المدينة وأهلها ليالي الأنس في فيينا

في كل سفرة ننشغل مجدداً لأيام، بالمقارنة بين البلد الذي نزوره، وبين بلدنا لبنان، والبلدان العربية الشقيقة والإسلامية الصديقة، والآسيوية البعيدة والقريبة، على ما يصفها ويختلف في وصفها زائروها، من كورية الجنوبية (طبعاً) إلى اليابان إلى ماليزيا، فأكون قد ذكرت من هذه الدول الآسيوية أفضلها صورة حسب الشهادات، ومن دون أن أتورط في احتمال أن يكون الوضع في كوريا الشمالية محبباً، إلا إذا كفّ حاكمها الملهم عن اغتيال إرادة شعبها السجين، ورغبته في التعبير عن أفكاره وأوجاعه وأحلامه وأخلاقه، ودائماً، أو أكثر الأحيان نرى فرقاً كبيراً بين أوروبا المدينة وأهلها، وبيننا (مدناً وأهلاً مع محبتي واحترامي) ولكن هذا الفرق يقل كثيراً في تصورنا الذي قد لا يكون دقيقاً، بين تركية العلمانية المتزمتة في علمانيتها، على مستوى الدولة، سابقاً، أو بين تركية العلمانية على إسلامية، على مغالبة بين الأمرين نرجو أن لا ينتهي إلى غلبة كاسحة لأيهما على الآخر، حتى لا تقع هذه الدولة العريقة والضرورية لنا، على إشكاليتها، في التزمت العلماني أو الديني. ما يعني أن الإدارة والتدبير ونظم الحياة، قد ارتقت بالقابلية والقبول الشعبي والفوائد المجتناة، إلى ثقافة عامة يفترض أن يكون وراءها أو أمامها قانون ناظم ومرعي بنسبة كافية لدى الدولة، بحيث يصبح القانون مصدر طمأنينة للشعب الذي يجد نفسه معنياً وراغباً بالحفاظ عليه، وإن خالفه أحياناً قليلة أو كثيرة، فإنه يبقى موافقاً على مرجعيته.. ويقل الفرق أكثر بالمقارنة مع إيران، التي يكتشف من زارها قبل الثورة وبعدها، أن خللاً طفيفاً حدث بعد الثورة، ولمدة وجيزة، ثم حدث ثانية في السنوات الأولى للحرب مع العراق، في التزام السلطة والمواطنين بالقانون (خارج المجال السياسي)، لتعود الأمور بعد نهاية الحرب، إلى نصابها مع تراجعات كبيرة أو محدودة كانت وتبقى متوقعة، باعتبار أن الشعوب وحكامها ليسوا معصومين، وعندما يستشعر الحاكم أنه عادل تماماً، يبدأ انحداره نحو الجور، فإذا ما اعتقد بالعصمة أصبح جائراً بقول مطلق وأصبحت الولاية استيلاء. والخلاصة أن من يقرأ المشهد العام واليومي في إيران، يكتشف أن الثقافة التعددية المركبة من الموروث الفارسي القديم والتركي الإضافي إضافة إلى العربي الواسع والكردي، هي السبب الأول للحيوية الفائضة في سلوك وأنظمة علائق وحياة ووعي الشعب الإيراني المتقدم دائماً على دولته حتى لو كانت متقدمة، إلى نسق أو أنساق عمرانية جامعة بين الحداثة والتقليد في مظهرها، وفي التقسيم اللطيف لوظائفها الداخلية، وفي احتلال جنائن الورد للفسحة بين عمارة وأخرى، إلى ازدهار هذه الجنائن في مدن كثيرة، أكثر من العادة في طهران وغيرها، إلى العلاقة التفصيلية بالورود البرية خاصة، زهرة (لاله) التي يتلخص فيها معنى (النوروز) أي اليوم الجديد، أي الواحد والعشرون من آذار، بداية السنة الشمسية الإيرانية (في إيران ثلاث روزنامات هجرية شمسية وميلادية وهجرية قمرية).. إلى العباءة السوداء التي لا تعني كما أصبحت تعني لدى المقلدين في الشكل وفي لبنان خاصة، من استحكام الحزن حتى البؤس المقيم في الروح والجسد، ولا كما تعني في بلاد عربية أخرى من حجب للمرأة عن الحياة، أو تهميش لها، ولا يسمح الذوق النسائي الإيراني الرفيع، والمتأتي من جمع راق بين كل ما يخص المرأة في الموروث وفي الشرع وفي الحداثة، وتحويله إلى حيز تحتله المرأة براحة تامة، ويجعلها إلى جانب الشباب، أي الطالعين لتوهم من أحضان أمهاتهم، مصدرين دائمين غزيرين للحيوية والمتعة بالحياة والفن والعمران والقانون والجهوزية الدائمة للموالاة على أساس الإنجازات والاعتراضات على أساس المخالفات.

