السيد محمد حسن الأمين مع بعض علماء جبل عامل

السيد محمد حسن الامين

في البداية أودّ أن أشير إلى حقيقة مؤلمة فيما يتعلّق بتاريخ جبل عامل الذي تتسع فيه مساحات الفراغ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتي لم يتح لها أن تدوّن، وخصوصاً في الفترة التي سبقت العهد العثماني، ربما بمئات السنين وظلت مستمرة لقرون في فترة هذه الامبراطورية باستثناء عدد قليل من المصادر التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
غير أنّ المرحلة الأخيرة من هذا التاريخ وابتداءً من مئتي عام تقريباً توفّرت مصادر ذات أهميّة، وإن تكن غير كافية تماماً لقراءة جادة لهذا التاريخ، وأكثر ما يلفتني في هذه المصادر غياب التاريخ الشامل لهذه المنطقة عندما يتعلق الأمر في المسائل الاجتماعية والاقتصاديّة واقتصارها على التاريخ السياسي لهذه المرحلة.
ولكن قد يكون من حُسن الحظ أو من سوء الحظ أنّ المجال المتصل بالتاريخ العلمي الديني لجبل عامل طغى على بقية الجوانب وأبرز ما أوضحه هذا التاريخ هو نشوء المدارس الدينيّة المتعدّدة في قرى وبلدات جبل عامل والتي بلغت فيها العلوم الدينيّة مكانة مرموقة حتى لتكاد أن تغدو مصدراً شبه كامل لتخريج العلماء والفقهاء دون أن يعني ذلك أنّ كثيراً من خريجي هذه المدارس لم يتجهوا لإكمال علومهم في جامعة النجف الأشرف، ولذلك يمكن القول أنّ نسبة العلماء والفقهاء والمتفقّهين كانت في هذه المرحلة الزمنية نسبةً عالية بالمقارنة مع مساحة جبل عامل الصغيرة وعدد سكانها المحدود والقليل.
لا أجد من الضرورة أن نعود لتأريخ هذه المدارس وهؤلاء العلماء؛ لأنّ أغلبهم ـ إن لم نقل كلهم ـ قد تمّت ترجمتهم في مصادر عديدة أبرزها أمل الآمل وملحقاته، والكتاب المركزي الأهم وهو كتاب أعيان الشيعة، يبقى أن نحاول في هذه المداخلة أن نتكلّم عن المرحلة المعاصرة، والتي تبدأ في نظري من ثلاثة أعلام كبار هم كلٌّ من:
الشيخ حسين مغنية، السيد محسن الأمين، السيّد عبد الحسين شرف الدين، ولكنّني لا يفوتني أن أشير إلى عَلَمٍ كبير سبقهم زمنياً وكان له تأثير كبير في مجال الدّعوة والإصلاح الديني، وهو أستاذ لبعض هؤلاء السالفين عنيتُ به العالم الكبير السيّد علي محمود الأمين الذي كان أحد أهم أساتذة السيد محسن الأمين في النجف الأشرف، ولكن الأجل لم يمهله ليحقق ما كان يعلق عليه من آمال، فهو لم يتجاوز العام الخمسين من عمره، وهو بذلك يشبه عالماً فذاً آخر فقده جبل عامل، وهو في ريعان شبابه وعبقريّته هو العالم المعروف المقدّس الشيخ موسى شرارة مؤسس مدرسة بنت جبيل، والذي توفّي دون الأربعين من عمره.
قلت إنّ هؤلاء العلماء قد ترجم لهم وأمّا من عاصرناهم من علماء جاءوا بعدهم فإني أعتقد أنّ حقّهم في الترجمة وفي الكتابة عنهم كان قليلاً ولا يكفي للتعرف عل شخصيّاتهم وإنجازاتهم باستثناء واحد منهم أتيح له أكبر قدر من التعرّف عليه وعلى إنجازاته، على مساحة لبنان كله وليس جبل عامل فحسب، هو الإمام السيّد موسى الصدر.

