اللعب على حافّة الهاوية: هكذا بدّدت الطبقةُ الحاكمة أموالَ الخزينة اللبنانية

هلا امون
يوم الخميس الماضي، عقد "لقاء الحقوقيين المستقلين" مؤتمراً، أشار خلاله القاضي "مروان عبود"، رئيس "الهيئة العليا للتأديب"، الى عملية إخفاء المخالفات والإختلاسات الكبيرة في الاموال العمومية التي تحصل في كل الإدارات العامة (المياه، الكهرباء، الجمارك، الضمان الاجتماعي .. الخ) بسبب غياب سلطة الرقابة، وبسبب إنهيار نظام الفصل في الوظائف، حيث اصبح العسكري مديراً عاماً، والقاضي محافظاً أو مستشاراً لوزيرٍ أو لمديرٍ عام.

اعتبر القاضي مروان عبود أن هذه الازدواجية التي لا تراعي الفصل بين العمل التنفيذي والإداري والرقابي، أدت الى نجاة المخالفين من المساءلة والمحاسبة، والى تدمير البنية القانونية للدولة. وبدوره أشار مدير عام “دائرة المناقصات”، الدكتور “جان عليّة”، الى الفساد الهائل الحاصل في إجراء الصفقات العمومية، الذي يبدأ بمرحلة إعداد دفاتر الشروط التي توضع كي تكون ملائمةً لشركةٍ بعينها، ولا تنطبق إلا عليها. وأكد أن 5 % فقط من الصفقات العمومية التي تحصل في كل لبنان، تمرّ عبر إدارة المناقصات، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام التنفيعات والسمسرات وهدر الاموال العمومية.

وتصديقاً لشهادة هذين المسؤولين، فقد شاعت منذ اسابيع، أخبار وتحليلات صحافية وتصريحات سياسيه تتضمن تحذيرات جدّية من انّ لبنان دخل منعطفاً خطيراً، وبات قاب قوسين أو ادنى، من إعلان الإفلاس المالي للدولة. ومصطلح “إفلاس الدولة” يعني عجزها عن الوفاء بالتزاماتها المالية، وعن صرف الرواتب والأجور، وعن تسيير الأمور الاقتصادية والاجتماعية، الذي ينتج عنه انهيار تام للاقتصاد الوطني، وتدهور في الوضع المعيشي، وارتفاع في معدل البطالة، وشيوع حالة من الفوضى الاجتماعيه والسياسية في المجتمع. وبغية خروجها من أزمتها، تلجأ الدولة المفلسة إلى دول صديقة، أو منظمات دولية رسمية، لإقراضها بعض الديون، شرط إجراء إصلاحات جذرية في هيكلية الإدارة، ومكافحة مظاهر الهدر والفساد الماليين. واليونان مثالاً.

وقد أثارت تلك الاخبار، القلق والذعر والهلع في صفوف اللبنانيين، حول الوضع النقدي والمالي والإقتصادي في البلاد، وحول إمكانية إتخاذ الحكومة قراراتٍ موجعة وتدابير قاسية للخروج من الأزمة، تتمثل في فرض ضرائب ورسوم جديدة تطال ذوي الدخل المحدود ، وذلك عند إقرار مشروع قانون الموازنة العامة، الذي يبدو أنه يشهد تبايناً بين القوى السياسية، تجلى في دعوة رئيس الجمهورية “مَن ليس لديه الخبرة لإنهاء الأزمة بسرعة، إلى زيارة بعبدا، و”نحن” نقوم بإنهائها له”!

اقرأ أيضاً: المتسوِّلون في الوسط الشيعي في تزايد

وهناك مَن شكّك في صحة الأخبار التي تنذر بالإفلاس، معتبراً انها تندرج في إطار تبادل الرسائل بين المكونات السياسية للحكومة المختلفة على الملف المالي والموازنة، وملف التعيينات الإدارية في المراكز الشاغرة في الإدارات العامة، وفي مقدمتها تعيينات نوّاب حاكم مصرف لبنان، وشركة “الميدل إيست”، ومرفأ بيروت، وغيرها من التعيينات التي تشهد تجاذبات حادّة بين قوى السلطة. ما يعني أنّ تلك القوى التي تملك أجنداتٍ خاصة، تسعى من خلال ممارسة الضغط النفسي والخطاب التهويلي بالإفلاس، الى تحصين مواقعها وتحقيق مكاسب في الإدارة، قبيل تدفق مليارات مؤتمر “سيدر”.