اقرأ أيضاً: رسالة إلى الحجر والبشر

وإذا ما شرعنا في التحليل، من دون عقد لإيجابياتنا المهددة بالتراجع، والتناقص والتشوه، بسبب غياب الدولة وامتهان القانون والعودة المرضية إلى حضن الطائفة أو المذهب وإغلاقه على المتمذهبين، والاستقالة من الشراكة، التي وحدها الكفيلة بإنتاج المعرفة البانية والغنية المغنية، وترجيح الرديء الثقافي ونشره، والإلحاح عليه، لأنه يناسب الكسل والبطالة وتبادل الكراهة، ولا يحتاج إلى شراكة ولا يطمح لها. إذا حللنا وعللنا إذن، نظلم الدين أو المذهب الديني إذا اعتبرناه مسؤولاً عن هذه الحال وهذا المآل، إلا لدى من يصرّون على التخلف وإلغاء الآخر، ويقرؤون ظاهر النصوص الدينية بما يلائم رغباتهم العدوانية أو الانتحارية، متجاهلين عمداً سعة المساحة التأويلية العظيمة في النص الديني المظلوم والمتهم بالظلم.
ولا يمكن إضافة كل إيجابيات الغرب إلى العلمنة، لأن العلمنة ليس بإمكانها، أن تأتي بالأمور من الفراغ، وقصاراها أن تتيح للمحمولات الشعبية والفردية الحضارية أن تظهر وتنمو بالقانون، وقد يحدث أن تصبح العلمانية شمولية، فتمد يدها إلى القانون، ولكن الشعوب المعتادة على القانون تعترض، وإن وافق البعض لعلة فيه.. وتكون المدارس الرهبانية في فرنسا أكبر وأشد المعترضين على الجانب الظالم وغير الإنساني وغير العلماني، في قانون الحجاب قبل سنوات.. وعليه فإن الانتظام الشعبي أو اختراق الشعب للنظم بما فيها نظام القيم، لا يجوز نسبتهما إلى الحكام وحدهم، من دون إعفاء لأي طبقة حاكمة في أي بلد في العالم من المسؤولية الكبيرة أو الصغيرة عن الخلل الذي يحدث، خاصة في مجال تملص أهل السلطة من الالتزام بالقانون، والمخالفة العلنية الجارحة والوقحة له، وإغراء أهل الشر المبيت أو الخير الهش، بالمخالفة التي تصبح وكأنها من معززات الشعور بالذات.. وماذا لو أن شعب مصر البالغ اللطف والقهر والحرمان، استقر في حضن القانون وحمايته، واستمتع بنيله وحريته، خيراً يربو على العدالة ويتضاءل بالفساد ؟ أرجو أن لا أكون في ما قلت وسوف أقول في هذه المقالة، متجنياً على أهلية واستعداد شعوبنا للانتظام، والحرص على كل مصادر ومظاهر الجمال في الحياة والطبيعة والسلوك، وأنا أتذكر ما كتبه (دومينيك شوفاليه) عن قرطبة ونظام عمرانها وتفاصيل الحياة الهادئة والهانئة، وأدب الناس فيها، واحتشاد الفكر التوحيدي الإبراهيمي (الإسلامي والمسيحي واليهودي) في معاهدها حيث تزدهر الشراكة في إنتاج الفن والمعرفة.. حتى سماها (روجيه غارودي) في كتاب له عنها (عاصمة الروح).. لست متحمساً إلى بدايات الوصول إلى الأندلس، ولكني محب للثمرة الحضارية، التي ضيعها الجور والجهل والاستبداد بعدما استنبتتها المعرفة وسقاها الفن.
إذن ماذا ؟ وأين نلتمس العلل والأسباب ؟ يمكن أن نذهب إلى المورثات، حيث يقول عدد محترم من علماء النفس بأن السلوكيات والاستجابات الذهنية للأحداث والوقائع والنظم، إذا تطاول الزمن عليها، وهي مستقرة في حياة شعب من الشعوب تدخل في الجينات، وتصبح مورثات، كما لو كانت مكونات أولية وأصيلة في البنية النفسية والذهنية والمنظومة القيمية لدى الجماعة وأفرادها، من هنا يمكن الاعتماد على الأصول السلالية بنسبة عالية، في تفسير السلوكيات، يُراجَع هنا (إشلي مونتاكو) في دراساته المعمقة لطبيعة الفرد البيولوجية الاجتماعية. وعليه فإن بإمكاننا أن نعتبر أن الانتظام الغالب على سلوك المثالين التركي والإيراني هو معطى من معطيات الأصل الآري أو