عرسال ٢٠١٤: بانتظار دعم لم يأت

كانت عشر دقائق فقط كافية لانقاذ ارواح العديد من جنود الجيش اللبناني في عرسال العام ٢٠١٤، عشر دقائق كانت كفيلة بمنع تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) من اسر او حتى الانسحاب من مواقع الجيش باسراه، عشر دقائق كانت ستجنب لبنان اعواما من العيش تحت تسلط فكرة الارهاب، والتعيش على الخوف، والتهديد اليومي لاهالي عرسال باجتياح بلدتهم، عشر دقائق كانت كافية لتصل قوة من فوج التدخل من موقعها في الشميس لدعم موقع المهنية في عرسال وتمنع سقوطه، عشر دقائق فقط كانت كافية لتلقم مدفعية الجيش اللبناني في اللبوة بالاحداثيات وتقصف القوات المهاجمية لموقع المهنية حيث ستقع لاحقا مجزرة ويأسر من يأسر من الجيش اللبناني على ايدي داعش.

اقرأ أيضاً: نعم للتحقيق.. لا للتضليل!

عشر دقائق فقط.

العام ٢٠١٣

نسبيا كانت الامور في منطقة عرسال بخير حتى العام ٢٠١٣، هذا ما لا يزال يتذكره العديد من الجنود والضباط في الجيش اللبناني الذين واكبوا تلك الفترة عن كثب.

كانت قوات الجيش اللبناني المتمركزة في المنطقة لا تتعرض لكبير ضغط، اللواء السادس المنتشر يتعامل بهدوء مع المقاتلين السوريين المختلفين، سواء اكانوا من قوات الجيش الحر حينها او غيره من التنظيمات الاسلامية والفصائل المتعددة في المنطقة. كان اللواء السادس وقيادة الجيش اللبناني حريصة على امر واحد فقط: عدم دخول المقاتلين الى عرسال ومحيط عمل الجيش اللبناني بالسلاح. عدا ذلك فان الامور يمكن تسويتها. وهو امر اعتاد عليه المقاتلون السوريون الذين اعتبروا زيارة عائلاتهم في المخيمات المحيطة بعرسال امرا روتينيا متفقا عليه.

المرحلة الصعبة

في تلك المرحلة بدأت اعمال المساعدة من قبل بريطانيا لانشاء ابراج مراقبة حدودية وتعزيز قدرات الجيش اللبناني على ضبط الحدود خاصة في منطقة راس بعبلك، هذا من ناحية، الا ان الناحية الاخرى هي التي ستأتي لاحقا بالنتائج الاصعب، انه قتال حزب الله في الجانب السوري من الحدود.

هذه المرحلة التي يذكرها جيدا رجال دين وابناء البلدة والعديد من السوريين الذين كانوا مشاركين في القتال او الموجودين في المخيمات كلاجئين، تعتبر هي الاصعب بالنسبة للمقاتلين السوريين، لقد خسروا القصير، وتم هزيمة القوات التي تعمل تحت علم الجيش الحر، وبات الاسلاميون المتطرفون من جبهة نصرة وداعش يشكلون بديلا مرغوبا، لقد فشل الجيش الحر والقوات الاسلامية في الحفاظ على القصير ويبرود وغيرها من مناطق القلمون الغربي السورية، وباتت القوات المتمردة تتمركز في الجرود، بينما العائلات نزحت وتشتت ما بين الاراضي اللبنانية والزبداني ومضايا وقرى وادي بردى.

طرح الاسلاميون المتطرفون انفسهم كبديل قادر على الاخذ بالثأر للشعب السوري المطرود من اراضيه بفعل احتلال حزب الله لها. وبدأت عمليات الانتقام تطال اراضي لبنانية.

تركز النزوح السوري في منطقة الملاهي في عرسال، وسهل الرهوة، كما تكثف في محيط بلدة عرسال مباشرة. وحتى تلك اللحظة كان اللواء السادس لا يزال على تكتيكه بعد التعرض للمقاتلين السوريين طالما لم يظهر السلاح معهم، وطالما انهم يدخلون المناطق اللبنانية لزيارة اهاليهم عزلا من السلاح. غير ان تصاعد العمليات الامنية والتفجيرات في لبنان نتيجة مشاركة حزب الله في احتلال القلمون الغربي دفعت الجيش اللبناني الى تعزيز اعماله والتشدد في اجراءاته، التي لم تتعد حتى ذلك الحين التدقيق في المارة، وبعض عمليات المداهمة المحدودة جدا.

حتى شهر اذار من العام ٢٠١٤ كانت قد وقعت ثلاثة تفجيرات في الهرمل، واخرى في الضاحية.

