أتذكر لأحيا وأحلم – أنا قانون الانتخاب –

هناك إغراء شديد بوحدة الذاكرة، وإلى ما في هذه الوحدة من إلغاء، فإن التذكر يدخل في نظام حرية الرأي. وإذا كنا لا نستطيع أن نجترح قطيعة تامة مع الماضي، فإننا مضطرون أن نختار ذاكرتنا، طالما أن الذاكرة شرط الرؤية في الراهن وشرط الحلم في المستقبل، وطالما ان هذه الرؤية.. الآن.. وذاك الحلم غداً ، هما الحافز الذهني في اختيارما نتذكر، أي ما نحيي في ذاكرتنا وأنفسنا من أجل يومنا وغدنا، ومن أجل تجديد القيم الجامعة، وهجر المفرِّقة، أو كما نشاء، وقد نشاء الجمع ثم نكفّ عنه، وقد نشاء التفرقة ثم نكفّ عنها، لأسباب نفعية أو أخلاقية.. طالما وطالما، فإن للآخر في بيتي أو محلتي أو ضيعتي أو مدينتي أو ديني أو مذهبي، أن يختار ما يفرِّق أو يجمع ويفرق ولكني حرّ في أن لا أختار إلا ما يجمع، ولا أفارق الاجتماع عن أحد إلا إذا اختار هو ذلك، فله افتراقه ولي انتظار عودته إليَّ.

اقرأ أيضاً: إمام الأزهار والقصائد والوعود المؤجلة

وعليه، فإني مشغول منذ أن هدأت وطعَّمت أو هذبت أو عقلنت جذريتي وثوريتي بالمرونة والنقد الذاتي والتوبة وإعادة النظر والاعتراف والتطهير الدائم للذاكرة وتنقيتها.
مشغول بقياس أحلامي على ذكرياتي ما يدعوني إلى تفصيل ذكرياتي على أحلامي.. أقصد أحلامي وذكرياتي الوطنية، أي الروحية والخلاصية، بالمعنى الديني والدنيوي، إذا أمنا لهما المدينة الحاضنة والجامعة، وكففنا عن استغلال كل منهما في الآخر أي في إلغاء الآخر، وعلى أساس منهج توحيدي يجمع بينهماوعياً وعملاً من موقع التغاير والتكامل، أو التغاير الضروري جدّاًللتكامل، والتكامل الضروري جداً للتغاير.. والتغيير.. في اتجاه الأفضل والأرقى والأجمل.. هذا الأجمل، في حاضرنا وفي غدنا، يحتاج إلى الأجمل في ماضينا، ويحتاج إلى التذكر الحكيم أي تذكر الحكماء للبشاعات والتذكير بها للشفاء من آثارها ومنع تكرارها.
وإذا كان بعضنا أو كثير منا، عن عمد أو عن إذعان لسلوك القطيع.. أي سلوك الجماعة الذي يشبه علميّاًبسلوك القطيع، من دون اعتبار الجماعة قطيعاً.. هو تشبيه علمي ليس إلا.. وهو قريب في معناه من التشبيه البلاغي، الذي يشترط ليكون جميلاً وحقيقياً أن يكون هناك وجه شبه بين المشبه والمشبَّه به وأوجه تفارق، أي لا مطابقة ولا تماثل، لأن الشيء لا يشبه بذاته، فلا يشبه الحسون في المطلق بالحسون في المطلق، بل يشبه هذا الحسون بذلك الحسون.. في حسن الغناء..وقد أطلت في هذا لأقول بأنني عندما أتنصل من سلوك القطيع، أكون قد تنصلت من سلوك جماعتي في لحظة قطيعية، أي لحظة هياج ضد الآخر، بناء على خوف مبالغ فيه أو طموح مبالغ فيه.. وتعبئة ذات غاية غير متطابقة مع مصلحة الجماعة.. ونوايا مبيتة ببيع الجماعة في اللحظة المناسبة وخيانتها، خاصة إذا خسر الرهان.
بناء على هذا كله أقول إن لأي من اللبنانيين الذين أعرفهم أو لا أعرفهم، واتفق معهم سياسياً ولا أتفق، أن يتذكر الفتن والحروب الداخلية والمجازر التي ارتكبها آخرون، بعيدون أو أبعدون، في حق جماعته، مع تناسي ما ارتكبته جماعته، أو قسم منها، في حق جماعة أخرى.. وله.. لأي كان من لبنان، أن يتذكر المجرمين، القتلة، قتلة الجسد على الهوية أو على الاختلاف في الرأي، وقتلة الروح والوطن بالاستبداد والفساد والإفساد.. ويلعن من هم ليسوا من جماعته منهم، ويقدس من هم من جماعته.
أما أنا فإني أصرّ أن أتذكر وأذكّر بالمطران غريغور يوس حجار والبطريرك بولس المعوشي وسلام الراسي وشكر الله كرم وشكر الله حداد والمطران بولس الخوري والمطران يوسف الخوري والدكتور وديع الغفري، والمطران غزال والخور أسقف يواكيم مبارك. والأساتذة، المعلمين، الذين علموني فيزيا وكيميا ولغة وأدباً عربياً، كان مؤهلي لقراءة القرآن وتذوقه وعشقه.. وقراءة نهج البلاغة.. الذي نبهني أيضاً أن هناك نصوصاً دينية أخرى جميلة ولا تختلف إلا شكلاً في همومها الروحية والإنسانية عن النصوص الإسلامية المؤسسة والتراث الشيعي الذي يزين بيتنا الإسلامي والعربي والوطني.. من الإنجيل الى أعمال الرسل.. الى المزامير.. الى ما تبقى ووصلنا من أدب الفراعنة التوحيدي وغيرهم.
أتذكر كريم السمرا ومارون الحاج، وجميل جبور فرنسيس، وإيليا إيليا، وأبيوديع العازوري (الناظر الحبيب) ونجله الأستاذجوزف، والمدير الإشكالي الحيوي المخلص الجميل دخيل شاهين وأخاه الياس، ووديع الغفري وميشال حداد. والمؤسس التربوي أنطون الصايغ.

