عائلة الأسد: تحالفات عائلية وطائفية وصراع وحشي على السلطة!

(رفعت) الذراع اليمنى!

قبل أن نتابع في سيرة حافظ الأسد العسكرية كوزير دفاع الموسومة بشبهات بيع الجولان، ثم كرئيس ارتكب المجازر بحق أبناء شعبه في جسر الشغور وحماه وحلب في الثمانينيات، لا بد من متابعة شكل الحضور العائلي لأقربائه في مشروع الاستيلاء على السلطة في سورية، وحكمها بقوة الحديد والنار، ولا بد من التوقف عند تحالفاته العائلية والطائفية، وأبرزها استخدامه لأخيه سيء الصيت والسمعة رفعت الأسد.. وأقرباء زوجته أنيسة مخلوف.

فبعد المؤتمر الإقليمي الرابع لحزب البعث في (أيلول / سبتمبر – تشرين الأول / أكتوبر 1968) سيطر أنصار حافظ الأسد على المكتب العسكري للحزب، ومنعت الاتصالات بين المسؤولين المدنيين والعسكريين البعثيين. وأصبح رفعت الأسد بمثابة الذراع اليمنى “المسلحة” لأخيه حافظ في هذا الصعود نحو السلطة. وبدءاً من عام 1964 تقلج قيادة قوة خاصة أنشئت في الأثل لدعم أنصار المجلس العسكري داخل الحزب، وتكونت كتائب الدفاع من عناصر مخلصة لعائلة الأسد، هذه القوة – كما ترى كارولين دوناتي في كتابها (الاستثناء السوري) هي التي شكلت نواة الحرس العسكري لحافظ الأسد، وقد استعان بها رفعت للتخلص من أنصار صلاح جديد في الجهازين العسكري والمدني للحزب، ولاسيما في المناطق العلوية كاللاذقية وطرطوس.. وبذلك وُضِع حدٌ لازدواجية السلطة بين الجناحين المدني والعسكري للبعث، وهي ازدواجية كانت قد سببت العديد من الخلافات الداخلية بين الضباط، وانعدام استقرار دام لعقود.

منذ ذلك التاريخ لم يعد هناك سوى سلطة واحدة هي سلطة حافظ الأسد، قائد الجيش والأمين العام للحزب والذي أصبح بعدها رئيساً.

وزير الدفاع يعلن السقوط المفاجئ للجولان!

في يوم السبت الواقع 10 حزيران 1967م صدر البيان (66) عن إذاعة حزب البعث في دمشق ويحمل توقيع وزير الدفاع السوري اللواء حافظ الأسد معلناً سقوط القنيطرة بيد القوات الإسرائيلية واحتلت إسرائيل الجولان السوري. وكانت الشكوك مثارة بخيانة معينة يعتقد أن الأسد كان طرفاً فيها كأضعف تقدير هذا بدا جلياً من خلال الاجتماع الذي عقده البعث لعزل الأسد من منصبه والانتقادات الموجهة إليه من شركائه السابقين ونخص بالذكر صلاح جديد.

هذه الواقعة دفعت بالشعب السوري حين اندلعت ثورته لاستعادتها إرثاً مراً من الهزيمة المتلبسة بشبهة الخيانة والتفريط، مطلقين تسميات عدة على “القائد الخالد” كما سمي حافظ الأسد لاحقاً… فكان في المظاهرات التي تلعن روحه: “بائع الجولان” و”حامي حمى إسرائيل” وغير ذلك من المسميات.

ولكن هل فعلاً حافظ الأسد قد باع الجولان لإسرائيل؟ ومقابل ماذا يا ترى؟ أم أنها هزيمة شأنها شأن المعارك بين الأمم يدخل فيها خطأ الحسابات وسوء التقدير؟!