الهندوروبي، في حين أننا نحن العرب آتون من الصحارى، حيث الهجير والصهد الذي يعقبه صقيع وزمهرير من دون مطر أو مع مطر قليل بالكاد يسقي الشيح والقيسوم وأشواك حسك السعدان، ولم نلبث أن أمسكنا وتمكنا من الإسلام كمشروع حضاري وتحضيري ملحّ على المدينة والتمدين، ومحرِّم التعرب أي التصحر أو التبدي بعد الهجرة أي التحضر، لنضع في وجهه العوائق، التي لم تفد في علاج إعاقاتها، الفتوحات المفهومة في عهد الرسول والعهد الراشدي والتي امتدت إلى ما بعد العهد الراشدي استجابة لشهوة القبيلة الحاكمة إلى المال والجاه والتسلط، ما لم يمنع أن ننجز ما نعتز به، من دون قدرة على المحافظة عليه امتداداً حتى الآن، حيث ثرواتنا الطبيعية العظمى لا تنتج إلا فقراً وجهلاً وتخلفاً وكسلاً، وصرفاً للمال في معظمه على الحروب الداخلية، وأعدناه، أي الإسلام، مرغماً إلى سياق القبيلة ونظامها الموروث، وبدل أن يطورها من داخلها كما هو المرجو والممكن، ويتطور معها بالتكييف العميق بين الأصول والمستجدات في الحياة والمعرفة، شاركت القبيلة بأرجحية لصالحها أو انفردت كثيراً، في إعادة إنتاجه على قياسها. بدل أن ينتجها على قياس قيمه ومقاصده، وفي رأسها العقل، أي العلم الذي يتجسد دأباً وحرصاً على حفظ النفوس والأخلاق والثروات، وبعمق العلاقة التبادلية بين الدين والدولة والمجتمع بعيداً عن الخلط العشوائي بينها، وبحرص على إنتاج الثروة بالعلم والعلم بالثروة. تماماً كالذي حصل في الغرب على سوء كثير في مضاعفاته، لا بسبب النهب وحده، لأن الذي تبقى لدينا من الثروات التي تعرضت للنهب هو أضعاف ما نهبه المستعمرون، ولم نفلح في استثماره بل نجحنا في تبديده، ولكن بسبب سوء الإدارة ونظام القيم الذي يرجح الفساد على السداد.. ولم تكن إيران وتركية منذ تأسيس الدولة العثمانية وتأسيس الدولة الصفوية المقارب زمنياً، مثلاً، أكثر اتساقاً بلحاظ النظم لا الوقائع والمجريات الميدانية التي تحققت لصالح التركي أكثر من الإيراني، وكان يمكن أن تكون أكثر لصالح الطرفين، لولا أن الصراع انفجر بينهما في أوائل القرن السادس عشر الميلادي بعدما تبين التعارض بين الطموحات الإمبراطورية القومية لديهما، والتي جعلت كلاً منهما يغطي أهدافه السياسية وصراعه بمذهب من المذاهب الإسلامية (الحنفية في تركية والتشيع الإمامي الاثنا عشري في إيران)، مع ما لزم من فتاوى بالاجتثاث للمعاندين على الجانبين.. ليعود الحال في إيران بقليل من الإيجابية التحضيرية في زمن الأسرة البهلوية والقاجارية قبلها موصولة ببعض المنجزات الصفوية، وفي تركية بعد الحرب الأولى وإقامة الدولة الحديثة، على حساب الخلافة الملغاة، وعلى أساس علمانية ساعدتها على النهوض ووضعتها في سياق شمولي وأيديولوجي ضيق لم يمنعها أن تنجز بناء تركية على مستوى يقترب ولا يصل إلى النموذج الذي تحقق في اليابان بعد الحرب الكونية الثانية..
أما في إيران فقد حصل جمع غير تلفيقي وبإرادة شعبية وذرائعية سلطانية بين الإسلام الشيعي والتراث الفارسي مرة وبين الإسلام والحداثة مرة أخرى، مضافاً إلى ذلك منطق القوة المتحدر من تراث أو تكوين آري، كان مظهره فاقعاً ومدمراً في ألمانيا النازية، وأصبح نموذجياً نهضوياً في ظروف قاسية في ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب الثانية إلى أن انتهى الأمر قبل عقود، إلى توليفة إسلامية حداثوية في إيران، وإسلامية حداثوية أخرى استبقت الضروري من العلمنة أو ما يصعب الخلاص منه سريعاً في تركية.

