تعقيباً على مقالات حسن صبرا(1): المؤسسات الدينية غير معصومة وإصلاحها واجب شرعي

لا يمكن لمنصف أن يمرّ مرور الكرام على المقالات المتتالية التي تصدر في مجلة الشراع حول كشف الفساد المستشري على كل الأصعدة، والذي بات يتغلغل في مجتمعنا بشكل مخيف..

كما لا يمكنني كرجل دين لديّ اهتمام بالشأن العام أن لا أحيّ الصديق العزيز الأستاذ حسن صبرا الذي تطرّق لأكثر من مؤسسة دينية شيعية؛ مطالباً بإصلاحها، انطلاقاً من حرصه على المال العام، وعلى ممتلكات الوقف والجمعيات الخيريّة التي ينبغي أن تستفيد منها فئات الفقراء والمعوزين.. بعكس ما هو معمول به راهناً، حيث صُرِف المال الشرعي على بناء “زعامات” دينية شخصية، وبدل أن تصرف الأموال على مستحقيها صارت في الحسابات الخاصّة للبعض، وبات الثراء والفحش المالي سِمة لبعض أقطاب الجسم العلمائي والديني، علماً أن تاريخ الجميع معروف، وكان بعضهم أقصى طموحه “الشبع”.. واليوم في أرصدته الملايين من الدولارات!!

اقرأ أيضاً: الشيخ محمد علي الحاج: الفتاوى لأهل العلم والإجتهاد

ومن ناحية مبدئية، قد لا أتفق مع الأستاذ صبرا بكل ما نشره.. لكن في الوقت عينه لا يمكنني إلا أن أحترمه وأقدره عالياً، حيث إنه صاحب صوت جريء وصادق، ولعلّ مجلّة “الشراع” أضحت الوسيلة الورقية الوحيدة في الإعلام اللبناني التي تضيء على مكامن الخلل في مؤسساتنا الدينية، فضلاً عن المدنية.

أقول هذا في الوقت الذي قد يُشْكل عليَّ فيه البعض – بل بالتأكيد سيشكل بعضهم – بأنه ليس من المناسب أن أقبل بالتعرّض للمؤسسات الدينية، وبأنه من الأنسب عدم “نشر غسيلنا” في الإعلام.. كما يردد كُثر.

وجهة نظر في المقام

وردنا على ذلك في ثلاث نقاط:

أولاً: الأجدى بكم أن تتمتّعوا بالمصداقية والإخلاص والشفافية.. وباحترام الحقوق الشرعية والمال العام قبل انتقاد من يثير قضايا التجاوزات والفساد؛ وتالياً فالخلل في تجاوزاتكم وليس في إشهارها والإعلان عنها، والتواتر بها.
وأمّا للذين لم يشتركوا بالفساد ولكنّهم يطالبوننا بعدم “نشر الغسيل” نقول لهم: لماذا لا تصرفوا جهودكم في محاربة الفاسدين وفي محاولة منعهم من موبقاتهم.. أليس ذلك أنفع وأقرب للتقوى.. بدل أن تنتقدوا من يحارب الفاسدين ويفضحهم؟!

ثانياً: اللجوء للإعلام – بالنسبة لي – في هكذا قضايا هو الخطوة الأخيرة بعد اليأس عن إمكانيّة الإصلاح “سراً”.
فيكون الإعلام أداة ضغط للتراجع في بعض الأحيان، ولكنه في كل الأحيان هو أداة لمعاقبة الجناة، الذين لن يرحمهم التاريخ، كما لن ترحمهم طلائع المصلحين اليافعة والناشئة..
مع تأكيدي على دور الإعلام الإيجابي في الكثير من المواقع؛ فلطالما حفظ الإعلامُ الحقوقَ، وكثيراً ما منع البغاة من الاستمرار ببغيهم، ولطالما أضاء الإعلام على قضايا المضطهدين والمقهورين، بل لطالما ساهم في صناعة أحداث مفصليّة في تاريخ البشرية وحاضرها.. وتالياً فلا يجوز إجحاف حق “الإعلام” لمجرد حصول حالات سيئة محدودة (فلا تزر وازرة وزر أخرى).

ثالثاً: إنّ الطلب بعدم بروز هذه القضايا على الرأي العام فيه انتقاص من حقوق الناس، الذين من حقهم المشروع معرفة مصير الأموال العامة، والحقوق الشرعية، وأوقاف الطائفة.. وتالياً فكل من يطالب بعدم إظهار الوقائع – الإيجابية والسلبية – في مؤسساتنا الدينية هو يمنع حقاً طبيعياً لكل إنسان.

بل هو شريك فعلي عملاً بحديث رسول الله (ص): “الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في فعل إثمان: إثم الرضى، وإثم الفعل”.
وليس أسوأ من إخفاء الحقائق والوقائع الصادقة عن عامّة الناس، مهما كانت جارحة في بعض الأمور.. لكنّ فوائد “الحقيقة الجارحة” أهم لما لها من نتائج ايجابية في نهاية المطاف.

هل المؤسسات الدينية “مقدّسة”؟

ينطلق المجتمع “الديني” من خلفيّة تُحرّم المسّ برجال الدين والمؤسسات الدينية، وكأننا نعتبر أن قداسة الخالق أو المرسلين تنسحب على رجال الدين والمؤسسات الدينية!

والواقع أن رجال الدين شأنهم شأن سواهم من البشر.. كل ما في الأمر أنهم مؤتمنون على القيم والأخلاقيات الدينية، وهذه – القيم والأخلاقيات – تجعلهم أكثر عرضة للمساءلة، ولأن يكونوا تحت سلطة القانون والأنظمة العامة.. ولا ترتب لهم أي ميزة للتفاخر أو التمايز عن بقية الناس.

اقرأ أيضاً: بعد نشر «جنوبية» بيان الشيخ محمد علي الحاج استدرك المجلس الشيعي تقصيره

بل أكثر من ذلك، فيمكن القول بأن الشخص الرسالي مسؤولياته الأخلاقية أكثر شدة من سواه، ومطلوب منه التواضع والزهد، وأن يقدم أنموذجاً في المجتمع، وهذا ما طبّقه الرسول وآل بيته الكرام.. وليس أدل من الحادثة المعروفة عنه ص حينما اقتربت منه الوفاة، فقد جمع الناس وسألهم إذا كان قد أخطأ مع أحدهم، أو أساء إليه، وإذا كان لأحدهم بذمة الرسول أي حق.. كذلك فهو صاحب القول الشهير: “والله لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.

ومن هذا نستنتج منهجية الرسول (ص)، الذي أراد أن يسنّ سنّة في ضرورة محاسبة كبار القوم، والمقدّمين فيهم، وتحديداً مَنْ يتولون المسؤوليّات العامّة، وقد عوّدنا الرسول ص على هذا المنهج في كل مسلكه وسيرته.

هذا ناهيك عن الأدبيات الشرعية والدينية التي تحثّ على المداومة على محاسبة النفس، وأنه “مَنْ حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر” وفقاً لقول علي عليه السلام.

السابق
افتتاح قلعة شعبان على مساحة 5 آلاف متر في خربة سلم
التالي
الحريري لسليماني: إذا خسر البعض في العراق هذا لا يعني أن يعوض خسارته في مكان آخر