إن توافر المعلومات لأي واقعة في ضمن “لعبة الأمم” وإخضاعها للتحليل المنطقي يؤدي إلى استنتاجات واقعية ذات بعد موضوعي، غالبا ما يكون أقرب ما يمكن للحقيقة..وضمن هذا السياق لابد من إدراج حقائق موضوعية تخص الجولان وهي:

1- لقد أكد معظم المفكرين والمحللين الاستراتيجيين العسكريين منهم العرب والأجانب بأن هضبة الجولان ذات طبيعة جغرافية شديدة الوعورة، جعلتها من أهم الحصون الدفاعية ومن أصعب المناطق الاستراتيجية للتكتيك العسكري؛ ومن الصعب جداً أن تسقط بيد عدو خارجي طالما تسيطر فيها قواتها المحلية… فكيف تمكن الجنود الإسرائيلين من أخذها إذا كانت فيها التحصيانات الدفاعية السورية؟

2- قيام المثلث (العلوي) “عمران وجديد والأسد” بتسريح العديد من الضباط وقادة الألوية في الجيش السوري بعد انقلاب 1963م وهذا أدى بدوره إلى فقدان الجيش السوري العناصر النوعية كونها مدربة وذات خبرات سابقة بطبيعة الحال فدخل الجيش السوري بقيادات ميدانية غير مؤهلة وعلى أساس طائفي فكان مصير التكتيكات العسكرية فاشلاً… طبعاً هذا إن أخذنا أمر السقوط من باب (حسن الظن) كالخطأ في الحسابات واتخاذ قرارات غير عقلانية.

3- لقد كانت هناك اتصالات سرية بين نظام البعث والولايات المتحدة للبت في مجريات الأمور فهذا ما أكد علية الوزير السوري المفوض في مدريد أثناء حرب حزيران الدكتور دريد المفتي حين قال : استدعاني وزير خارجية أسبانيا لمقابلته صباح يوم 28/7/1967 وأعلمني، ووجهه يطفح حبوراً، أن مساعيه الطيبة قد أثمرت لدى أصدقائه الأمريكان، بناء على تكليف السيد (ماخوس) وزير خارجية سورية للسفير الأسباني في دمشق.. ثم سلمني مذكرة مؤرخة في 27/7/1967.. ومد إليّ يده بصورة المذكرة، فقرأتـها عجلاً ثم أعدتـها إليه شاكراً.. وسجلت في مفكرتي ما بقي في الذاكرة من نص المذكرة:

“تـهدي وزارة خارجية الحكومة الإسبانية تحياتـها إلى السفارة السورية بمدريد، وترجو أن تعلمها أنـها قامت بناء على رغبة الحكومة السورية بالاتصال بالجهات الأمريكية المختصة لإعلامها برغبة سورية في المحافظة على الحالة الراهنة الناجمة عن حرب حزيران سنة 1967.. وتود إعلامها أنـها نتيجة لتلك الاتصالات، تؤكد الحكومة الأمريكية أن ما تطلبه الحكومة السورية ممكن، إذا حافظت سورية على هدوء المنطقة، وسمحت لسكان الجولان بالهجرة للاستيطان في بقية أجزاء الوطن السوري، وتعهدت بعدم قيام نشاطات تخريبية من ناحيتها تعكر الوضع الراهن” ومن ثم تم ملاحقة المفتي بعد ذلك من قبل النظام السوري إلى أن اغتيل في لبنان لافشاءه هذا الأمر وهذه الحقيقية تؤكد الارتباطات السرية بين نظام “بنو الأسد” مع الولايات المتحدة الذي طالما افتخر به أزلامه بأنه الرئيس الأوحد الذي لم يزر الولايات المتحدة الأمريكية ويقف تحت قبة بيتها الأبيض (لا داعي للبروتوكولات الرسمية بين الحلفاء) من جهة، وتنفيذها الأوامر فيما يخص النازحيين الجولانيين عندما أعطى النظام أمر الانسحاب قبل دخول الجيش الإسرائيلي لها.

4- عند قيام الدبلوماسي الأمريكي الشهر هنري كسينجر بمفاوضاته “المكوكية” ما بين العرب والإسرائيليين في السبعينيات، كان الموساد الإسرائيلي يتعمد عند مجيئه من دمشق إلى القدس أن يفاجئه باطلاعه على ما دار بينه وبين الأسد في دمشق كما تطلعه على مضمون الرسائل المتبادلة بين الأسد وبين الملوك والرؤساء العرب الآخرين” هذا ما قاله إدوارد شهيان في كتابه “كيسنجر والإسرائيليين والعرب” ويجب أن ننتبه في هذا السياق إلى أن معظم اللقاءات التي كانت تتم بين كيسنجر والأسد هي لقاءات مغلقة أي بينهما فقط!! وبالنظر حول معرفتهم برسائل الأسد مع بقية القادة العرب فيكون الأسد هو القاسم المشترك في هذه المعادلة!!