في نهاية شهر اذار تم استهداف حاجز عين عطا بسيارة مفخخة بزنة ١٢٥ كيلوغرام من التي ان تي، وادى ذلك الى مقتل ثلاثة عسكريين وجرح عدد اخر، على الفور بدأت قيادة الجيش بتدابير مشددة وفق ما دعته حينها تعزيز مواقع الجيش في المنقطة.

بدأت عمليات التدقيق في الهويات وخاصة للاجئين السوريين، وكذلك للمواطنين اللبنانيين سيما ان عدد من الانتحاريين استخدم في اوقات سابقة هويات لبنانية مزورة.

استقر اللواء الثامن في عرسال مكان اللواء السادس في ٢٥ من شهر حزيران من العام ٢٠١٤، وكان على رأس قيادة اللواء حينها العميد عبد الكريم هاشم الذي كان مقر قيادته في اللبوة المجاورة.

وضم اللواء المنتشر في اللبوة ومحيطها: كتائب المشاة ٨١، ٨٢، و٨٣، وكتيبة المدرعات ٨٤، وكتيبة المدفعية ٨٥. وطبعا تمركزت كتيبتي المدرعات والمدفعية في سهل اللبوة بينما انتشرت كتائب المشاة ما بين اللبوة (الكتيبة ٨١ وجزء من الكتبية ٨٢) وعرسال.

كانت تتمركز في محيط عرسال الكتيبتان ٨٣ و٨٢، وتنتشر الكتيبة ٨٣ على سبعة مواقع: المهنية وهو موقع القيادة للكتيبة، مدخل عرسال لناحية عين الشعب، وادي الرعيان، عقبة الجرد (عين عطا) موقع سهل الرهوة، مركز الخزان، واخيرا مركز الحصن.

اما الكتيبة ٨٢ فكانت تتمركز حينها في ثلاثة مواقع: المصيدة حيث تنصب حاجزا، وووادي حميد ايضا، وموقع شميس – ضهر الجبل.

كانت المواقع الحدودية هي الاكثر خطورة واحتكاكا مع المقاتلين والمسلحين القادمين من سوريا، والذين باتوا يتمركزون في مناطق من جرود عرسال، واهمها: موقع الحصن وعقبة الجرد ووادي حميد والمصيدة.

تواجد في موقع المهنية في عرسال حيث مقر قيادة الكتيبة ٨٣ ما يقارب ٦٠ عنصرا من الجيش اللبناني، بينما توزع

العناصر الباقون من الكتيبتين ٨٢ و٨٣ بحدود ٢٠ عنصرا في كل من نقاط التمركز. واحتفظت قوات الجيش اللبناني في عرسال بثلاث دبابات فقط في موقع عقبة الجرد، الا ان هذه الدبابات كانت غير قادرة على المناورة من دون مشاركة من ناقلات جند للمواكبة والحماية في المنطقة الجردية الصعبة. وعمليا كانت هذه الدبابات غير قادرة على المشاركة الفعالة في الاشتباكات من دون تنسيق ناري مباشر مع كتائب المشاة وناقلات الجند الموجودة في اللبوة، وبالتالي فان دورها في الاسناد الناري شبه معطل في مواقعها، كما انها غير قادرة طبعا على التدخل في المناطق المبنية دون مشاركة مباشرة من المشاة وناقلات الجند المؤللة.

الانفجار

وبينما يتقاذف السياسيون حاليا المسؤولية عما ال اليه مصير العسكريين الاسرى لدى داعش، ومسؤولة قرار عدم التفاوض في حينه، الا ان جانبا اخر من المسؤولية لم يتم نقاشه، انه الانفجار الناري الذي اشعل كل شيء، وتم تغطيته بحرمة الحديث عن الجيش وعن القوى العسكرية، تاركين الحديث يدور سطحيا عن تحقيقات ستجري لتحديد المسؤوليات دون معرفة ما هي الجوانب التي سيشملها التحقيق، فهل تطال العمليات الميدانية؟ ام فقط مرحلة ما بعد سقوط قتلى الجيش واسراه؟

ويذكر متابعون مختصون ما حصل يومها كالتالي:

الثاني من آب ٢٠١٤، ظهرا يمر عماد جمعة دون سلاح، قائد لواء فجر الاسلام، للمرة الثانية عبر حاجز الجيش في المصيدة مغادرا عرسال بعد ان دخلها قبل يومين للقاء زوجته. هذه المرة لم يترك جمعة ليمر، وتم توقيفه، ونقله مباشرة الى ثكنة ابلح للتحقيق معه.