فإذا قارنا حالنا في عهود الحكام المستبدين الذين أسقطوا أخيراً وما زال بعضهم ينتظر السقوط، مضافاً إليهم القوى التي خلفت بعضهم أو قد تخلف آخرين منهم لا سمح الله، نصبح شبه مضطرين إلى الاعتقاد أو الظن على أقل تقدير، بأن هناك فرقاً تكوينياً بين العرب وغيرهم، وإذا ما كنا نحاول إيجاد المبررات أو الأسباب التخفيفية بالقول بأن عقوداً متطاولة من الاستبداد تقضي على أو تقلل من قدرة الشعوب المستبد بها على ممارسة الديموقراطية وتجاوز الماضي إلى الحاضر والمستقبل.. فإن الانفصال السلمي بين تشيكيا وسلوفينيا وسلاسة الانتقال في ألمانيا من التجزئة إلى الوحدة في ظل الليبرالية، وكذلك الهدوء الذي تمّ به التغيير في هنغاريا وغيرها، ما عدا عنف قابل للنسيان في بولونياورومانيا وروسيا، رغم تطاول زمن القمع والمنع والتدمير النفسي والاجتماعي السوفياتي إلى سبعة عقود من الزمن، أمور تسمح لنا بتقوية ظننا بأن الفارق أعمق بكثير من ظواهر الأمور، بحيث إنه يبدو كامناً في الجينيات، ما قد يعني أننا لا بد أن ننتظر طويلاً جداً، حتى نعدل خارطة جيناتنا، من دون داع إلى اليأس.
في عصور بعيدة شهدت أميركا عنفاً حتى الإبادة، ولم يقصر ستالين في الإبادة أيضاً ولكن شأن الشعوب عندما تتمكن هو غير شأن المستبدين.

اقرأ أيضاً: لا فرق بين المسيحي والمسلم إلا في أكل البزاق

ويشدنا في أوروبا دفق الحب نحو الأطفال والعناية بالأمومة والطفولة حتى البلوغ القانوني واستحقاق الحرية التامة، لتتولى الدولة بعد ذلك شأن تنظيم العلم والعمل على صعوبات متصاعدة، لا تأتي من جهة الفساد الذي يحدث ويتلقى العقوبة المناسبة، بل من تعرجات حركة التنمية كثمن اضطراري لتغول رأس المال وفشل اليسار.إلى الرفق بالحيوان، الحقيقي والعمومي والذي نتمنى أن يشمل المشردين وسكان علب السردين والشعوب التي تتعرض إلى الاضطهاد اليومي من أقصى المعمورة إلى أقصاها، مروراً بفلسطين التي لا تساعدنا أوروبا إلا في إعادة إنتاج مآسيها. ونتمنى في داخلنا وفي أحاديث المائدة، أن نضيف شيئاً من إيجابيات أوروبا، كما هي أو معدلة، إلى ما تبقى من إيجابياتنا، ونشغل أنفسنا في البحث عن مدارك في عقيدتنا وشريعتنا وتاريخنا، لتأصيل التفاعل والتواصل، في الحدود التي لا تجردنا من خصائصنا الثابتة أو المرنة، أسوة بأهلنا الذين لم يخسروا ولم يجعلونا نخسر، عندما حولوا بغداد والأندلس إلى جامعة عالمية لإنتاج العلوم والعمران، بالأبواب المفتوحة أمام الكفاءات المسيحية واليهودية والمجوسية والهندوسية واليونانية وغيرها، على شعور لدينا بنقص في الحرية وغياب أو تغييب أو امتهان للقانون، وعدم الإيمان بقوة العلم والعمل وقيمة الوقت والموعد والعقد والهدوء ونظافة الشارع وسلامة البيئة ودور المرأة وجمال التعدد وخفض الأصوات، بسبب اعتبار مسألة حقوق الانسان مزاحاً غربياً لإزعاجنا وتسجيل النقاط علينا وعلى إسلامنا..

(من كتاب “في وصف الحب والحرب” للسيّد هاني فحص)

السابق
الجيش الفرنسي: قواتنا مستعدّة لضرب أهداف في ​سوريا​ إذا استخدمت أسلحة كيميائية في هجوم إدلب
التالي
أبعد من أزمة الحكومة اللبنانية