رسائل بوتين السورية ومبادرة ماكرون في لبنان

بدأت مرحلة المساومات الدولية والإقليمية على منطقة الشرق الأوسط بملامح تفاهمات واقعية على سورية بعيداً عن أوهام الإنتصار بعدما تم تجنّب سورية الإنهيار. وحصد لبنان تجديد الإهتمام الدولي والإقليمي بمصيره على أساس أن الحفاظ على إستقرار لبنان يتطلب بالضرورة إبلاغ إيران أن قرار اللاعودة إلى الوضع الراهن السابق صارم، وأن السُلّم وُضِعَ أمام “حزب الله” ليهبط بهدوء من نشوة الهيمنة الداخلية والتدخلات في الساحات العربية المختلفة بدءاً باليمن. دولياً، تربّعت روسيا في قيادة ملف سورية نحو التسوية السياسية إنطلاقاً من قمة “سوتشي” التي جمعت الرئيس فلاديمير بوتين بنظيره التركي رجب طيب اردوغان والإيراني حسن روحاني. وإقليمياً، تحركت السعودية بالموازاة والتنسيق مع روسيا بإستضافة أكثر من ١٤٠ شخصية من المعارضة السورية بهدف خروجها في “صفٍ واحد” وتشارك في عملية السلام في جنيف برعاية الأمم المتحدة بهدف إنهاء المأساة السورية. فرنسا كانت اللاعب الدولي الأساسي في احتواء الأزمة اللبنانية عبر معادلة “التريث” في إستقالة رئيس الحكومة سعد الحريري ونسقت ذلك ضمن مبادرة مشتركة مع السعودية ومصر فيما ارسلت إلى إيران رسائل حزم مهمة. أما الولايات المتحدة فإنها لم تكن في الصف الأمامي لهذه التطورات المهمة لكنها كانت حاضرة وداعمة للقيادة الروسية في ملف سورية والقيادة الفرنسية في الملف اللبناني إذ ان تزامنهما ساهم في نقل الحدث من شفير الهاوية إلى خانة النقلة النوعية التي يمكن ان تكون إيجابية على عدة أصعدة.
الحديث الهاتفي الذي اجراه الرئيس فلاديمير بوتين مع نظيره الأميركي الرئيس دونالد ترامب لمدة ساعة أتى بعدما إستقبل بوتين الرئيس السوري بشار الأسد لإبلاغه ان الوقت حان للإنتقال إلى التسوية السياسية وعليه تقديم التنازلات البراجماتية بدلاً من السقوط في أوهام ومطبّات معادلة الهزيمة والإنتصار. ما ذكّر به فلاديمير بوتين، وتباهى، هو ان روسيا حالت دون تقسيم سورية وهي مصّرة على حكومة علمانية، وان تدخلها العسكري وجّه الضربة الحاسمة ضد الإرهاب بجميع تنظماته وليس فقط “داعش”، وانه بتدخله تمكّن من تجنيب سورية الإنهيار. ما تمسك به الرئيس الروسي هو ضرورة انسلاخه ببطء عن شركائه في الحرب السورية مما يتطلب، أولاً، عملية سياسية لا تنطلق من الاصرار على رحيل الأسد وإنما عملية سياسية انتقالية تؤدي، بطبيعتها، إلى إنحسار تسلط حزب “البعث” الحاكم لأن طبيعته الاستفرادية بالحكم لا تتحمل عملية ديموقراطية تعددية في قيادة سورية.
أحد أقطاب إدارة ترامب برّر الموافقة الأميركي على الكف من المطالبة برحيل الأسد بقوله ان الرئيس السابق باراك اوباما هو الذي تبنى ذلك الشعار دون ان ينفذه فعلياً، وان سياسة ترامب هي عدم تبني ذلك الشعار بان على الأسد ان يرحل، وإنما هي التشديد على ضرورة “عزله وزجّه في الزاوية وتحويله إلى شخص منبوذ.” وتابع “يقلقنا جداً تحويل الأسد إلى قائد عادي، ونحن سنصّر على عزله.”
