وجيه قانصو: مطلوب فتح ورشة نقد تاريخي للإرث الروائي

هل يمكن للشيعة ان يعمدوا الى اعادة النظر بالروايات الثابتة لديهم؟ كما فعل اهل الصحاح وابناء المذهب المالكي؟

في ظاهرة جريئة دعا المفكر الإسلامي الدكتور عدنان إبراهيم إلى إعادة النظر في “الإرث في الإسلام”، واضافة الى عدنان ابراهيم، أفتى رئيس “الاتحاد العالمي لعلماء الإسلام من أجل السلام”، الشيخ الازهري مصطفى راشد بوجوب الصيام على الاغنياء فقط دون الفقراء. كما أفتى راشد نفسه بعدم وجوب الحجاب.

إقرأ أيضا: السيد محمد حسن الأمين: الايديولوجيا هي الأسطورة الحديثة لا الأديان

المسألة التي تثير البحث، هي هل أن هذا السعيّ الى تغيير بعض المفاهيم المرتبطة بالاسلام ارتباطا وثيقا، والتي تشير الى انها من الاسس والتي يخرج من دونها الاسلام عن صفته المجتمعية، اي الحجاب والتمييز بالارث بين الذكر والانثى، يعود الى انتشار التشدد الديني الذي ترافق مؤخرا مع خروج “داعش” الى العلن في تطبيقاته المرعبة، بعد ان كان حبيس الفتاوى التي يخبئها المسلمون، ويعتبرونها جزءا من تاريخ يجب عزله عن الحاضر؟

وردا على هذا السؤال، ماذا يقول الباحث والدكتور وجيه قانصو؟ وهل الفتاوى الانفتاحية هي ردة فعل على التشدد الديني في القرن الاخير؟ ام انه تطور فكريّ؟

يرى المفكر الإسلامي والباحث وجيه قانصو ان ذلك: “يستدعي الحديث عن صحة بعض الاحكام الدينية وعدم صلاحيتها النظر في الاجتهاد الديني لجهة مبانيه ومفترضاته وراهن نشاطه ومؤسساته. فالإجتهاد صلب أي تفكير ديني، ووراء أي حكم أو تشريع، ومستند أية صلاحية إفتاء أو نطق بإسم الدين، ومنطلق أي مسعى للتغيير أو الإصلاح أو التجديد. ذلك أن الإسلام المتداول، بمواده وأدبياته، في زماننا، ليس مجرد نصوص دينية تُوثَّقُ فترة النبوة، بل هو حصيلة جهود تدوين وأنظومة معارف ومناهج ومبان وافتراضات تم تشييدها بنحو تراكمي على امتداد زمن غير قصير تجاوز أربعة قرون على الأقل لغرض ضبط النصوص الدينية، وفهمها وتفسيرها، وضمان فعاليتها في الأزمنة التي تلي زمن النبي.

فالنصوص الدينية بطبيعتها مواد خام، تنفتح بعد النبي على دلالات متعددة وحتى لا متناهية، ولا يُصوِّبُ هذه الدلالة ولا يحصر معانيها إلا إطار معرفي وإجرائي ناظم يحسم احتمالات معنى النص ويوجه دلالته، والأهم من ذلك يولد وفرة معان ودلالات جديدة لا يوفرها المعنى اللغوي المباشر للنص، بل تتحصل بفعل استنباط وجهد إنساني خالصين وفق قواعد مقررة ومتفق عليها بين أهل الاختصاص.

إقرأ أيضا: السيد محمد حسن الأمين: لا حرية دون الغاء استعباد المجتمع لأفراده

عبر الإمام علي عن طبيعة العلاققة مع النص الديني، القرآن على وجه الخصوص: “إنما هو خط مستور بين دفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال”.

قول علي يؤكد أن عدم نطق القرآن بعد النبي، يستتبع انفتاح النص على معان محتملة لا حصر لها،  فلا يعود معنى خاص من لوازم النص وتوابعه، وإنما هو من لوازم العلاقة والاشتباك بين القارئ والنص. أي تنفك العلاقة الذاتية بين النص والمعنى، ويصبح المعنى ثمرة عملية ذهنية ونشاط فكري وروحي يمارسه القارئ على النص أو يمليه النص على القارئ. ما يجعل المعنى يخرج من خلالنا إلى العالم، وعبر قنوات إدراكنا، ونمط وعينا، والأفق التاريخي الذي ننتمي إليه.

كون النص الديني لا ينطق لوحده، يعني وجود فاعليات أخرى حاضرة في عملية توليد الدلالة وإنتاج المعنى وتشخيص الحكم الديني. فلا متلقي النص كائناً سلبياً يتلقى المعاني بصمت وحياد تامين، وليس مجرد صفحة بيضاء يخط عليها النص الديني ما يحمله من معان.