5- يقول الدكتور عبد الرحمن الأكتع وزير الصحة السوري آنذاك : “كنت في جولة تفقدية في الجبهة وفي مدينة القنيطرة بالذات عند إذاعة بيان سقوط القنيطرة وظننت أن خطأً قد حدث فاتصلت بوزير الدفاع حافظ أسد وأخبرته أن القنيطرة لم تسقط ولم يقترب منها جندي واحد من العدو وأنا أتحدث من القنيطرة ودهشت حقاً حين راح وزير الدفاع يشتمني شتائم مقذعة ويهددني إن تحدثت بمثلها وتدخلت فيما لا يعنيني . فاعتذرت منه وعلمت أنها مؤامرة وعدت إلى دمشق في اليوم الثاني وقدمت استقالتي”.

إن هذه المعلومات وقائع تم تأكيدها مراراً داخل الساحة السورية، ولا يمكن لأحد أن ينكرها ولا أظن بأن هذه المعطيات من الممكن أن تجسد نوع من خطأ الحسابات في المعارك أو تكتيك مخفق على الوجه العسكري والسياسي للمعركة؛ فهذا استصغار للعقل والفكر.. وإذا ما أمعنا النظر في البندين الأول والأخير من تلك المعطيات نجد التفسير المنطقي لانسحاب القوات السورية من هضبة الجولان ودخول القوات الإسرائيلية لها (أرض ذات تحصين طبيعي استراتيجي لا تقهر إلا إذا أخليت من القوات المتمترسة فيها)، وعندما نمعن بالبندين الثالث والرابع بتحليل بسيط، نجد أن سقوط الجولان كان ضمن رعاية دولية صكها في مدريد وبطلها الأسد بارتباطاته الدولية السرية؛ فقد جعل الأسد من الجولان درعاً مزدجاً وجهه الأول يتجلى في حماية البنية الأولية لحكمه المنتظر “المؤسسة العسكرية” من خلال الضمانات الدولية التي تعلقت بالاستقرار الداخلي وشرعنة حكم البطل الثوري الأوحد داخلياً وإقليمياً، وأما الوجه الثاني فهو حصن إستراتيجي منيع يحمي صدر إسرائيل من أي هجوم مستقبلي للمنطقة من جهة ويعزز أمنها المائي – نقطة ضعف إسرائيل – من خلال حوض اليرموك الموجودة ضمن هذا الدرع المزدوج والذي أصبح ملكها!

الأسد الانقلابي: طموح الزعامة العربية!

كانت نتائج سقوط الجولان أو بيعه كارثية على نظام البعث، الذي كان الأسد وزير دفاعه. إذ دمر سلاح الجو بالكامل، وقتل (600) جندي، على الجبهة بسبب أوامر حافظ الأسد بالانسحاب الكيفي من هضبة الجولان قبل سقوطها، واحتلت غسرائيل جبل الشبخ، وهو موقع يمكن من خلاله مراقبة كل التحركات في سهل دمشق. كما دمرت مدينة القنيطرة بالكامل لاحقاً، ولجأ (120) ألف نازح إلى العاصمة المحاصرة، وبدا نظام البعث مكروهاً أكثر من أي وقت مضى، فقد اتهمته النخب السورية بإهمال المعركة العسكرية وعدم بقائه إلا بالسلطة، ذلك أن عددا من القوات الخاصة ظل يحيط بالعاصمة من أجل حماية النظام من أي انقلاب، عوضا عن التوجه للجبهة.. ونشطت آلة البعث وإعلامه الدعائي المضجر في ترديد مقولة أن إسرائيل كانت تريد إسقاط (ثورة البعث) لكنها فشلت، لأن نظام البعث باقٍ!

كانت إسرائيل في واقع الحال فرحة بنظام البعث هذا أكثر من فرحة أنصاره به… فقد اكتشفوا عدواً كرتونياً يحاربهم بالشعارات والأغاني، وحين يخسر أرضاً محتلة، يعتبر أنه انتصر لأنه مازال باق في الحكم!

وخلال سنتين اتسعت الهوة بين أقطاب السلطة، ما انتهى إلى نشوب نزاع حقيقي بين معسكرين، فقام صلاح جديد بتجنيد الحزب لمصلحته، أما حافظ الأسد فقد عزز –كما أسلفنا- موقعه داخل صفوف الجيش. وفي 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1970 استغل الأسد أزمة إقليمية جديدة مع قمع الأردن لحرب الشوارع الفلسطينية فيما عرف بـأحداث (أيلول الأسود)، وكذلك وفاة جمال عبد الناصر، لينقلب على نظام صلاح جديد.. وقد شاركه شقيقه رفعت في محاصرة مقر قيادة البعث والقبض على أعضاء القيادة أثناء اجتماع لهم، وزجهم في السجون.