خلاصة القول هذا ان دونالد ترامب وافق فلاديمير بوتين رأيه ان الأسد باقٍ إلى حين الإستطراد في العملية السياسية، وليس في بدايتها. فلاديمير بوتين من جهته تعهّد بعدم اعفاء بشار الأسد من تقديم التنازلات الضرورية ولذلك أعلن في قمة “سوتشي” ان “العملية السياسية لن تكون سهلة وهي تتطلب تنازلات من كل الأطراف، بما في ذلك من جانب الحكومة السورية.”
الرئيس الإيراني حسن روحاني بدوره تحدث بلغة ان الطريق ممهد لتسوية سياسية وقال ان المرحلة “تفتح آفاقاً جديدة لإنهاء الأزمة في سورية.” هذا في الوقت الذي كانت الديبلوماسية السعودية تلعب دورها في الزخم الممتد من المنتجع الروسي على البحر الأسود، حيث انعقدت القمة الروسية – التركية – الإيرانية، إلى الرياض حيث اجتمعت المعارضة السورية من كافة الأطياف السياسية لتوحّد صفها وتشارك في المفاوضات على مصير سورية السياسي. وهذا الزخم رافقته إتصالات لفلاديمير بوتين مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو.
ماذا عن دور إيران في سورية بالذات في المحادثات الهاتفية التي جرت بين ترامب وبوتين؟ مصدر أميركي رسمي مطّلع قال “ان فحوى موقفنا هو ان على إيران ان تقلّص وجودها ونفوذهاDial back في سورية ونحن نعمل مع روسيا لإقناعها بهدف تحقيق تراجع النفوذ والوجود الإيراني في سورية.” فواشنطن تتبنى مبدأ منع إيران من ترسيخ تواجدها في الجغرافيا التي يتم تحريرها من “داعش” انما إستراتيجية إبعادها عن هذه المناطق لا تبدو مكتملة أو حاسمة بعد. وبحسب المصدر، ان الطريق إلى ذلك هو روسيا، اقله في هذه المرحلة، عبر تفاهمات إستراتيجية عنوانها نقل العلاقة الأميركية – الروسية من المواجهة الكلامية والتصعيد الديبلوماسي والسياسي إلى “علاقة ألطف” تُبنى على “الأسس المشتركة”.
إيران تبدو وكأنها تلقّت مختلف المؤشرات على تطويقٍ آتٍ لها فتصرّفت بهدوء وراء الكواليس بغض النظر عن المكابرة والتباهي – على لسان “حزب الله” وغيره – بناءً على الإنتصار في منطقة بوكمال ذات الأهمية المركزية في تشييد الممر الأساسي من طهران إلى بيروت مروراً بالعراق وسورية حيث تواجد قائد ” فيلق القدس” قاسم سليماني في الساحة الحربية إحتفاءً بإمتلاك إيران بوكمال السورية. فالى جانب العزم الأميركي على العزل الاقتصادي لإيران وإنزال العقوبات بامثال “الحرس الثوري” التابع للنظام في إيران وب-“حزب الله” التابع لإيران في لبنان، بدا واضحاً ان أوروبا بدأت تتجاوب مع المطالب الأميركية، بالذات فرنسا التي لمواقفها تأثير الأمر الواقع على القرارات الألمانية في هذا الصدد.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنجز لنفسه هذا الأسبوع الترقّي في مكانته القيادية وقدراته التفاوضية عبر تناوله ملف لبنان ورسائله إلى إيران وإلى السعودية دون ان ينسى التنسيق والتشاور مع أقطاب دولية مثل الولايات المتحدة، وإقليمية مثل مصر، والجهات اللبنانية المعنية وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة.
ما حدث في لبنان ابتداءً من ٤ تشرين الثاني (نوفمبر) حين قدّم سعد الحريري استقالته شفوياً عبر التلفزة من العاصمة السعودية، الرياض، إلى حين عودته في ٢٢ الشهر ذاته إلى بيروت، يوم عيد إستقلال لبنان، ما حدث يمكن ان يتحّول الى أحد أهم المنعطفات في مستقبل لبنان وعلاقاته الإقليمية والدولية. الدخول في التفاصيل يتطلب العديد من الصفحات، لذلك من الأفضل إختصار المرحلة الفائتة للتركيز على تحديات وفرص المرحلة المقبلة.
