ظاهر ريشا

كمال ريشا الصديق.. الأخ.. شاب يغزوه الشيب. ظاهر ريشا الصديق – الأب.. شيخ يدل ما تبقى من شعرات سود في شعره على فتوّة ما، أو مكابرة، أما إذا احتدم الحوار فإن ظاهر ريشا يتفجر شباباً على إيقاع مخزونه الثقافي، فينسيك فارق العمر.. ويجعلك تخاف أن يستولي البياض على شعر كمال لولا أنه مصرّ على الفتوة.. مع الحكمة أردت أن أعزي العائلة من خلال كمال وأهنئها لأنها وفقت إلى أب تغلب الرفقة على أبوته أو تغالبها.
ظاهر ريشا.. في السطر الأول من سيرته المختصرة.. أثار غبطتي باسم والدته : ست الإخوة، وكأن مرعي أباه، قد قرر أن ينصف المرأة قبلنا بأكثر من قرن، أو قرون، فستتها على إخوتها.. لا أعتقد أنه قرأ قاسم أمين وأفكاره المتهم بها الشيخ محمد عبده، في تحرير المرأة، ولو كان اقتصر على قراءة ظاهر النص الإنجيلي ووصايا بولس الرسول، من دون تأويل ضروري.. (الرجل رأس المرأة).. وظاهر القرآن {الرجال قوامون على النساء} قراءة مطلقة أي غير نسبية، ومن دون مراعاة للمتغير في المعارف والحياة، كما يقرأ الحِرْفيون والحَرْفيون الدينيون، وأنا منهم، الذين يصرون على معرفة نمطية أحدية للدين، ويلزمون بها من قد يعرف أكثر منهم ويؤمن بالله أعمق منهم، لأنه مسكون بالسؤال الذي يلد السؤال، وهم نائمون في الأجوبة التي تقفل باب المعرفة.
من أين أتى هذا الوعي، لذاك الجيل، الذي لم يتوفر له أن يقرأ إلا قليلاً من الكتب، ولكنه قرأ الكون الكبير، قراءة مباشرة من حركيته وتجلياته وأحواله.. بين الصحو والمطر، بين الشمس والقمر، وعرف الأرض وعرفته جراء العشرة.. وعاش عطشها وريَّها، خِصْبَها ومَحْلها، شجرَها عارياً ومُزْهراً ومثمراً، وزروعَها خضراء كالرجاء، أو صفراء، كحِليِّ العرائس. وقطف تبغها مائلاً إلى صُفرة في خُضرة ومراً كالصبر.. وذهبياً في آخر الموسم، حلواً كالتين والزبيب.. وقبله وعندما كانت العناقيد تنادي (الكَرَكة) للتقتير والتثليث، لتدب الصهباء في كيان مرعي ريشا وشرايينهوعينيه ولسانه، قياساً على ما كان يحدث لنجله ظاهر، حتى آخر يوم.. ويأتيه صوت ست الإخوة، كالندى.. أو القهوة المرة، فيصحو من سكره، ويتفاداها بأمنية.
” لو أنتِ بكأسي خمرته.. وأنا وأُراقُ أنا.. جَمَمُ “.

