جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وواقع قواها

جمول

عام 1982 بلغ التصعيد العدواني الإسرائيلي مرحلة جديدة من مراحله، فقامت قوات الغزو، في الكيان الإسرائيلي الغاصب، باحتلال العاصمة اللبنانية بيروت. وفي السادس عشر من أيلول من العام ذاته، انتقل النضال الوطني اللبناني نقلة متقدمة، فأطلق الوطنيون اللبنانيون جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وخاضوا قتالاً ضد الغزاة في شوارع العاصمة المحتلة، وعلى امتداد الجغرافيا اللبنانية التي اجتاحتها قوات العدوان.

لم يكن نداء المقاومة الذي أطلقه الشيوعيون اللبنانيون نصاً غائماً، بل كان سطوراً حيّة وحيوية تضج بزخم الصمود الذي جعل العاصمة بيروت عصيّة على الاجتياح طيلة ثلاثة شهور من حصارها، وكان النص تتويجاً لتاريخ من التصدي المشترك، اللبناني والفلسطيني، امتد منذ أواسط الستينات حتى العقد ما قبل الأخير من القرن العشرين.

اقرأ أيضاً: مجدداً… «النصر» يجثم على مدننا المدمرة

حدَّد الوطنيون اللبنانيون العدو الذي يجب التصويب عليه: العدو الإسرائيلي. ولم يتركوا مجالاً لتسلُّل شبهة الحرب الأهلية إلى مفاصل مهمتهم الوطنية، فأغلقوا الباب على “رياح السموم” التي يمكن أن يستغلها من يريد وصف الحرب الوطنية الجديدة بصفة تمدد زمن الحرب الأهلية بين اللبنانيين، أو تزيد من عقود اشتعالها. كانت دعوة صريحة بادر إليها الشيوعيون اللبنانيون، موجهة إلى كل الشعب، وعلى اختلاف مشارب فئاته، لإعلاء راية الوطنية اللبنانية، ولتقديم مهمة قتال العدو على كل مهمه، ولحجب المبررات عن كل الذين يريدون أن يمكّنوا العدو في الأرض اللبنانية، من خلال إثارة النعرات الطائفية، ومن خلال استمرار النفخ في نيران الحرب الأهلية.

لقد حمل نداء المقاومة الوطنية ثلاثية سياسية واجتماعية جامعة، بحيث كان كل بند فيها شرطاً لاستقامة سير الشرطين الآخرين، أي أن الثلاثية لم تكن عشوائية، ولم تكن استنسابية، بل كانت شعاراً ملموساً يعبِّر عن واقع الحال اللبناني الملموس.

التحرير والتوحيد والديمقراطية، تلك هي ثلاثية المقاومين الوطنيين اللبنانيين، وفي قراءة تسلسل البنود تكمن الأبعاد الوطنية الجامعة، وتكمن في الوقت ذاته المهمات التي يتنكب المقاومون مسؤوليتها، إذ يتنكبون مسؤولية النهوض بالدفاع عن الأرض والشعب، ومسؤولية المبادرة إلى إطلاق الرصاصات “الأولى”، في حرب التحرير الطويلة.

التسلسل مقروءاً: إن التحرير كمهمة أولى، شرطه التوحيد، أي وحدة اللبنانيين حول تعريف العدو بأنه الإسرائيلي الغازي، وشرط الوحدة الديمقراطية، أي قبول التنوع اللبناني وإدارة الاختلاف بين الفئات إدارة رحبة تقوم على الاعتراف والتسوية وبناء عوامل الثقة المجتمعية، في إطار من العلاقات الديمقراطية الحقيقية، أي بعيداً من “التكاذب المشترك” الذي يشكل صفة ملازمة لإدارة العلاقات السياسية. خلاصة الثلاثية المنوّه عنها، ليست أقل من عملية إعادة صياغة الهوية الوطنية اللبنانية، وتبويب المشتركات، وتعريف الاستقلال، وتحديد الكيانية اللبنانية، من خلال عملية مجتمعية طويلة، تتحلق مجموعاتها حول مهمة وطنية جامعة: استرداد الأرض والاستقلال والسيادة والمجتمع، من يد العدو الأول لكل الصيغة اللبنانية، أي العدو الإسرائيلي.