أولاً: ان رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون في واجهة صناعة مستقبل لبنان اليوم وعلى كتفيه تقع مسؤوليات مصيرية. فهو يستحق كل التقديرعلى تمسكه بالدستور والاجراءات القانونية ورفضه القبول بإستقالة الحريري من الرياض. وهو يستحق الإعتراف له بالقدرة على الإستدراك، كما على التصعيد، مما ترك له فسحة المناورة وفسحة التراجع المدروس. وهو برهن أنه قادر على التأثير على شريكه السياسي “حزب الله” للهبوط تدريجياً من مواقفه الفوقية وتدخلاته الإقليمية. وهو نجح ليس فقط في ضمان عودة الحريري إلى لبنان للإحتفال بيوم الإستقلال وإنما نجاحه الأكبر هو في انخراطه طرفاً في المبادرة الفرنسية – المصرية – السعودية وعنوانها “التريث” في إستقالة الحريري إلى حين إستكمال رئيس الجمهورية مشاوراته وقيادته لحوار ضروري لمعالجة المطالب والخلافات. الآن، ان الرئيس عون مُطالب بألّا يَسمح بالتقاعس ولا بالتحايل من أي طرف كان لأن الخطر ما زال يحدّق بلبنان لطالما لم يثبت جدية التعهدات والإلتزامات. عنوان هذه الجدية واضح وهو: النأي بالنفس فعلاً عبر ضمانات من “حزب الله” بالذات لعدم التدخل في الدول الخليجية واليمن. الرئيس عون مُطالب أيضاً بإصلاح الضرر الذي خلّفه عندما أعلن أن سلاح “حزب الله” باقٍ إلى حين معالجة قضية الشرق الأوسط برمتها، وذلك عبرآليات صارمة للتصحيح وكذلك عبر طرح مستقبل ومصير سلاح “حزب الله” في حوار جدي دون أن يكون سلاح “حزب الله” شرطاً مسبقاً للحوارالآن. بإختصار، ان هذه فرصة لميشال عون ان يتحّول إلى رئيس للجمهورية اللبنانية بصورة قاطعة تزيل عنه الإنتماء إلى فريق وتأخذ به إلى موقع جديد يسجّله له التاريخ، إذا ثابر.
ثانياً: بديهي القول ان هذه فرصة مميزة لسعد الحريري كي يأخذ ما حصده من تفويض شعبي يتعدى الزعامة السنيُة إلى قيادة وطنية عنوانها الدفع إلى الأمام بإصرارعلى تطبيق جدي لمبدأ “النأي بالنفس” والتصدي لمحاولات القفز على ما يعتبره أقطاب ٨ اذار متاحاً في “حائطٍ واطي” يلتزم بحكومة “التسوية”. هذه فرصة للحريري ليوسّع حلقة مستشاريه وليتواصل مع القاعدة الشعبية وليس فقط مع قاعدته السنيّة التي عاد إليها زعيماً قاطعاً. فهو يواجه تحدي بناء حكومة تسوية من نوع آخر، وليس حكومة التسوية التي أفشلت أطرافَها المعتدلة مثل سعد الحريري والتي أصابها الغرور لدرجة الإفتراض أن الوضع القائم المفعم بالشذوذ بات طبيعياً ومقبولاً بإذعان ورضوخ. أمام سعد الحريري فرصة تغيير نفسه ونفض غبار التشكيك بقدراته ليصبح مفاجأة من نوع آخر، وهو قادر ان يفعل لو إتخذ القرار.

