بين ستيفن سبيلبرغ وميشال عون

الكاتب جهاد الزين

مدهشةٌ هي السياسة اللبنانية، أياً تكن الأسباب، في الخروج من رتابتها المديدة منذ أعلن سعد الحريري قبل أشهر ترشيح سليمان فرنجية:

سعد الحريري يرشِّح الصديق الأقرب للرئيس السوري بشار الأسد في لبنان. بشار الأسد المحسوم لدى الحريري بأنه قاتل والده رفيق.
سمير جعجع يرشّح خصمَه الأول ميشال عون (خصمه الوحيد فعليا يومها) لرئاسة الجمهورية.

سعد الحريري بعد حمل (ومخاض) داخلي وخارجي سري ومعلن، يرشِّح الحليف الأول الوفي منذ عام 2006 لحزب الله عدو مرجعية الحريري ل “بلد منشئه” المملكة العربية السعودية. وبالتالي يرشح مرشح إيران بلدِ منشأ “حزب الله”. ويوصله إلى رئاسة الجمهورية حتى قبل الانتخاب غداً.
أنا مثل كثيرين جدا من المراقبين ( بمعنى المواطنين) كنتُ ضَجِراً جدا من المسرح السياسي اللبناني لا فقط ضجر المخيلة الرتيبة وإنما ضجر المخيلة الميتة من أي جديد تقدمه السياسة اللبنانية، هذا إذا كانت تستحق هذا الإسم… وعليّ أن أعترف أن هذه السياسة أظهرت مؤخرا قدرا من القدرة على توليد المفاجآت يستدعي الإعجاب. وهذا اعتراف صعبٌ عليّ شخصيا وسط كمية الأوباش الذين يملأون حياتنا.
سؤالي الأول في هذه اللحظات المثيرة، وإنْ كانت لا تزال وستستمر يائسة من أي تغيير نحو الأفضل في هذه الدولة التافهة التي يديرها نظام قوي جدا… سؤالي الأول: هل نضج السياسيون اللبنانيون أو هذا الجيل المغمّس بالدم والمال والتبعية ذلك النضوج الذي يعني أن قدرتهم الشخصية والشعبية على ممارسة الجمباز السياسي الكامل دفاعا عن مصالحهم أصبحت قدرة كبيرة وها هم يمارسونها الآن مرغمين أو بإرادتهم لصالح حصيلة إيجابية بالنتيجة، ستنعكس في تعميق الهدنة وبالتالي السلام الداخلي اللبناني المحمي بشكل جدي من القوى الكبرى في العالم والإقليم؟
يمكن للنذالات أن تصنع فضائل.
في فيلم “لنكولن” للمخرج سبيلبرغ يتبنى سبيلبرغ وجهة النظر التأريخية الجادة جدا القائلة أن إقرار قانون تحرير السود من العنصرية في ستينات القرن التاسع عشر في الكونغرس الأميركي استوجب لتأمين أكثرية الإقرار كمية من المساومات والرشوة والفساد مع بعض السياسيين أدت إلى صدور ليس فقط أحد أهم وأفضل قانون في التاريخ الأميركي بل أيضا في التاريخ العالمي.
على قياسنا هناك شيء ما من ذلك في ما يحدث الآن. شيء أكيد ودعوني بسرعة أقول غير مضمون النتائج الفاضلة ألأبعد من فضيلة السلم الأهلي.
السؤال الثاني: هل ما يحدث هو لحظة إحياء( الهمزة تحت الألف) للبنان في زمن موت المنطقة ، وقد صار صعباً أن نطمئن إلى ذلك بعد تجربتنا التاريخية التي تقول أنه لا يمكن تأمين استقرار بلد متقدم في المنطقة فيما المنطقة غير مستقرة وغير متقدمة؟

إقرأ أيضاً: رويترز: الأزمة المالية لسعودي أوجيه هي التي دفعت الحريري إلى تأييد ميشال عون
لم تشغلنا في الستين عاما الأخيرة مناورات سياسيي بيروت ودمشق ثم ضباط دمشق … فحسب، بل في نظرة أعمق، لم يدعْنا ريف سوريا الفقير والملتهب نرتاح رغم مركنتيلية بورجوازيتنا اللبنانية واستيعابها للجزء الفار من البورجوازية السورية. لأن هذا الريف لم يدع دمشق العاصمة نفسها ترتاح فكان يُصدّر إليها، إلى دمشق قبل بيروت، أنظمة حكم قلقة كانت بدروها تصدّر إلينا أيديولوجيات وعمالا وسماسرة (ومثقفين وفنانين) ترهق حياتنا العامة (وتغنيها) منذ أواخر الأربعينات بل منذ عشرينات الهجرة المسيحية والسريانية والأشورية والأرمنية حتى الحرب الأهلية ثم ما بعد الحرب الأهلية.
أذكِّر الجميع في هذه اللحظات المسيحية واللبنانية التوافقية أن هذا الريف السوري انتقل بقده وقديده إلى الأرض اللبنانية في لحظة انهيار كامل لسوريا دولةً ونظاما ومجتمعا؟ انسحب الجيش السوري الوصي علينا وجاءنا الشعب السوري بمئات ألوفه مسحوقا من حرب أهلية تجاوز عنفها وخطورتها ما حصل عندنا في السبعينات. لم يعد الريف السوري الأيديولوجي والفقير والقلق يصدِّر إلينا من بلاد حسني الزعيم وأديب الشيشكلي وأكرم الحوراني وصلاح جديد وحافظ الأسد و…. صار عندنا، هذه المرة مع جيل التطرف الإسلامي.
السؤال الثالث احتراما للحظة المسيحية الأكيدة والدراماتيك التي سيمثلها انتخاب الجنرال ميشال #عون:
هل لا زال بإمكان النخبة المسيحية أن تجدد توافقا سياسيا يليق بمكانتها ( غير السياسية) العالية جدا في الثقافة والاقتصاد والحرية الاجتماعية والتربية الاستشفاء ووو… كل ما يجعل لبنان أكثر حيويةً بمشاركة نخبة مسلمة رفيعة باتت موجودة وواسعة في الداخل والخارج؟

إقرأ أيضاً: إنّه يومنا الأخير قبل أن تكتظ سجون ميشال عون
أعتقد في هذه اللحظة وداخل بركان بل جحيم موت أي نموذج مغْرٍ في المنطقة، وآخرها بكل أسف النموذج التركي الذي أصبح “سابقا”، أن على المسيحيين اللبنانيين الخروج من عقدة النقص السياسية التي زرعتها فيهم تجربة خسارة ميليشياتهم، وهي أسوأ ما فيهم للحرب الأهلية، وهي عقدة نقص سياسية زرعها فيهم أسوأ ما فينا نحن المسلمين. ما أعنيه هو الحاجة المسيحية واللبنانية عموما إلى البحث عن نظرة واقعية وعملية للسياسة فوق السياسية فتعود السياسة العميقة لتصنع في الجامعات ومراكز التفكير ونوادي الثقافة وليس فقط بين نوادي زعران الأحياء. “الشعب” في المدارس والمصانع ومراكز الانتاج وليس فقط في شوارع السلبطة؟
لا أريد أن أقلل من دراماتيكية وصول ميشال عون قياسا بتاريخه المثير ولكن أريد أن أنبه ضمن طاقتي المتواضعة إلى أن أول رئيس مسيحي شعبي منذ الحرب هو أول رئيس ما بعد الانقراض المسيحي في المنطقة.

السابق
هل يسير لبنان مع العهد الجديد نحو التطرف الطائفيّ؟
التالي
الكاهن – الإنسان