ومهما تكن حقيقةُ تلك الأخبار عن قرب موعد إعلان إفلاس لبنان، إلا انها كانت فرصةً ذهبية لفتح الأبواب على مصاريعها، لنشر التقارير التي تتحدث عن حجم التهرب الضريبي والهدر المالي ومزاريب الإنفاق العشوائي دون تأمين إيرادات مقابلة، ما أعطى إنطباعاً أنّ صُنّاعَ السياسة المفلسين وطنياً وأخلاقياً وفكرياً، كانوا يمارسون ألاعيبهم السياسية على حافة الهاوية، التي وضعت البلد في النهاية، امام احتمالات السقوط والإفلاس.

وهكذا راح اللبنانيون الخائفون على حاضرهم ومستقبلهم، يتابعون نشرات الأخبار، للاستماع الى حكايات “الف ليلة وليلة” التي تروي قصص فساد ولصوصية طبقتهم السياسية؛ ويلاحقون باهتمامٍ ما تنشره المواقع الاخبارية الالكترونية من إحصاءات وأرقامٍ تكشف النقاب عن فضائح “الثقب الأسود” الذي يبتلع المال العام، وعن مغامرات “علي بابا والأربعين حرامي” بصيغتها اللبنانية الواقعية لا المتخيلة، التي ظهر لهم من خلالها، كيف بددّت عصابةُ السلطة، أموالَ الخزينة يمنةً ويسرةً، على محاسيبها وأزلامها، في ظل إنعدام أليات المحاسبة والمساءلة والمراقبة في “جمهورية الموز” التي استبدّ بها زعماءُ طوائفها، فوضعوا أيديهم على مقدراتها المالية والاقتصادية، وشلوا سلطتها القضائية، وعطّلوا إداراتها ومؤسساتها الرقابية، وتقاسموا وظائفها ومواقعها ومناصبها وصفقاتها وسمسراتها بالعدل والقسطاط، كلٌ في دويلته وطائفته وعائلته وجماعته وتياره السياسي.

ومن تلك الفضائح المالية التي كشفت المستور، تأكد اللبنانيون أنّ سرطان الفساد متفشٍ في كل اوصال الدولة؛ وأنّ خزينة الدولة قد تحولت الى قُربةٍ مثقوبة؛ وأنّ حجم المديونية العامة قد تجاوز 85 مليار دولار (أي بنسبة تعادل 153% الى الناتج المحلي)؛ وأنّ الدين العام يزيد يومياً بمعدل 27 مليار ليرة؛ وأنّ العجز المالي قد بلغ 35%؛ وأنّ نسبة البطالة قد وصلت الى 25 %؛ وأنّ نسبة النمو قد انخفضت الى 1%. وعلى الرغم من كل هذه المؤشرات الخطيرة، فإن اللبنانيين يرون ساستهم، يتلهفون للحصول على المزيد من القروض والديون من المجتمع الدولي، ويتصارعون لينهش كل فريق منهم، ما يمكن نهشه من حصص ومشاريع واستثمارات وعَدَ بها مؤتمرُ “سيدر”.

ولكن أين صُرفت اموال الشعب الفقير على مدى سنوات؟ والى جيوب مَن تحولت ملياراتُ خزينة الدولة؟ وما هي الأسباب التي أدّت الى إفلاس مالية الدولة اللبنانية، ودفعت المسؤولين الى إطلاق النفير العام، بأنه اذا لم تسارع الحكومة الى تبنّي إقرار إصلاحات تقشفية، فإنّ “البلد خربان، وراح يروح من أيدينا، وأنّ الآتي أعظم”؟!

بعد فتح صندوق الفرجة على كل مواقع التواصل الاجتماعي، اكتشف المواطن اللبناني الفقير والمسحوق والذي يدين بالولاء الأعمى لزعيمه، انّ مئات المليارات من ميزانية خزينته تذهب سنوياً على شكل رواتب وتعويضات ومخصصات، الى جيوب النواب والوزراء ورؤساء الجمهورية ومجلسي النواب والوزراة الحاليين والسابقين والمتوفين منذ عشرات السنين. وقد تجاوزت قيمة مجمل هذه الرواتب مئة مليار ليرة سنوياً. وهناك سياسيون يرفعون لواء مكافحة الفساد، ولكنهم يتقاضون أكثر من راتب.

إكتشف أن مئات المليارات تُقدم تنفيعاتٍ على شكل مساعداتٍ ومساهمات الى معاهد تعليمية ومدارس مجانية وجمعيات طبية ورياضية وبيئية وفنية وسياحية أسستها وتديرها زوجات نوابٍ ووزراء ورؤوساء جمهورية (مثلاً يتقاضى مركز سرطان الاطفال الذي تديره زوجة وليد جنبلاط، مليار ليرة سنوياً).