لم يتأخر رد الفعل، بعد ساعتين من توقيف جمعة بدأ مقاتلون اسلاميون متشددون يطوقون جرود الرهوة والملاهي، وتوافدوا من المناطق الحدودية من الجانب السوري، وأيضاً من جرود بلدة عرسال (الملاهي والرهوة) ومن داخلها كذلك، واتجهوا نحو مواقع الجيش الحدودية، وخاصة نحو الحصن ووادي حميد والمصيدة والخزان وعقبة الجرد، وطوقوا الحصن والمصيدة وأنذروا قيادة الجيش بإفلات جمعة خلال مهلة ساعتين تحت طائلة اقتحام هذه المواقع وقتل وأسر من فيها.

بعد انتهاء المهلة المعطاة تم الاشتباك مع المواقع التي سقط اغلبها في اقل من ساعة، وهو الوقت الذي كان يكفي الفوج المجوقل للتدخل والمساعدة في المعركة. الا انه تم اسر تسعة جنود من موقع الحصن، وهم من عادوا منذ ايام رفاتا. وسجل مقتل ١٢ جنديا من مواقع المصيدة ووادي حميد. لم تتمكن هذه المواقع من مقاومة عمليات تقدم ما يقارب ٣٠٠ مسلح اتين باغلبهم من الجرود، ومعظم هؤلاء يحملون الجنسية السورية. لم يكن التفوق بالسلاح او العدد بين الطرفين، فالمقاتلين السوريين كانوا يحملون اسلحة خفيفة ورشاشات اسناد بسيطة، وقاذفات ار بي جي، وشارك في المعركة بعض الرشاشات المتوسطة المحمولة على اليات. وكان لدى كتائب المشاة من الجيش اللبناني اسلحة مكافئة، وان كان انتشار مشاة الجيش لم يسمح بالمقاومة دون اسناد من مواقع الجيش الخلفية في اللبوة.

ليل الثاني من اب، وبعد سقوط مواقع الجيش، تم ادخال ثلاث سرايا من الفوج المجوقل (الوحدات الخاصة) إلى ارض المعركة، تألفت كل سرية من ١٢٠ جندي، و٩ ملالات ناقلة للجند، واسلحة خفيفة ومتوسطة ورشاشات ثقيلة وقاذفات ار بي جي.

كان من المفترض ان يحسم تدخل الفوج المجوقل المعركة، لما لهذا الفوج وسراياه من قدرة عملياتية وامكانيات مناورة وحركة سريعة وكثافة نيران وخبرة لدى العناصر والضباط وقدرة على التنسيق الاني في حالة العمليات الخاطفة، الا انه اكتفى باسترداد المواقع الحدودية بعد ان انسحب منها المقاتلون ومعهم الاسرى من الجيش اللبناني باتجاه داخل عرسال.

سقوط المواقع

يوم الثالث من اب، اتصل مدنيون من داخل عرسال بالمقدم نور الدين الجمل عند الساعة العاشرة صباحا واخبروه بتحضيرات يجريها مسلحون واستعداداتهم للاتجاه نحو قيادة الكتيبة. فاتصل الجمل الموجود في مركز خدمته في المهنية في عرسال، واعلم قيادة اللواء الثامن بانه سيتعرض لهجوم من قبل مقاتلين. وارسل قائد الكتيبة ١٠ عناصر وضابطين الى مبنى المهنية المطل على موقع المهنية لحمايته من الهجوم، واشتد الهجوم عند منتصف نهار الثالث من اب.

تقدم المسلحون من المهنية منطلقين من داخل بلدة عرسال، وباتوا يسيطرون على مواقع مشرفة على المهنية، وبدأت عمليات القنص على المهنية التي ادت إلى مقتل العريف يحيى الديراني.

منعت عمليات القنص الجنود في الجيش اللبناني من البقاء في الطبقة المرتفعة والزمتهم النزول الى الطابق الارضي، مما سمح للمقاتلين بالسيطرة النارية على مبنى المهنية، وعلى تلة مطلة مباشرة على الموقع، وحينها كانت الساعة قد اقتربت من الثانية بعد الظهر.

اتصل المقدم الجمل مجددا بقيادته وطلب تغطية مدفعية على محيط المهنية، كما طلب دعما من سرايا فوج المجوقل الموجودة على مبعدة عشر دقائق من موقع كتيبة المهنية في موقع الشميس – ضهر الجبل، حسب تمركزها الليلة السابقة. الا ان الدعم لم يصل، ولم تسقط اي قذائف.