أشعلت وفاة عبد الناصر طموحاً لدى حافظ الأسد وغيره بملء مقعد الزعامة العربية الشاغر… لكن قراءة معمقة في شخصيته ومسار وصوله إلى سدة الحكم التي كانت حديثة العهد آنذاك توضح أن الهدف كان بالغ الصعوبة، ولعل أبلغ اختزال لصورة الأسد حينذاك قدمه الكاتب حازم صاغية في كتابه (البعث السوري) حين قال:
” إن حافظ الأسد بعيد جداً عن أين يكون جمال عبد الناصر، فهو بعزوفه عن الناس وبطلته قليلة الهيبة، وخطاباته العادية والضئيلة التأثير، وعجزه عن استنطاق الأحاسيس وتحريكها، لا يملك شيئاً من الكاريزما التي توافرت لـ “زعيم الأمة العربية” والأسد فوق ذلك. لم يخض معارك مصيرية كحرب السويس في 1956، ولم يصنع وحدة كوحدة 1958، أما المعركة الوحيدة التي خاضها في 1967 بوصفه وزير دفاع، فخسرها، وخسر معها هضبة الجولان. وإذا كان عبد الناصر قد حوصر في الفلوجة في حرب 1948، فإنه ما لبث أن رد بانقلاب غير فيه وجه مصر والمنطقة، بينما انصرف هم الأسد، بعد هزيمته الكبرى، إلى مؤامرات داخلية لتصفية رفاقه، حكيت في الغرف المغلقة وفي الزنازين والأقبية”.

الأسد المتآمر: شحذ الولاءات العائلية والطائفية!

وفي متابعة لمؤامرات حافظ الأسد الداخلية وتصفيته لرفاقه، يمكننا أن نلاحظ أن الفرق العسكرية وشبه العسكرية المكلفة حماية النظام، كلها كانت تحت قيادة أشخاص مقربين من الرئيس، وهم علويون من عائلته أو قبيلته أو عشيرته، أو منطقته في محيط جبلة. إضافة إلى رفعت الأسد الذي كان يقود خمسين ألف عنصر من (سرايا الدفاع)، هناك عدنان مخلف ابن شقيق زوجة حافظ الأسد، الذي كان على رأس عشرة آلاف عنصر في الحرس الجمهوري، إضافة إلى علي حيدر العلوي من جبلة الذي كان يترأس القوات الخاصة. أما بالنسبة إلى المخابرات الجوية والمخابرات العسكرية المكلفتين منع حدوث أي انشقاق في القوات المسلحة، فقد كانت الأولى تحت قيادة العقيد محمد الخولي الذين عين عام 1963، والثانية تحت قيادة اللواء علي دوبا الذي كان بمثابة الرجل الثاني في النظام حتى صيف عام 1990، وأخيراً هناك محمد ناصيف على رأس أمن الدولة، من نفس عشيرة الأسد.

تقول كارولين دوناتي في كتابها (الاستثناء السوري) عن تشابك البنية الطائفية مع العائلية في نظام حافظ الأسد: ” كثيراً ما لوّح [الأسد] باحتمال حدوث حمام دم جديد في معركة الطوائف إذا تخلى عن السلطة. وبذلك ربط حافظ الأسد إنقاذ الطائفة العلوية بمصيره الشخصي. وأكد للعلويين أن دعمهم للأسد هو حماية لهم بصفتهم أقلية”. فكان يقول: “أنت مع الأسد، أنت مع نفسك” وأعطى للطائفة دور حماية النظام. وحظي الأسد بولاء بني طائفته، ما جعله يختار من بينهم رجال الأمن والقوات الخاصة، وغيرهم ممن كلفوا حفظ الأمن بين العلويين”.