مجلس النواب اللبناني
مجلس النواب اللبناني

وأتذكر جول جمال، المسيحي السوري الطيار، شهيد البطولة في العدوان الثلاثي على مصر..ومكرم عبيد وانستاس الكرملي، والحاج رضا الصلح الذي كان قائمقاماً على صور وولد فيها نجله رياض (الرئيس) ورضع حليباً صورياً من آل (يحيى)، ومدير ناحية النبطية، حيث أسس المدرسة النظامية الأولى في الجنوب بعد صيدا، وكان يرعاها شخصياً ويومياً، والتي حولت النبطية الى حاضرة ثقافية يلتقي فيها الجميع وتلتقي بالجميع.. وأتذكر الكوكبة الجنوبية المواكبة محسن الأمين، وعبد الحسين شرف الدين، وسليمان ظاهر، وأحمد عارف الزين، ومحمد رضا الزين، وأحمد رضا ومحمد جابر آل صفا.. وأستاذهم السيد حسن يوسف مكي، الذي أسس وأدار المدرسة الدينية المجاورة لأم المدارس في النبطية، أي مدرسة رضا الصلح، وخرج أجيالاً من العلماء والأدباء الذن حققوا الوصلة المنهجية اللازمة بين الموروث والمستجد في المعرفة والأدب.. من محمد علي الحوماني الى الشيخ علي الزين وإبراهيم فران وغيرهم.
وأتذكر آل سالم وآل منسى وآل خوري من صور ودير دغيا وشراكتهم العميقة في الفكر والسياسةوما زال فيهم من نفاخر بعلمه وموقفه الوطني الجامع (المطران بولس الخوري والأب تيودورعادل الخوري) وأتذكر صيدا ومنزل رضا الصلح الذي تحول الى قاعدة وطنية في مواجهة التتريك، وانتهى رواده في المحكمة العرفية في عاليه، مساجين، شهداء ومبرّئين من تهمة ليست تهمة.. وأتذكر معروف سعد وحسيب عبد الجواد.. وعادل عسيران وشفيق لطفي..وغيرهم.
وأتذكر ما تناقلته الأجيال من أخبار الاقتتال بين ناصيف نصار الذي انتصر وظاهر العمر الذي انهزم ولكنهما عادا فتحالفا ضد بطش الجزار وانهزم المعنى أمام القوة المادية الغاشمة، ولكننا ربحنا هذا الدرس وهذه الأمثولة، وأتذكر الشيخ عبد الله نعمة وحمايته الشجاعة للمسيحيين في الجنوب في لحظة صعبة.
وأتذكر ولا أذكر إلا من كان حكيماً وعاقلاً وقادراً على النسيان ومقرراً له.. أتذكر أحداث الجنوب على أعتاب تأسيس لبنان الكبير، وبإدارة الانتداب وقابليتنا لذلك، والتي انطلقت شرارتها الأولى من منطقة بنت جبيل، على كتف الجليل، اعتبرها خطأ او ارتكاباً مشتركاً، كحرب السنتين، لم تفت ولا مرة فرصة التوبة والبراءة أمام الله والتاريخ منه.. كما اعتبر ان الحرب اللبنانية أو اللبنانية الداخلية والخارجية المشتركة، على تناغم بين غايات مراوغة لأصدقاء وأعداء، مع أوهام واندفاعات وانفعالات ونيات سيئة لدى كثير من الزعماء والحكام في الداخل اللبناني، والجمهور المستفز بما لا يلائم مصالحه ولا تاريخه ولا مستقبله ولا حريته ولا كرامته التي لا تأتي إلا من الاندماج والدولة الجامعة.. أعتبر هذه الحرب التي صارت حروباً، خطأ أو ارتكاباً مشتركاًتتساوى المسؤوليات تجاهه، ولا يكفي لبنان ولا فلسطين لتبرير بشاعاته.. لقد خسر الوطن وخسر شهداؤه وأجياله.. ويمكن أن نعوض عليهم وعلى لبنان وعلينا بالقطيعة الأدبية والعملية مع هذا التراث الكريه. أعني القطيعة الإيجابية ببناء الدولة على الشراكة.