إقرأ ايضا: ما هي أوجه الشبه بين الإسلاميين واسرائيل؟

هذا يعني أن النص الديني لم يعد يملي ما يريد بشكل مستقل عن الحقل الاجتماعي والثقافي الذي يوضع فيه. فالنص يدلي بمعناه بعد موضعته داخل حقل دلالي معين لم يعد من مستلزمات النص وتوابعه، بل هو مجال خارجي يأتيه من واقع اجتماعي وترتيب سياسي ومستقر ثقافي خاص.  بالتالي لا يعود النص يحمل معنى واحداً عابراً للأزمنة، بعد أن بات معناه وليد نشاط اجتهادي يمارس داخل حقل إنساني مُحمَّل برهانات معنى ووجود خاصة به، تفرض على عملية الاجتهاد وجهة دلالية جديدة يرشح عنها معان جديدة، ومقترحات فهم مختلفة.

لذلك، وبدلاً من قصر النظر على الضوابط والقواعد التي تحدد وتشرط القراءة، وتجعلها منتجة أو منضبطة، ليكون بالإمكان تمييز الصحيح منها والفاسد، أو المستقيم من المنحرف، أو الممدوح من المذموم. وهو النظر الذي انصب عليه التأسيس الفقهي وعلوم التفسير كلها. بدل كل هذا لا بد من النظر في عملية الاجتهاد نفسها وتفحص حركتها وديناميتها أثناء نشاطها. أي ماذا يحصل إثناء عملية الاجتهاد، وكيف تحصل هذه العملية وما هي الفاعليات الحاضرة أثناءها؟ وما هي الرهانات التي وقف العقل الديني على أرضها في فهم نصوصه واستنباط أحكامه، جعلت النص يأخذ وجهة دلالية معينة دون أخرى؟.

إقرا أيضا: السيد الأمين: شعوبنا تحتاج إلى ثورة ثقافية لكسر العبودية

فالإجتهاد الفقهي ليس اجتهاداً في فهم النص الديني فحسب،  بل هو أيضاً اجتهاد في فهم الموضوعات الجديدة، واستيعاب لحقيقة التحولات وجديتها. وهي الجهة التي عرَّضت القرآن لسوء استعمال، ليس لجهة تحريف معناه الإصلي، بل لجهة إسقاط النص الديني على موضوعات لا تلائمه، ولجهة الارتباك والتناقض في تطبيق أحكامه على الوقائع الجديدة.

الذي حصل أن التراث الاجتهادي الذي أُنتج لتأمين انتقال مريح للنص عبر الأزمنة، يمكِّنَه من بسط سيادته على تفاصيل الحياة، وممارسة رقابة مفصلة، باطنية واجتماعية، على سلوك المتدين، هذا التراث، وبغرض تأكيد ثبات النص الديني وشمول أحكامه لكل الأزمنة، عمد إلى تجميد الزمن، بمعنى إظهار عرضيته وهامشيته في واقع البشر. فالوقائع والأحداث تجليات متعددة لمسلكيات إنسانية صادرة عن طبيعة إنسانية واحدة وثابتة، ذات أحكام واحدة وثابتة. ومقولة أن “النص لكل زمان ومكان” تُرجِمَ بمعنى ثبات الواقع الإنساني، الذي تعود ظهوراته المتعددة إلى حقيقة واحدة لا تتغير أو تتعدل.

إقرأ ايضا: ما هي المعوقات العقائدية التي تمنع الشيعة من الإنخراط في الدولة الحديثة؟

بذلك وبدلاً من الإقتصار على ثبات النص، عمد العقل الفقهي في معرض إثبات صلاحية النص لكل الأزمنة إلى تجميد الموضوع وتأكيد ثباته وعدم تغيره، ليكون بالإمكان بسط سلطة الأحكام الدينية الأولية إليه. ثبات الموضوع وحرص الفقه الإسلامي على إلحاق الموضوعات المستجدة بموضوعات الزمن التأسيسي الأول، جعل النشاط الفقهي يتحرك بطريقة معاكسة، إذ بدلاً من استنطاق النص بما يحمله لكل زمن ليكون بإمكانه الاستجابة لرهانات ذلك الزمن والتفاعل مع حقله الدلالي الجديد، وبالتالي الكشف عن أو تأسيس أحكام دينية جديدة، فقد تم إلحاق الأزمنة المستجدة بالزمن التأسيسي الأول، ما تسبب بإفراغ تلك الأزمنة من دلالة التجارب الإنسانية الجديدة وتجاهل التحولات الجوهرية التي أحدثتها ليس على الواقع الإنساني فحسب وإنما على الطبيعة الإنسانية نفسها التي تَبيَّنَ أنها حقيقة تاريخية، وأن زمانيتها (Temporality) ليست مجرد قياس كرونولوجي (Chronological) لنشاط الإنسان الخارجي، وإنما هي حقيقة تدخل في صميم كينونته الوجودية.

هذا الأمر أدى، بحكم التطابقات الوهمية التي اعتمدها الفقه بين الأزمنة اللاحقة والزمن التأسيسي الأول، إلى إسقاط أحكام دينية على موضوعات لاحقة ومستجدة تشبه موضوعاتها الأولى في المظهر أو العنوان وتختلف عنها في الطبيعة والحقيقة والوظيفة الاجتماعية والسياسية.