عندما وصل حافظ الأسد إلى السلطة، حاول تسوية الخلافات التاريخية بين العلويين لبسط سيطرة عشيرته، ويقول الصحفي الفرنسي ميشيل سورا في كتابه الهجائي المبكر عن حكم الأسد الأب والذي أسماه (دولة البربرية) إن قلبيلة (الكلبية) أصبحت المركز السياسي للطائفة العلوية، وأصبحت مكانة الفرد العلوي، لا تقاس بانتمائه إلى هذه العشيرة أو تلك، بل بدرجة اقترابه من عائلة الرئيس. هذه الدرجة من الاقتراب هي مصدر السلطة الحقيقي. فمن أجل الوول إلى السلطة والحفاظ عليها، استند حافظ الأسد إلى العصبية القبيلية. كما تأثر الحقل السياسي كثيراً بعوامل أخرى، منها الانتماء إلى الريف مقابل الانتماء للمدن، والانتماء إلى القوات المسلحة أو البعث. وقد شكل العلويون في القوات المسلحة والأمن الداخلي قلب عصبية السلطة. بفضل صلتهم العائلية، أو اقترابهم الجغرافي من حافظ الأسد، وأحيانا من دون الانتماء إلى العشيرة أو القبيلة نفسها.

وقد سمح زواج حافظ الأسد بامرأة من عائلة مخلوف (أنيسة مخلوف) بتوسيع نطاق هذه العصبية، فمن بين العلويين، كانت عائلة مخلوف أكثر نفوذا من عائلة الأسد، وكانت مقربة من القوميين السوريين، الذين كانوا يحظون بشعبية كبيرة بين بعض الأقليات، والمقربين من أوساط الأعمال. وقد تكامل دور الحزب مع دور الجيش من أجل تشكيل شبكة واسعة من الأنصار والأعوان، وبالتالي انضم أبناء هذه العصبية إلة حزب البعث منذ سنواته الأولى.

تقول دوناتي في (الاستثناء السوري) ص 125: ” معظم هؤلاء التقوا الأسد في مدرسة اللاذقية، قبل الالتحاق بالأكاديمية العسكرية في حمص. غير أن التضامن الطائفي ليس أمراُ بديهياً دائماً. ما اضطر الأسد إلى اللجوء إلى المحسوبية التقليدية ذات الأساس المادي، فأصبح يوفر وظائف القطاع العام، ويساعد في الحصول على قروض زراعية، وفي الالتحاق بكليات الشرطة (… ) وبالتالي فبدءاً من حراس المباني، ووصولاص إلى كبار المديرين، كان الإدارة المركزية مليئة بالعناصر العلوية “.

الأسد المكيافيللي: عاشق نصائح (الأمير)!

يقال أن لكل طاغية شيطان يعلمه ولكل عالم حكمة تسيّره، ولكن إذا ما كان الحاكم هو الشيطان نفسه فماذا يكون يا ترى؟!

تجربة الزمان تقول ربما وجدناه عند أمير بني الأسد؛ فقد عُرف عن حافظ الأسد كما هو حال بقية القادة، شغفه الشديد بقراءة كتاب “الأمير” للمفكر الإيطالي مكيافيللي الذي كان حالماً بتوحيد إيطاليا عن طريق القوة العسكرية والدهاء، فألف هذا الكتاب لهذا لإرشاد عائلة (مديتشي) حكام فلورنسا لتحقيق ذلك!

إلا أن الفرق بين أمير “بنو الأسد” والأمير الإيطالي هو الهدف الأسمى فبينما هذا الأخير يسعى من وراء وصوله إلى السلطة بالقوة لتوحيد البلاد ضد الخطر الخارجي نجد أمير بني الأسد، يسعى للسلطة لأجل اغتصابها والإحتفاظ بها للأبد وتوريثها لعائلته وهو ما من شأنه أن يهدد وحدة البلاد وقيام النزاعات وهذا ما تجلى في قضية الجولان وإعادة الهيكلة الجديدة لتشكيلات القوة العسكرية على أساس طائفي وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية لما تشهده سورية في عهد وريث “بنو الأسد”.

مما لا شك فيه بأن حافظ الأسد كان من أكثر الحكام العرب تطبيقاً للوصايا التي يحتاجها (الأمير) في طريقه للوصل إلى السلطة وممارستها، إلا أن هذا التطبيق فاق العمل به، إلى درجة التكيّف حسب كل زمان ومكان… وربما هذا ما يفسر استدامة عرش مملكة “بنو الأسد” لفترة سابقة قبل قيام الثورة السورية عام 2011م، لقد طرح مكيافيللي للأمير عدة أساليب تمكنه من الوصول للسلطان وكان يغلب على تلك الأساليب إضافة لاستخدام سطوة سلاحة أوسلاح الآخرين هو وجود الحظ الذي يحتاجه الأمير ليكون في هذا الموضع. ويمكن القول أن عامل الحظ عند حافظ الأسد قد تجلى في العلاقات الجيدة لجده سليمان ومن ثم أبيه علي الأسد مع الفرنسيين التي فصلناها في الجزء الأول، والتي شكلت بداية الطريق لحافظ الأسد بشكل أو بآخر. على الأقل حصوله على التعليم اللازم، للالتحاق بسلاح الطيران في الكلية الحربية.