اقرأ أيضاً: اللهم عفوك يا كريم.. علي عفانة وآذار المقصوف

هؤلاء.. حرثوا الأرض فحرثتهم، زرعوا فزرعتهم، عشبوها فعشبتهم، حصدوها فحصدتهم، طحنوها وعجنوها، فطحنتهم وعجنتهم، وخبزتهم، ذاقوها، عاقروها، فذاقتهم وعاقرتهم، قداً إلى قد، وكتفاً إلى يد، ومعولاً إلى محراث، وجداً إلى جد، وأباً إلى أم، وعريساً إلى عروس، وراهبة إلى قديس، وحاصدة إلى حاصد.. فتساووا في الأرض، ساوت بينهم الأرض.
يا ظاهر ريشا.. يا شاهد الشوق وجريح الخيبة.. لم تعد الأرض وسيلة عيش وحياة واجتماع وإنتاج.. لم تعد لها مواسم ومواعيد وأعياد، تلزمنا بالمصالحةوالعونة.. صارت عقاراً يباع على الخارطة، في المحكمة أو مكاتب الأحزاب والزعماء.. وهذا ليس حنيناً مرضياً زراعياً إلى زمن البعل والبلدي.. ولكن المعمل والطبقة العاملة قناة التغيير والتقدم والعدالة، لم تأتِ، كما وعدوك في الكتب. ولم تأتِ الدولة، بما هي مدينة تجمع المختلفين.. فمن يجمعنا ويساوي بيننا يابن ست الإخوة ! وهل نحلم بمنعهم يوماً عن استخدام الله الواحد.. السلام، المحبة، في التجزئة والفتنة والحرب والكراهية!!!
يا ظاهر. لقد تقدمنا كثيراً على طرق يُعبّدها الآخرون، ونملؤها بالحفر والمطبات.. وست الإخوة، المرأة، نصف الدنيا الأخصب والأجمل.. ونصف الآخرة أو أكثر.. ما زالت أشبه بالأمة أو الجارية، وما زال مقعدها في آخر القاعة، فإن تقدمت في مجلس النواب ففي ظل الذكر.. وريثما يأتي الذكر لتعيد إليه مقعده.. وها نحن.. مساجدنا وكنائسنا أكثر أو أكبر أو أفخم أو أنظم من جامعاتنا.. ومشايخنا أكثر عدداً من حروف القرآن والإنجيل وأعمال الرسل، وصلواتنا أطول من بال القديسين وأقطاب الصوفية. والدين قليل.. أعني الحب.. “وهل الدين إلا الحب ! “.
والمتدينون الذين يحتلون الصورة، كما قال الحسين عندما بلغته خيانة الجماهير “الناس عبيد الدنيا والدين لَعَقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم، فمتى مُحِصّوا بالبلاء قلّ الدَيّانون “.
يقول جلال الدين الرومي :” ليس للدين رائحة.. فهو سر مكتوم في مئة غلاف”.
وأنا أقول لكم : إن كفريات ظاهر ريشا اللفظية، والتي أمطرني بها ذات مساء، في دار فرح العطاء في كفيفان، بحضور المعلم دميانوس، صديق ظاهر ريشا، واعتراضاته الصامتة.. كفريات ظاهر أقرب إلى الله أو إلى قلب الله، من أكثر تلاوات من يتبتلون في النهار، ويقتتلون في الليل.
وكان جسده الضئيل يختلج وكأنه فرخ حمام مذبوح، يذبحه قلق فلسفي أذاب شحمه ولحمه، حتى بدا وكأنه لا يأكل إلا قمحاً وعشباً مسلوقاً في آنية كمال جنبلاط، مع فارق أن جنبلاط كان يرخي عينيه في صدره، أما ظاهر ريشا فكان عقله في عينيه، ولذلك كانتا تبحلقان كثيراً.. أما قلبه، فلم يكن يقيم في مكان واحد.. كان يتقن الحب ويبحث عن أحبة.. أما أنه تقدمي اشتراكي وفي التأسيس، فهذا يعني أنه عَبَر الجغرافيا والتاريخ والدين والمذهب بلا جفاء أو بغضاء.. بحثاً عن الحق والحقيقة.
وما هو الحق يا ظاهر.. يقول ظاهر : لم أصل.. وعرفت الباطل، عرفت ما لا أريد.. أما ما أريد فلا أظن أني سأعرفه كاملاً.. أو وحدي.
حسناً.. والحقيقة.. قال : عندي حبة منها أو حفنة، وإن لم يحاورني أحد أو كثيرون فيها، فسوف أنساها أو أبددها.. بالحوار وحده تصبح الحبة قبة.. وبشروا أهل القطيعة بمزيد من الجهل.
أثار ظاهر ريشا فيّ أسئلة وهواجس، لو كنت واجهتها في مقتبل عمري لأصبحت علاّمة عصري. أرهقني في ساعة كانت دهراً.. حتى أحسست بالعطش والنعاس.. وتوسلت بعيني المعلم دميانوس ليحررني من شغب هذا المثقف الحامض.
في السطر الثاني من السيرة.. أثار غيرتي.. لأن معلمه هو الخوري طانيوس المنعم.. لقد تعودت في شبابي على التسكع بين مكتبات دمشق، التي أخشى أن نتسكع بين خرائبها ومقابرها بعد أن ينتهي (خريف البطريرك) بطريرك ماركيز.. وعلى رصيف في المرجة وجدت كتيبات للخوري طانيوس ملونة.. تمر بالصهيونية وفلسطين وجذور العيش المشترك في لبنان.
وفي طقس ميلوديا عربية، تتنقل بين الحجاز والنهاوند.. كنت أبحث عن الخوري بين الكلمات.. حتى بدا لي الرجل كتاباً أوسع من كتبه.
وكنت قد عشقت عبد الله العلايلي الشيخ السني الذي عرفني على الحسين، وميشال سليمان الذي هداني إلى نقد الواقعية الاشتراكية الغوغائية عندما ترجم (إرنست فيشر) في (ضرورة الفن) وكنت وما زلت مدهوشاً بأدونيس، محباً لجورج جرداق وعشقه لعلي.. وكان طانيوس المنعم شريكاً لهذه الكوكبة.. ومن هنا أخذت أتسقط أخباره فيتعاظم شوقي لرؤيته.. خاصة عندما اكتشفت أنه جاد في عيشه لوجع الكادحين وعلى غير طريقة أحزابهم.. وقد تفاقم هذا الشوق عندما عرفت أنه يعاني كما أعاني من كونه في قوم ليس منهم، لا يكرههم ولكنهم ممنوعون من محبته، ويخافون على أعناقهم وأرزاقهم التي لا تتأمن إلا بالإذعان.. عوقب.. وعوقبت أقل منه.. لأني بيئتي الدينية فردية جداً لأنها منعت من السلطة وبقيت في نعمة المعارضة التي تتحول الآن إلى سلطة مشوهة. ما يجعلنا لا نتوقع الحرم أو نعيشه، كما عاشه طانيوس المنعم.. ولكنه عوّض عن الحرمان وعالج النبذ بالإقامة في قلب يسوع.. وآلام الخراف الضالة.. ثم رأيته صدفة لدقائق..وكأني رأيت أحد شيوخي. وسرني أن وجدت وجهه أشد سمرة من وجهي، على لمعة كلمعة أوراق التبغ الناضجة، أو القمح البلدي قبيل حصاده. واشتعلت نار الغيرة، التي تحررت منها ثم أشعلها فيَّ تلميذه ظاهر المنعم.
أنا أكره الخمرة، لأن زمان الصحو قليل، وآلامي وأوجاع أهلي وأشواقهم، تحتاج إلى عناية وعناء أشد ويقظة..ولكني لا أكره شاربيها، إن كانوا طالبي نشوة أو نسيان.. وخاصة إذا كانوا نصارى.. بشرط أن لا يهملوا الصحو بين سكر وسكر أو أثناء سكرهم.. حتى لا يخسر لبنان وعياً بمعناه وتشويهات هذا المعنى.. وقد أحببت ظاهر ريشا قبل أن أراه، عندما روى لي ولده الرؤوم كمال، دون أن تحرجه مشيختي.. رواية قارورتين أفرغهما أبوه في جوفه.. ذات أحد.. من دون أن يبخل على نجله بنزر يسير من كنزه الأثير.. ومن دون أن ينبس ببنت شفة.. كأن الخمرة التي تفك أسر عقله وخياله تعقد لسانه. وحسناً تفعل.. فيشع حباً، ويذهب إلى الخيام ملك الخمريات الإلهية، مترجماً للرباعيات.. ولو كنت قرأت الخيام مبكراً لتحصل لدي احتمال بأن تكون الخمرة حلالاً.. أستغفر الله.. ولكنها أقل حرمة من دم الأطفال في ريف دمشق.
ولكن ظاهر ريشا يعتقد أن الخمرة واجب كوني، لأن الجنون هو الحل على مذهب كل المتصوفة.. وقول أدونيس : ” لم يبقَ غير الجنونْ.. هذه ساعة الهتك العظيم أتت.. وخلخلة العقول “.
في هذه الحالات الافتراضية للنشوة الكاشفة يحضرني سعدي الشيرازي:
” أنا سكران وأنت مجنون، فمن يدلنا على البيت إذن “.
تقديري أن البيت يأتي إلينا طوعاً وحباً لأنه مسكون بنا. إن كنا مسكونين به.. أعني الوطن.