اقرأ أيضاً: السيد الأمين.. بين تجربتي «البعث» في العراق وسوريا

لا أستطيع القول بأنّ ثلاثة أو أربعة من هؤلاء العلماء الذين سنتحدث عنهم كانوا هم وحدهم من يستحقّون التنويه بهم، بل ربّما كانت معرفتي الشخصيّة المباشرة بهم هي السبب الذي يدعوني للاقتصار على الكلام عنهم، ولو باختصار.
أحدهم العلّامة المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية، وأختاره في هذا المجال لأنّه كان أبرز علماء جيله في مجال الكتابة والتأليف، والذي اتّسمت كتاباته ومؤلّفاته بعاملَين مميّزين هما من جهة أولى تناوله للموضوعات والمفاهيم الدينيّة بذهنيّة وأسلوب منطقي سهل التناول مميّزاً بقدرته على شرح كثير من المفاهيم المعقّدة في العلوم الشرعيّة، وخاصّة منها الفقه والأصول والتفسير مما جعل كتبه سهلة التناول لدى طبقة واسعة من القرّاء الذين لم يقتصروا على نخبة محددة، وكان لهذا العنصر دوره المميز في نشر الثقافة الإسلاميّة عموماً على مستوى الأقطار العربيّة والإسلاميّة.
والعنصر الثاني المميّز في فكره الإسلامي هو درجة عالية من الجرأة في طرح الأفكار التي لا تتلاءم أحياناً مع ما هو شائع سواء بين العلماء أو مع القراء الذين وجدوا في أفكاره أحياناً إجابة عن أسئلة حائزة، وبهذا المعنى يمكن اعتباره أحد الممهدين لما يمكن تسميته بالفكر الإسلامي الحديث. أكتفي بهذا القدر، لأنّني لست في صدد الترجمة لحياته ولسلوكه الشخصي وإن يكن لا بدّ من الإشارة إلى رفعة سلوكه وترفعه عن صغائر الأمور.
ثمّة عالم جايل الشّيخ مغنية وزامله، وهو العلّامة الشيخ عبد الله نعمة الذي يمكنني بالنظر إلى معايشته فترة طويلة خصوصاً في أثناء عملنا القضائي حيث كان رئيساً للمحكمة الجعفرية العليا.. ويمكنني القول أنّه كان أيضاً من العلماء الذين تميّزوا بموهبة الكتابة والتأليف في مجالات متعددة والتي كانت تتّسم ـ أيضاً ـ بطابع التجديد مستندة إلى التعرف العلمي الواسع على المذاهب والاتجاهات الفكريّة المعاصرة وقد تجلّى ذلك في كتابَين أساسيّين من كتبه، هما: كتاب عقيدتنا، وكتاب فلاسفة الشيعة. وربما لسبب اهتمامه بالشأن الفلسفي كان نصّه الأدبي والديني يتّسم بالعمق والرحابة فضلاً عن كونه فقيهاً مجتهداً ذا عمق ورحابة أيضاً في اجتهاداته الفقهيّة، ولا أنسى أن أشير إلى جانب آخر بالغ الأهميّة في شخصيّته الفكريّة والأدبية فقد كان شاعراً مجيداً، بالرّغم من أنّه لم ينشر شعره إلّا القليل منه، وذلك في مجلة العرفان في سنوات الخمسينات وما قبلها. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ موقعه في القضاء الجعفري كان موقع القاضي المميّز والذي يمكن تشبيهه بقضاة السلف الصالح، علماً وتقوى ونزاهة.
أضيف إلى هذين العلَمين زميلاً لهما وحسب معلوماتي أنهم كانوا ثلاثياً متشابهاً وتربط بينهم صداقة وعلاقة علميّة منذ وجودهم لطلب العلم في النجف الأشرف، وهم الثلاثة التحقوا بالقضاء الجعفري في لبنان.
وأعتقد أنّ الدافع الأساسي كان هو رغبة كلّ منهم للتفرغ للشؤون العلميّة والفكريّة والتأليف، ولعلّ سمة السيّد هاشم معروف الأساسيّة فيه هو انصرافه بدرجة متقدّمة إلى الأبحاث التاريخيّة، فقد كان مؤرخاً جاداً، مضافاً إلى مؤلّفاته الفقهيّة، فقد كان فقيهاً حصيفاً، وربما كان أبرز الفقهاء الذين اشتغلوا على موضوع الفقه المقارن، أي الفقه الإسلامي والفقه المدني وباتت آراؤه في هذا المجال مرجعاً لكثير من المحامين والقضاة والمعنيين بالتعرّف على أحكام الفقه الجعفري مقارنة بالقوانين المدنيّة المعمول بها في المحاكم المدنيّة والمطلوبة في كليات الحقوق في الجامعات الرسمية والخاصّة.

اقرأ أيضاً: علاقة العلاّمة الأمين مع اليسار

كان شخصه يتّسم بالجد والنزاهة والعزوف عن طلب الشهرة، مستغرقاً حتى آخر حياته بالبحث والتأليف، وتتّسم بعض مؤلّفاته ككتاب: الموضوعات.. بالتصدي للأحاديث المزيّفة والموضوعة والتي يأخذها الكثيرون، ويحملونها على محمل الصحّة، وكان في فكره وقلمه عدواً لكل أشكال الغلوّ، ووفق إلى تنقية التشيّع عقيدة وشريعة من الكثير من الموضوعات المدسوسة، وإلى جلاء العقيدة الشيعية بصورتها النقية وأحكامها الفقهية المستندة إلى المنطق الحصيف، والمستلهم من مناهج النبيw والأئمةi.
ولا ننسى أنّه كتب تاريخ الأئمة الاثني عشرi، بما جعل من كتابه هذا مصدراً موثوقاً للوقوف على حياة هؤلاء الأئمة وعلومهم وأحكامهم في الفقه والعقائد.
أعود إلى ما بدأت به، للقول بأنّ هذه النماذج الثلاثة لا تختصر جميع من عاشوا في عصرهم، وكان لبعضهم من المكانة العلمية والاجتماعيّة والفقهية ما لا يقل عنهم، بل ثمّة من الفقهاء ما لا يسعنا في هذه العجالة أن نؤدي لهم بعض حقوقهم وما يستحقّون من الإكبار والإجلال في الأدوار التي أنجزوها فشكّلوا مراجع موثوقة وعادلة ومحل إكبار وطاعة طوعية من قبل الناس لأحكامهم وتوجيهاتهم، فضلاً عن زهدهم وعزوفهم عن كلّ ما فيه شبهة للسعي نحو الشهرة والوجاهة.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج العاملي)

السابق
ظاهر ريشا
التالي
«كهرباء زحلة» بين آمال الخصخصة وتهديدات العتمة