أما فيما يتعلق بالقوة العسكرية فقد زاوج الأسد بين الأسلوبين فهو في بداية طريقه لم يكن يحتكم على سلطة قبلية أو جاه أو مال ليمتلك من خلالها السلاح، وإنما دخل لأوساط القوة العسكرية في الجيش السوري ودرس طبيعة عناصره ونقاط قوته وضعفه ليستطيع فيما بعد حشد سلاح الآخرين ومن ثم بناء القوة التي سينطلق بها للاحكام على السلطة وهذا ما بدا واضحاً في سياساته الأولية عندما أعيد تشكيل اللجنة العسكرية لحزب البعث وما سبق ذكره.

أما فيما يتعلق بمرحلة توطيد الحكم فحسب (مكيافيللي) يجب على الأمير في المراحل الأولى لتقلده الحكم التخلص من الأسخاص الذين ساعدوه للوصل إليه فهم أشد خطراً عليه من الأعداء، وهذا ما قام به أمير “بنو الأسد” بانقلابه عام 1970م الذي أطاح بجديد ومجموعته والذي لعب دوراً رئيسياً فيما وصل إليه حافظ الأسد، كما يضيف قائلاً أنه يجب على الأمير تشكيل ترسانته العسكرية على أساس الانتماء الوطني لضمان الولاءات حين اشتداد الخطر والابتعاد عن القوات المأجورة لأن ليس لها ولاء سوى حبّ المال، وضمن هذه الجانب المهم نجد مكر حافظ الأسد في تكييف العمل لصالحه فمن جهة أفرغ التشكيلات الوطنية للجيش السوري على ضوء إعادة تشكيل اللجنة العسكرية ثم قام بمساعدة أستاذه صلاح جديد بتسريح العديد من الضباط العسكريين المحسوبين على الطائفة السنيّة واستبدالهم بتشكيل جديد جوهره من ضباط الطائفة (العلوية) التي زعم أنه منها إضافة لمجموعات أخرى هلامية من ضباط الطائفة السنيّة وترافق ذلك مع بثه لأفكار تتعلق بالخطر الدائم للأقلية العلوية ضامناً بذلك ولائهم الشديد في حال حدوث أي أمر طارئ من شأنه أن يهدد عرشه، وكانت تجربة الإخوان المسلمين عام 1982م خير دليل على ذلك فكان الولاء العسكري هو الحاسم الأول والأخير لذلك.

الأسد الموّرث: ينهي الصراع مع أخيه!

في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 1983 دخل حافظ الأسد مشفى الشامي بدمشق. رسميا قيل إن رئيس الدولة كان يعاني من التهاب في الزائدة الدودية، بينما في الواقع الأمر يتعلق بأزمة قلبية. أدى مرض حافظ الأسد إلى نشوب أزمة فراغ السلطة في نظام كان يقوم فيه الحكم على شخص الرئيس وعلى الولاء العائلي ثم الطائفي. لكن الولاء العائلي لم يعد له معنى، عندما اقترح رفعت الأسد المهووس بالسلطة الطائفية المتوحشية في أحط صورها، أن يخلف أخاه في منصب الرئاسة، ما أظهر طموحاً كبيراً أدى إلى نشوب خلافات غير مسبوقة في معسكر الأسد.

فيما يذكر مصطفى طلاس في كتاب طبع في السنوات الأولى من عهد بشار ثم أمر بسحبه من الأسواق، أن رفعت أثناء مرض أخيه، كان ينوي قصف دمشق من جبل قاسيون، واستباحتها لجنوده وسرايا الدفاع إذا ما قاوم أحد استيلائه على السلطةويقول باتريك سيل إن (اللواءات) الأكثر نفوذا في البلاد كانوا يحيطون برفعت الأسد، ويرفضون لجنة من ستة مسؤولين في الحزب كلفهم حافظ الأسد تسيير شوؤن البلاد في غيابه، غير أن الأوضاع تعافت فور تعافي الأسد، فجدد الضباط ولاءهم ومبايعتهم له،، وبدأوا يخططون ضد شقيقه رفعت. واستغل حافظ الأسد تنوع الأجهزة الأمنية لإعادة بسط سيطرته على البلاد… كما تمكن من تفكيك (الدولة داخل الدولة) التي كونها رفعت الأسد!

