منك الدم ،تتناول فرشاة الاسنان، تظنّ كعادتك السيئة ان بإمكانك انقاذ اسنانك المتضعضعة، ترفع كفّ يدك امام المرآة، تنزل أصبعك الاوسط لتقول لنفسك:

“خذ”.
وتمضي.
تتناول فطورك، تسكب لك زوجتك اللطيفة الشاي، تتأملها، تسأل نفسك لماذا تظلمها، لماذا هي وليست غيرها، كل اللواتي عرفتهن كنّ جميلات وقديرات، تصمت في داخلك، تعالج نفسك كالعادة بفكرة النصيب وقدر الله،تعابير سحرية علاجية.
تخرج الى الشارع حيث المارة مستعجلون، حيث السيارات العتيقة تتزاحم مع صيحات الباعة القدماء العاطلين عن البيع، الجميع هنا يشكو وينوح، يحدثك بائع الخبز عن الموازنة، يخبرك سائق السرفيس عن الاضرابات وعن ثراء نساء الزعماء، تسمع من راديو سيارة الاجرة ان قروض سيدر انقاذية وان صفقة القرن تدميرية وبأنّ الحرب بين ايران والولايات المتحدة الامريكية تأجلت للمرة المئة لغياب المتقاتلين عن الحضور على ارض الجبهة.

اقرأ أيضاً: من أسباب الطلاق في لبنان: راتب الزوجة!

تصل الى مكان عملك، تتبادل وزملاؤك التحية،
تجلس على الكرسي لتتنفس الصعداء، ولتفكرّ.
لست بحاجة لمن يقنعك فانت صاحب فكرة ان لا شيء يقتلك غير علاقات الضرورة ، علاقات الضرورة تحكمك في العمل، تحكمك في السكن، تحكمك في البيت،وفي المُناخ وفي البلاد.
تبتسم لقرارك المجيد يوم بلغت الخمسين من عمرك بأنّك “صفّرت “عدّاد الأهداف، “صفّرت ” بنك الغايات، كل اهدافك صارا اصفاراً بأصفار، يوم قرّرت ان تعيش ما تبقى بما لديك، ان تقول وان تكتب ما تفكّره بشجاعة، ان لا تصفق الا للذي يستحق موقفه التهنئة، ان لا تعاشر الاحمق كي لا يؤذيك إن اراد بك خيرا، ان تبحث عن الابتسامة، عن استنهاض الاغواء والاغراء فيك لعلك تعشق من جديد ولن تعشق فالعشاق كُثُر وقد صادروا دورك الأخير.

بعد الخمسين، “صفّر “بنك الاهداف و”صفّر” العداد ولا تلهث كالكلب خلف وعد بطموح او خلف رزق هارب، إن جاءك الرزق فالحمدلله وإن حضر الطموح امامك فالحمدلله أكثر وأكثر ،أمّا إن ركضا الرزق والطموح ابتعاداً فاتركهما يرحلان، لا يهرول ابن الخمسين كالضبع خلف نعمة هاربة.

اقرأ أيضاً: قراءة في دنيا محمد شامل… هيك عالماشي!

عاد الى البيت، تناول العشاء، توجه الى سريره ليتابع مسلسل الاخبار حيث الممثلين قديرين من رجال السياسة والفن والدين ،يتابع المآسي بتناوله البذورات وعصير الرمان، تذكر، قام نحو المرآة فوق المغسلة، “مضمض” فمه بالماء، نظر الى نفسه في المرآة، غمز بعينه وهَمّ عائداً نحو السرير وإذ به يسمع من وراءه قهقهة عالية، نظر خلفه فإذا به يرى نفسه في المرآة في وضع مخالف لواقع شكله وحركته، رأى شكله رافعاً كفه الأيمن يلوّح له مع إصبع أوسط يشير نحو الاسفل واذ به يسمع قهقهة من جديد وصوتاً ينده له من المرآة:
“خذ”
سأل شكله و نفسه المتداخلان مع المرآة ليشكلوا كينونة غيبية ساخرة من تكون!؟
جاءه الردّ سريعاً:
“نحن سنوات عمرك الخمسون”.

السابق
بولتون يعتقد أن الضغوط على إيران ستدفعها للجلوس إلى مائدة التفاوض
التالي
دار الإفتاء المصري: هذه النسبة من الكحول لا تُسكر!