إكتشف أنّ عشرات المليارات تُصرف على سفر الوفود الرسمية للمشاركة في الندوات والمؤتمرات، وعلى إقامتهم في أفخم الفنادق؛ وعلى مواكب المرافقة الفاخرة لأفراد الطبقة السياسية؛ وعلى استئجار مباني الوزارات والإدارات والمؤسسات الرسمية؛ وعلى شراء القرطاسية لها، وتجديد الأثاث فيها سنوياً… الخ.

إكتشف أنّ قيمة النفقات السرية للأجهزة الأمنية تصل الى 47 مليار ليرة سنوياً؛ وأنّ قطاع سكك الحديد المتوقف عن العمل منذ العام 1989 يكلف خزينة الدولة 13 مليار ليرة سنوياً ؛ وأنّ كلفة استئجار مبنى الأسكوا هي 15 مليار ليرة سنوياً؛ وأنّ رواتب المستشارين في الدولة تصل الى 2 مليار و500 مليون ليرة سنوياٌ؛ وأنّ خسائر الخزينة في قطاع الكهرباء المستباح تصل الى 3 آلاف مليار ليرة سنوياً. بالاضافة الى عشرات المليارات من النفقات غير الضرورية التي تذهب سنوياً، الى لجانٍ وهيئاتٍ ونقاباتٍ وإداراتٍ ومجالس لا تعمل ولا تنتج.

أجل، لقد صدمت هذه الإحصاءات والارقام الضوئية، اللبنانيين الذين ارهقتهم الضرائب والفواتير المزدوجة وغلاء اسعار السلع، والذين ناؤوا تحت أثقال تردّي الوضع الاقتصادي والمعيشي. ولكنها في الوقت عينه، جعلتهم يدركون ان حرّاس الهيكل هم لصوصه الذين يتزاحمون ويتنافسون على مراكمة ثرواتهم الفاحشة المسروقة من جيوب الفقراء؛ والذين يوزعون المال العام هدايا ومكافآتٍ وتنفيعاتٍ على بطانتهم وحاشيتهم؛ لتعزيز حضورهم السياسي والحزبي والطائفي في مناطقهم، ولإقناع المواطنين ان لا وجود أو حضور للدولة إلا عبرهم، وانهم صلةُ وصلهم الوحيدة بدولتهم. وهكذا يتساوى حضورها وغيابها في وعيهم ولاوعيهم، ويصبح الزعيم هو مرجعيتهم في التوظيفات والتعيينات والتنمية وتحصيل الحقوق.

اقرأ أيضاً: ما الفرق بين التخفيض أو الاقتطاع من الرواتب؟ ونصائح يونانية للإنقاذ…

لعلّ افضل كلام لوصف فساد الطبقة الحاكمة بلبنان، وفقدان الثقة فيها، هو ما قاله أحد الخبراء في صندوق البنك الدولي الذي واكب مؤتمر باريس 2 و 3 ومؤتمر سيدر: إنّ المجتمع الدولي تعاطى مع لبنان على طريقة التعاطي مع شخصٍ مدمنٍ على الكحول يعِدُ الجميع أنه سيتوقف عن الكحول غداً؛ وانه حتى لو نما الإقتصاد اللبناني بمعدل 10% سنوياً حتى آخر الزمان، فلن يتمكن أحفادُ أحفادِ اللبنانيين من تسديد ديون لبنان!

بعدما أصبح اللبنانيون كالأيتام على موائد اللئام، يستعطون خدمةً او وظيفةً او واسطةً لدخول مستشفى أو مدرسة، لم يعُد لديهم أيّ أمل بالخلاص، سوى بدكّ حصون الفساد والمفسدين، والمطالبة بإستعادة الأموال التي نهبها لصوص الهيكل، ثم الزجّ بهم في السجن. ولكن متى يصبح هذا الإصلاح الجذري ممكناً؟ الجواب: عندما يصير لبنان وطناً لا مزرعة؛ واللبنانيون مواطنين لا رعايا، شعباً لا مجموعة طوائف وقبائل. مع التأكيد أن الإقطاعيات العائلية ومافيات السلطة ومتزعّمي الطوائف ودهاقنة السياسة، سيقاومون حصول أيّ نوع من الاصلاح الحقيقي، بكل ما أوتوا من قدرةٍ على السرقة والنهش والنهب والهدر والكذب.

وأخيراً، لقد صدق القائل: إذا صلح القائدُ والرأس، فمٌن يجرؤ على الفساد؟!

السابق
بولا يعقوبيان: باسيل أداؤه سيء والكهرباء أكبر فضيحة
التالي
لا استثناءات من العقوبات الخاصة بواردات النفط الإيراني قريباً!