إقرأ أيضاً: شهادات من سجون الأسد: أشجع رجل رأيته في حياتي

من خلال تلك الإستراتيجيات العديدة تمكن الأسد الأب من الإبقاء على ركائز عرشه قوية ومستقرة جاهداً في تجهيز ابنه باسل الأسد لتسلم العرش ولكنه موته في حادث سير غامض على طريق مطار دمشق الدولي عام (1994) أحبط كل مخططاته وأحلامه، وأذاقه لوعة فقدان الابن التي جرعها لآلاف السوريين من الذين قتل أبناءهم في سجونه وهم في ريعان الشباب.. فاتجه إلى أخيه الأصغر بشار الأسد وفي مطلع عام 2000م توفي حافظ الأسد وتم توجيه ضربة مهينة جداً للدستور السوري (الشكلي في الأصل)، بتنصيب بشار الأسد الأمير الثالث في مملكة “بنو الأسد” بعد تعديل بند (سن الرئيس) ليناسب سنه في غضون دقائق في مجلس الشعب الصوري الهزيل!

الأسد الوارث: الصعود إلى الأسفل!

على الرغم من الطريقة التي أتى بها بشار الأسد إلى الحكم كوريث عن حكم أبيه وما رافق ذلك من حساسيات سياسية وخاصة أن نظام الحكم في سورية هو نظام جمهوري إلا أن ممكلة “بنو الأسد” لازلت باقية… وقد تأمل الناس خيراً في مقولة أن هذا الابن قد تعلم في بلاد أجنبية ذات حضارة وعراقة، ولم يكن عسكريا قاسياً كأبيه، أتى من حزب مدرسة البعث القمعية، وزج كل رفاقه في السجن حتى الموت ودمر حماه فوق رؤوس أهلها… وأنه آت ضمن حملة تطوير وتحديث هدفها نقل البلاد إلى عهد جديد، بغض النظر عن الخرق الدستوري الذي حدث.. إلا أن الواقع سرعان ما أثبت لهم أن الولد هو ابن أبيه، وابن قيم هذه العائلة المجهولة الأصول، المتهافتة الأخلاق!

قال بشار الأسد في إحدى خطاباته الأولى من فترة حكمه أنه “يريد إعلان بدء مسيرة الإصلاح إلا أنه لا يملك عصى سحرية ليحول كل شيء في الدولة كما يجب أن يكون وإنما تحتاج المسألة إلى وقت وجهد مشترك مبني على أسس محددة من شأنها أن تحقق هذا الأمر”.. لكن كلمة العصا السحرية، تكررت في كل خطاباته اللاحقة وتحولت إلى لازمة لتبيرير نكوصه وتخاذله في تحويل أقواله إلى أفعال!

قام بإطلاق سراح أعداد محدودة من المعتقلين السياسيين في عهد أبيه وافتتح بعض المنتديات للحوار وللنقاشات الديموقراطية كان من ضمنها منتدى “أبو زلام” في حي البرامكة بالعاصمة دمشق الذي كان يجمع بعض المفكرين الإقتصاديين والسياسيين وقد اعتقل منه أستاذ جامعي في أواخر العام 2003م!!، يبدو أن السلطات الإستخباراتية لم ترضَ عن هذه السياسات للأسد الابن، وأن (الحرس القديم) مازال يحيط بالرئيس الإصلاحي الشاب، ولكن قيام الثورة السورية بيّنت الكثير من الحقائق.. وأكدت مقولة (فرخ البط عوام) فقد بزَّ بشار الأسد أباه في الحسابات الطائفية وفي القتل والتعذيب الممنهج، واستراتيجية الاغتيالات السياسة لشخصيات الفاعلة في المنطقة. وإن لم يبلغ مرتبة والده في التخطيط المؤامراتي الاستراتيجي، وفن التكتيك الدبلوماسي، واللعب على الحبال.. فشتان ما بين الإثنين من ناحية الدهاء والمكر والتصرف الدقيق إلا أن الثوابت قد بقيت على حالها في القمع والقتل وارتكاب المجازر.