وجيه قانصو

إقرأ ايضا: وجيه قانصو: تلبّس الثقافة بالأيديولوجيا جعلها عاجزة

من هنا، فإن تعميم مقولة: “القرآن لكل زمان ومكان”، لم يقتصر على تأبيد النص، بل شمل تأبيداً لفهمٍ خاص للنص تمت بلورته في فترة تاريخية معينة، وفي إلصاق معان “ثابتة” له لم تعد تعني للإنسان المعاصر شيئاً بل أصبحت مصدراً لإرباكاته وتأزماته، لأنها تلغي فوارق الأزمنة وتُطابِق بين رهانات المعنى الخاصة بكل زمن. فتضع الإنسان المعاصر أمام أزمة: فإما اختيار الإيمان ومصادرة كل ما يمليه العصر، وإما الاستجابة لمتطلبات العصر ورمي الإيمان في زاوية الحكايا القديمة.

فالحلقة المفقودة في كل هذا أننا توقفنا عند ما قاله النص لزمن خاص ولم نعمل على التعرف إلى ما يمكن أن يقوله لزماننا. وهو تعرف لا يكون بالتلقي السلبي لما يقوله النص أو الإنصات الكامل لمداليله، إذ إن متغيرات التلقي بين زمن الصدور الأول للنص والزمن الراهن تمنع النص من التفرد من إنشاء خطابه الراهن وبيان مدلولاته المعاصرة، لأنه يحتاج إلى قراءة معاصرة تتحقق من خلال قارئ معاصر، لا تكتفي بالكشف عن معاني النص اللغوية أو مقاصد الكلام، بل تتقدم خطوة إلى الأمام للتمييز بين خطاب النص المباشر الذي كان موجهاً إلى زمن النبوة، وما نحن مخاطبون به في النص ومُوجَّهٌ إلينا. توليد الخطاب المعاصر للنص لا يتحقق إلا بالانتقال من الإنصات التام لما يمليه النص من معان لغوية وملازمات عقلية إلى الدخول في وضعية حوار معه، يحتفظ فيها كل من النص والقارئ بفاعليته وحضوره، ويتم مراعاة الآفاق الزمنية الفارقة بين الطرفين، ليكون خطاب النص الديني المعاصر ثمرة تفاعل متبادل بين القارئ المعاصر والنص، ونتاجاً مشتركاً يساهم فيه الطرفان.

إقرأ أيضا: وجيه قانصو: تلبّس الثقافة بالأيديولوجيا جعلها عاجزة

فكرة أن “النص الديني لكل زمان ومكان” تعني أن لدى النص ما يقوله في كل زمان ومكان، ولا تعني، كما تتم ممارسته وترويجه، وجود استمرارية بنيوية وتماثلية معنوية ما بين الزمكان الأولي والأصلي الذي لفظت فيه الآيات والأحاديث لأول مرة وبين الزمكانات المتغيرة، حيث يتم في الوعي الديني الانتقال بين الأزمنة مع تغييب كامل للفوارق الجوهرية القائمة بينها، ومن دون طرح أي تساؤل بخصوص شروط إمكانية وصحة ممارسة كهذه.

وجيه قانصو

مجال معرفتنا ومفترضاتنا المسبقة تمنعنا من مشاركة الأولين تجربة تلقيهم للنص، وما فهمه الأولون بأنهم معنيون به وموجه إليهم ليس بالضرورة أن يكون موجهاً إلينا أو أننا معنيون به، ومن الممكن أن نرى شيئاً في النص لم يروه وأن يتحسسوا في زمانهم شيئاً لا يمكن لنا أن نتحسسه. فما تقبله ثقافة أو فترة تاريخية ليس بالضرورة أن يكون محورياً ونهائياً أو ثابتاً في كل الثقافات أو العصور الأخرى، وإذا كان من الصعب إلغاء دور المجتهد بصفته ذاتاً وكينونة قائمة في التاريخ، فإنه من غير الممكن تموقع هذه الذات خارج التاريخ، بل هي موجودة دائماً داخل التاريخ تعيشه وتعانيه.

إقرأ ايضا: ما هي خصائص الدولة وما هي وظيفة المجتمع؟

عدم التفات المنظومة الفقهية، القديمة والمعاصرة لعناصر التخاطب والتواصل، والاعتقاد بالتطابق بين طبيعة وزمن المخاطَب الأول في النص الديني وطبيعة وزمن المتلقي المعاصر، دفعهم إلى البناء على وحدة الخطاب، وبالتالي القول بثبات الشريعة  المستنبطة وأزلية الأحكام الدينية التي فهم المتلقون الأوائل أنهم مكلفون بها، وأرادوا تعميمها على جميع المتلقين في الأزمنة اللاحقة”.

السابق
هل يحمل إفطار بعبدا انفراجا لجهة القانون الانتخابي؟
التالي
للمرة الثانية.. حسين مرتضى مهدد بالقتل والذبح!