إقرأ أيضاً: روسيا تخفّض قواتها في سورية.. فهل سيصمد الاسد؟

ثالثاً: أمام السعودية أيضاً فرصة إعادة الزخم إلى دورها البنّاء في لبنان سيما وإنها شريك في مبادرة “التريث”. تقديم الدعم اللازم إلى سعد الحريري سيزيل بعض من ذلك الإنطباع بأنه كان تحت الإقامة الجبرية في السعودية. فبغض النظر عن صحة الأسر أو إملاء بيان الإستقالة مرغماً، لقد انتفض اللبنانيون ضد فكرة الإذلال وأبلغوا كل المعنيين العزم على رفض الإذعان للإذلال مهما كان ثمنه بالغاً. قد يقول البعض ان هذا هراء وان كارثة إقتصادية ستصيب البلد إذا مانع بغباء، انما هذا لا يفيد الدول الخليجية ولا هو في مصلحتها الإستراتيجية ان يتحوّل لبنان إلى دولة منهارة. لذلك، ان من مصلحة السعودية ان تحمّل الجمهورية اللبنانية مسؤولية ضمان عدم تطاول أحد أقطاب حكومتها على الأمن القومي السعودي، وان تساعد رئيس الجمهورية في الحصول على التعهدات والضمانات بهدوء – بلا ضرورة للتأجيج الإعلامي – لأيّ من يحتاج الهبوط التكتيكي في إستراتيجية إستدراك الأخطاء.
رابعاً: الفرصة متاحة بإمتياز ل”حزب الله” إذا شاء اقتناصها ليقول لللبنانيين أنه إتخذ قراراً يوليهم الأولوية بدلاً من تكليفهم دفع ثمن غالي. فهم ابدوا الإستعداد التام لوضع السِلم الأهلي فوق كل إعتبار. انها فرصة إثبات الإنتماء اللبناني ل”حزب الله” لأن قاعدته الشعبية لبنانية وتريده لبنانياً وتريد الوفاق وليس الحروب بالنيابة. ليس كافياً قول السيد حسن نصرالله أنه لا يبعث السلاح إلى اليمن فيما يعلن ان اليمن أغلى معركة على قلبه. الحاجة هنا إلى نقلة نوعية في التعاطي مع الدول الخليجية والساحات العربية والمعادلة اللبنانية.عدا ذلك يعني ان جميع اللبنانيين سيدفعون ثمن الإستعلاء والعناد.

إقرأ أيضاً: تشدد وليونة ديبلوماسية ماكرون في الشرق الأوسط لسد فراغ غياب أميركا

لقد بدأ الإستدراك ومعه الحاجة إلى الحكمة عند إعادة النظر في الحسابات. بدأ الإدراك بأن التحدث بلغة الإنتصارغير مسموح به بالذات على لسان اللاعبين الإقليميين والمحليين في سورية، والقصد هو بشار الأسد و”الحرس الثوري” و”حزب الله”.
فقادة الدول الكبرى، بالذات روسيا، لا تريد اليوم ان يشاطرها أحد قيادة الملف السوري على أساس الشراكة في الإنتصار، وهي لا تريد التعاطي مع المسألة السورية على أساس معادلة “الهزيمة والإنتصار ” التقليدية. فهي في صدد صياغة علاقاتها الدولية وعلى رأسها العلاقة الأميركية. وهي تريد الإنسحاب عسكرياً من ساحة الحرب السورية لتدير مستقبل البناء والإستقرار هناك وتتهيء للإنتخابات في روسيا.
أما لبنانياً، لعل كل ما حدث بما فيه الأخطاء وإساءة التقدير والتصرف انما هو دفعة مسبقة لمستقبل أفضل بناءً على لجم تدخلات “حزب الله” في الساحات العربية وبدء حديث جدي عن مستقبل سلاحه في لبنان، وبناءً على عزيمة حقيقية لبناء جمهورية جديدة. انما كل ذلك يتطلب ألّا يتشاطر اللبنانيون ويعودون إلى أسراب النعامة التي تدفن الرؤوس في الرمال.

السابق
علي الأمين: حزب الله مطالبٌ بتقديم تنازلات لأجل لبنان
التالي
عقاب صقر: لست من المبعدين من التيار