إقرأ أيضاً: عائلة الأسد: أصول غامضة .. وتضارب مثير للشكوك

فعلى صعيد العلاقات الخارجية لم يستطيع الأسد الابن أن يكون فاعلاً ضمن الساحة الإقليمية كما كان أباه وإنما أصبح تابعاً لبعض الدول الإقليمية؛ وقد تجلى هذا الأمر في عام 2005م عندما بدأت تظهر االمزارات الفارسية (الشيعية) في مناطق من دمشق والتي هي غريبة عن سورية حتى في عهد الأسد الأب، الذي كان واضحاً في تلك الأمور، وانكشفت هذه التبعية بشكل جليّ عند قيام الثورة السورية ضد حكم الأسد الإبن فعلى الصعيد الدولي بتنا نشهد وزير خارجية روسيا مدافعاً عن النظام ويشرح وجهة نظره على شاشات التلفزة أكثر مما نرى وزير الخارجية وليد المعلم الملقب بـ “فخر الدبلوماسية السورية” ومع تطور الأحداث في سورية بات التدخل الإيراني شديد الوضوح عسكرياً وسياسياً فاليوم الفصائل الفارسية (الشيعية) التي تقاتل ضد الثوّار، والضباط الإيرانيون هم المخططون الحقيقيون لإدارة الأزمة السورية مع نظرائهم من المستشاريين الروس، ومن هم في مصافهم على الساحة الإقليمية.

في هذا السياق فإن كتاب (مكيافيللي) يحذر الأمير مما يلي:

” يجب على الأمير الإنتباه من الإعتماد على المرتزقة المأجوريين فيما يخص قوته العسكرية التي يحارب بها فمهما بقيت تقاتل فإن ولائها زائف إما عند زوال المال أو زيادة في المال من قبل خصومك فيتركوك وحيداً مهيأً للخسارة الحتمية مهما فعلت وأينما ذهبت.

وفي فصل (المهابة والخوف من الأمير) يقول:

” تبقى سيداً ما دمت الأمير الذي يهابك الناس ويخافوك ويحترموك ويخافون سطوة غضبك فبهذا تبقى حاكما إلى ما تشاء ولكن لتعلم أيها الأمير إن تمت إهانتك وشتمك الناس وأهينت رسومات صورك وباتت تحت مداسهم فاعلم أنك ساقط عن عرشك تحت رحمتهم لا محالة ولا مفرّ من ذلك”.

إن مكيافيللي صاحب نظرة تحليلية في دراسة الظاهرة االسياسية بواقعية صرفة، وقد برع ونجح باستخراج قوانين عامة من وراء المنهج التحليلي التاريخي؛ وفي هذا السياق أظن أن الشعب السوري قد فعل أكثر من ذلك بكثير ثأراً لكرامته لا لطعام ولا لملبس وإنما ثأر الكرامة والديموقراطية السورية التي إغتصبتها مملكة “بنو الأسد” لأكثر من خمسين عام وهو ماض في ثورته مهما جرت من محاولات لإجهاضها فإنها تلد من جديد.

بعد هذا الماضي المرير لا نستطيع القول بأن الثورة السورية قد قامت كردة فعل طبيعية مع قيام ثورات “الربيع العربي” وحسب، فصحيح أن جميع أنظمة البلاد العربية ذات طابع ديكتاتوري بنسب أو بأخرى، إلا أن فهم الظروف التي تكلمنا عنها وإخضاعها لتحليل منطقي يبين أن هناك أسباباً موضوعية وجيهة للقيام بالثورة على مملكة بني الأسد، التي فاقت جميع الديكتاتوريات في العالم في إجرامها وتسلطها، بل وتصارعها من أجل السلطة… إلا أن الحالة العامة التي مرت بها المنطقة قد أشعلت فتيلها المتقد… وهكذا قامت الثورة السورية لدحر ماض أسود وبناء حاضر ومستقبل جديد…و لكن متى يكون الإنتصار ومتى تطفئ نارها الأيام القادمة ستخبرنا بذلك، وعندها ستكون عائلة الأسد برمتها، ذكرى من ماض يجاهد السوريون كي ينسون وقائعه الدامية في تاريخهم.

(أورينت نيوز)

السابق
هيئة علماء المسلمين: الدولة تسمح بأن يقاتل حزب الله في سوريا فيما تعتقل رموز أهل السنة
التالي
اسرار الصحف المحلية الصادرة ليوم الجمعة الواقع في 7 تشرين الاول 2016