لقد نجحت قوى المقاومة الوطنية في مطلع العام 1985، بفرض الانسحاب على جيش العدو، وتمكنت من تحرير نسبة 85% من الأرض المحتلة، وفق النسبة التي رددها المتابعون، لكن المقاومة الناجحة هذه، سياسياً واجتماعياً وثقافياً ووحدوياً وديمقراطياً، أقلقت قوى الاستبداد العربية وغير العربية، ولكي تظل الأرض اللبنانية ساحة لمصالح غير أبنائها، أستهدفت المقاومة الوطنية المستقلة، وبُعثت مقاومة من صنف آخر، ومن إيديولوجيا مغايرة، ومن مرجعيات سياسية لا مكان فيها لأرجحية الوطنية اللبنانية.

تفرض التطورات كلها، خصوصاً منذ العام 1990 وحتى تاريخه، وقفة مراجعة شاملة، من قبل القوى المقاومة التي أعلنت النداء، وأشعلت في الوقت ذاته الميدان بنيرانها. والسؤال المركزي الأول في وقفة المراجعة هو: لماذا انطفأت أو أُطفئت المقاومة الوطنية، واشتعلت واتسعت نار المقاومة التي نهض بها طيف لبناني من لون اجتماعي واحد، أي لماذا ألغيت “جمول”، وجرى فرض وجود المقاومة الإسلامية؟

بعد هذا السؤال المركزي بمشتقاته، هناك أسئلة فرعية كثيرة منها: ما المسؤولية الذاتية عن وصول دور جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية إلى نقطة الإضمحلال؟ لماذا تراجعت قوى المقاومة الوطنية اجتماعياً، بحيث فقدت وزنها الموروث ضمن حاضنتها الاجتماعية، وعجزت وما زالت عن إعادة بناء هذه الحاضنة، وعن إعادة صياغة مصالحها في برامج محددة واضحة، وبالتالي التحرك عملياً في سبيل تنفيذ هذه البرامج. من دون مواربة، وعلى سبيل المسؤولية المشتركة، يجب القول إن من تبقى من قوى مقاومة تنتسب إلى اليسار، وإلى الشيوعيين تحديداً من ضمن هذا اليسار، هذه القوى لم تتقدم في المعالجة على مختلف جبهات نضالها، يطال ذلك المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية. وبذات الحس من المسؤولية، يجب القول إن واقع ما تبقى من قوى مقاومة معارضة، سمته الأبرز العجز، ومن ملحقات العجز الارتباك والحيرة والتشتت، ومن نتائج كل ذلك حالات من الالتحاق بالقوى السائدة ضمن التشكيلة اللبنانية، والنطق ببعض من أقوالها.

في 16 أيلول 1982، ولأن الحدث ليس نصاً فحسب، تلحّ الدعوة إلى نداء آخر، لا يكون نصاً فحسب، بل دعوة إلى تحرير مختلف، بعدما جرى احتلال لبنان بالفساد وبالتبعية، وبالإفقار وبالظلامية الفكرية، وبكل أنواع التفاهات السياسية. هذه الدعوة ما زال المرشح لإطلاقها من زال حيّاً من قوى النّداء الأول، أي من بين صفوف الشيوعيين واليساريين، الذين ما زالوا يصرون على التمسك بالموقع النضالي الاجتماعي الذي ينتمون إليه، على الرغم من كل الاختلالات والخيبات والأوهام السياسية.

السابق
ماهو سرّ المماطلة والتأجيل في محاكمة الشيخ الأسير؟
التالي
عرسال ٢٠١٤: بانتظار دعم لم يأت