هل أمضي أكثر في ذكر الأشخاص والأحداث التي إن نسيناها أو تناسيناها حرمنا أنفسنا من لذة بريئة وعميقة ومن منفعة مشروعة وحرمنا أجيالنا من المثال الذي يفتح عقلها على الآخر الضروري لأجل الدنيا والآخرة، والمعرفة والعمل، ولأجل الدين والمذهب والوطن والأمة، والقرية والحي والمدينة.. والمدرسة التي نستمر في إغلاقها على الهواء الآتي من الفضاء الواسع، من الآخر.
والجامعة اللبنانية الوطنية التي تحولت إلى عقارات موقوفة، هنا على طائفة وهناك على حزب من طائفة وهنا وهناك وهنالك.. على الفقر المعرفي الذي لا سبيل للقضاء عليه الا بالتبادل والتداول والشراكة القائمة على العدالة والمشروطة بالمحبة والمتجددة بالحوار والمصونة بالعيش المشترك والمحمية بالدولة المدنية على أساس المواطنة، أي دولة الأفراد لا الطوائف تحت سقف الحق والقانون. وتحت سماء لبنان التي تأخذ منه أو يأخذ منها، أو تستعير أو يستعير ألوان قوس قزح، التي تغزلها الشمس على مغزل الصحو والدفو..
قانون الستين.. قانون الأرثوذكس.. أكثري ونسبي، مركب.. ليفعلوا ما شاؤوا، ولكنني نسبي وسطي معتدل توحيدي وحدوي من دون تخل عن خصوصياتي، ومركب.. مني ومن الآخر ومنخرط في الحياة بهذا المؤهل. وأنصح الذاهبين الى البعد الواحد بأن لا يمضوا في هذا الدهليز لأن آخره الفقر والجهل والعزلة التي تشبه الموت.
إني أتذكر لأحيا وأحلم.. وأحب الحياة.. ولا أحب الموت إلا إذا كانت فيه حياة..وأحب الإحياء من أجل الحياة.. إحياء الذاكرة وسقاية زرعها بماء الإيمان والأدب والعلم والفن ومطر الوطن.. وبصراحة.. ومن نهج البلاغة ذهبت إلى فارس الخوري وجبران وشكيب وعادل ونسيب أرسلان وكمال جنبلاط وسعيد تقي الدين ومارون عبود وميخائيل نعيمة وعبد الله العلايلي وتوفيق عواد والأخطل الصغير وأبي ماضي وأبي شبكة وأمين نخلة المولود لرشيد نخلة في صور. ومن اصل هاشمي (ابن عمي) ومن أم لبست عباءتها حتى لا تتميز أو تنفصل عن سيدات صور المتسترات المستورات.. وفؤاد سليمان وغسان تويني.. الى آخر المنظومة الذهبية التي صنعت منا ولنا ثقافتنا البينية الجامعة.. والتي لن يجمعنا غيرها ولن نعيد إنتاجها إلا معاً.. والثقافة التي ينتجها طرف عصبي واحد لأهل عصبيته لا تقوى على الحياة.. ولا تكفي لا للحزب ولا للطائفة.. ثم تفرّق فيما تبدو أنها قد جمعت.. وقد شاهدنا ونشاهد كيف يتفتت الجزء الى جزيئات. قد يكون الرعيان أليق بأن يكونوا قطيعاً ونحن يناسبنا أن يكون زعماؤنا الطائفيون رعايانا لأننا نعرف كيف نرعاهم بأمانة.. هذا الحاضر لو يمضي وذاك الماضي لو يحضر.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
نصرالله بعد حلب يحاول كسب قلوب السنة
التالي
محمد شطح في ذكراه الثالثة: خسارة رجل الدولة ورجل السياسة