اقرأ أيضاً: أنسي.. أنيس أرواحنا..

ويا ظاهر لا تذهب إلى بيتك، لأن أم البنين، زوجتك، كنّة ست الإخوة، لن تكون في انتظارك.. تعال.. إلى الزيتون.. وهموم زارعيه.. وكأني ولدك فقد قضيت في خدمة أهل الزيتون عمراً وتعلمت لغة الزيت. تعال، إلى حقول التبغ ومزارعيه، أهل المر والصبر، لعلك تحلّي ليلة من لياليهم الطويلة.. تعال وأنا في انتظارك حيث ولدتني أمي إلى جانب الشتلة، وعندما عرف المزارعون أصلي الزراعي، نصّبوني شيخاً في انتفاضتهم، لأيام أحبني فيها كمال جنبلاط، كما أحبك، وأنت تخطر بين الحقول ورفوف الكتب.
ظاهر ريشا.. أغبطه وأغار منه.. كما يغار الورد من الغار.. وأحسده.. على دراسته الابتدائية في مدرسة الفرير.. وأنا كانت مدرستي الأولى تشبه الخيمة.. أما على دراسته التكميلية فلا أحسده، لأني مثله، نلت شهادتها مشياً على الأقدام ذهاباً وإياباً ساعة تحت المطر وأياماً تحت الشمس ومن دون ملابس صوفية.. وأحسده على الثانوية، التي نلت شهادتها منتسباً إلى البرنامج السوري (الموحدة) بعد نهاية دراستي في الحوزة.. ولكني لم أنل شهادة البعث ولا أريدها حتى لو تمّ توقيعها أو قبولها أو اعتمادها كمؤهل علمي ديني أو سياسي في الحوزة. وأظن أنه سوف يغار مني على ألمي ورجائي في أن أرى الشعب السوري حراً موحداً بعد ألم كثير وصبر طويل وقصور وتقصير عربي ودولي مرير.. واندحار الاستبداد الديني الفاجع بعد الاستبداد الأسدي المروّع.
سلاماً أيها الأحبة.. سلاماً أيها الموسوعة المختصرة في جسد نحيل وشخص أليف وشريف.

(من كتاب “في وصف الحب والحرب”)

السابق
القضاء اللبناني ينتصر للصهر مجددا في قضية فداء عيتاني
التالي
السيد محمد حسن الأمين مع بعض علماء جبل عامل