تمكن الجمل ومن معه من مواصلة التعامل الناري مع المسلحين والمقاومة لمدة ساعتين، مرغما اياهم على البقاء في مواقعهم، وبعدها ترك موقعه وتوجه مع عدد من الجنود نحو الوادي الواقع مباشرة تحت المركز، وراح جنوده يتبعونه واحدا اثر اخر منسحبين باتجاه بلدة اللبوة,

وبعد الساعة الرابعة بدأت عملية اقتحام مبنى تمركز الجمل، وكان لا يزال فيه حوالي ١٥ جنديا، مع المقدمين داني حرب (استشهد) وعلي رمال والنقيب الياس العنتوري، انتشر الضباط الثلاثة وبعض الجنود في الوادي بعد طلب الجمل منهم الانسحاب، وكان الجمل امر الضباط الباقين بتجميع الجنود اسفل الوادي، وكان انتشارهم يمنعهم من رؤية احدهم للاخر، فتواصلوا هاتفيا بالهاتف الرباعي، وامر الجمل رمال بتجميع الجنود في اسفل الوادي بعد ان قطع الجمل اكثر من ثلثه. وسلم الجمل سلاحه لاحد الجنود الذين كانوا برفقته، وبدأ يتحرك للتأكد من وصول باقي الجنود والضباط إلى اسفل الوادي.

اتجه الجمل نحو الناحية الغربية من الوادي، حيث كان يفترض ان يصل حرب، بينما كان الجنود ينتشرون بشكل فوضوي في الوادي، وقد استبد بهم التعب والهلع، وحاول الجمل الوصول الى حرب، الذي تأخر، كان اتساع الجهة الغربية من الوادي لا يسمح للضابطين بالمناورة او الاحتماء خلال تحركهما، ولم يتمكنا من اللقاء الا لحظة سقوط الموقع وقبيل مقتلهما مباشرة، بينما نزل عنتوري من الجهة الشمالية للوادي.

في تلك الاثناء سقطت مواقع كتيبة المهنية، وتم اسر ١١ جندي، مات الجمل وكذلك جنديين اخرين تحت رصاص المسلحين الذين احتلوا مراكز الجيش، وسقط جندي اخر على مدخل موقع الكتيبة المحتل خلال عملية اقتحام المسلحين لها.

حتى لحظتها لم يصل اي شكل من اشكال الدعم، ولم تسقط اية قذيفة من قذائف الاسناد، ويذكر جورج جبور الذي كان محاصرا في مبنى المهنية قبل ان يلتحق بالجمل، ان الاخير قال له ان يتواصل وينسق مع النقيب الديراني في المجوقل من اجل ارسال سرية دعم للموقع المحاصر. ويضيف جبور ان النقيب الذي حدثه هاتفيا قال له ان ليس لديه اي امر بالتدخل.

الساعة الخامسة بعد الظهر وصل الى اللبوة حوالي ٤٠ جنديا من الجيش اللبناني منسحبين من المواقع المحيطة بعرسال، عندها فقط تحركت سرية من الفوج المجوقل في اللبوة، وسرية اخرى من الشميس الى موقع المهنية واستردوه مساءاولكن بعد ان اخلته القوات المهاجمة، واخذت معها كل ما تمكنت من نقله، وبما في ذلك الاسرى. السرية التي تحركت لاسترداد الموقع اتت من موقع الشميس الذي كان الجمل يطالبه بالدعم والتدخل منذ الظهيرة.

تراجع المسلحون الاسلاميون الى داخل عرسال ومعهم ١١ اسيرا من الجيش اللبناني، تاركين خلفهم سبعة من قتلاهم.

لم يبق تقريبا شيء لم يتحرك بعدها، الا ان مقاتلوا جبهة النصرة ومن اليوم التالي حاولوا التفاوض من اجل الانسحاب من المنطقة، الا ان خط انسحابهم تعرض لرشقة صواريخ من مواقع يشغلها حزب الله.

خلال يومي الثاني والثالث من اب كانت في سماء عرسال وبشكل دائم مروحية او اثنتين للجيش اللبناني ترصد الاعمال القتالية دون قدرة على التدخل.

يوم الرابع من اب، تواصلت الاشتباكات على التخوم الشمالية للبلدة، انضم الى قوات المجوقل قوات المغاوير (نخبة الجيش اللبناني) تركزت الاشتباكات على الجهة الشمالية، وتمت محاصرة البلدة من قبل قوات الجيش، وبدأت مفاوضات وقف اطلاق النار، وهي التي ادت في النهاية الى انسحاب المسلحين مع الجنود الاسرى إلى الجرود، وبقاء وضع عرسال هشا على المستوى الامني وعرضة لحملات التعبئة والتحريض.

السابق
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وواقع قواها
التالي
طبخة عرسال – عماد جمعة.. إعداد حزب الله؟