أردوغان في موسكو منتصر.. بالتأكيد غير منكسر أو مهزوم

أثارت زيارة الرئيس التركي رجب اردوغان الأخيرة لروسيا نقاشات وسجالات واسعة، بينما خرج الحشد الشعبي الإعلامي المتشنج في بيروت وغير بيروت عن طوره لإثبات أن ثمة تغيّر في الموقف التركي، وأن الرئيس اردوغان يذهب إلى روسيا ضعيفاً، مكسوراً، رغم قراءات مناقضة حتى داخل الحشد نفسه رأت العكس، وأنه ذاهب إلى موسكو متسلحاً بانتصاراته الداخلية والخارجية في سورية وحلب تحديداً، بينما كان ثمة قلق مشروع لكنه غير مبرر أبداً من قبل الأصدقاء والحلفاء على جوهر الموقف التركي من الثورة السورية مستجداتها، وآفاقها.

اقرأ أيضاً: تقارب روسيا – تركيا يقلق إيران أو بشار؟

بداية لا بد من التذكير أن اللقاء بين ارودغان وبوتين كان مقرراً سلفاً حتى قبل الانقلاب، وأن المصالحة التركية الروسية تمت نتيجة لحاجات ومصالح مشتركة للبلدين، ولم تكن أبداً أحادية أو من طرف واحد، كما ادعى ويدعي إعلام الحشد الشعبي الإقليمي والدولي. كما أن أنقرة لم ولن تعتذر عن إسقاط الطائرة الروسية – ازفيتنه فقط بالروسى يعني لا تواخزونا بالعربي – وبالتأكيد لن تدفع تعويضات؛ علماً أن الأمر لم يطرح أبداً خلال الزيارة الأخيرة – كما أكّد الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن – ولم يكن مطروحاً أصلاً سوى في خيال الحشد الإعلامي الموتور والأسير.

الانفتاح والتطبيع مع روسيا كان جزء من السياسة الخارجية التركية الجديدة منذ التغيير الحكومي الأخير، والتي تضمنت أيضاً المصالحة مع إسرائيل، والسعي لمزيد من الانفتاح على دول الجوار في البحرين الأسود والمتوسط، ولم تكن أبداً تنازلات من جانب واحد أو نتيجة ضعف، وإنما تم التوصل إلى تفاهمات متبادلة ومتوازنة على أساس المصالح التركية القومية، ودون النيل من هيبة أو سلطة الدولة وسيادتها داخلياً وخارجياً.
في الحالة الروسية كانت موسكو بحاجة إلى أنقرة بقدر حاجة الأخيرة إليها، وربما أكثر ولم تتوقف – كما فعل الحشد الشعبي الإعلامي وأبواقه – عند قصة الاعتذار والتعويض، واكتفت برسالة أو كلام فضفاض وعام عن الأسف، وشرعت بفتح صفحة جديدة نتيجة لحاجات استراتيجة مشتركة سياسية أمنية واقتصادية، حيث تضررت موسكو من العقوبات بقدر تركيا، والأهم أنها خشيت من فقدان سوق الغاز التركي. كما من فقدان التأثير على سوق الغاز الأوربية مع قرب الانتهاء من خط تاناب-ينقل الغاز الاذرى الى اوروبا- والتفكير الجدي في مدّ أنبوب مماثل لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، ودائماً عبر الأراضي التركية التي تحولت إلى مصدر لنقل وتوزيع الغاز من الشرق الشمال والجنوب إلى الغرب طبعاً.

الانقلاب الفاشل ساهم فقط في تسريع السيرورة الروسية التركية التي كانت قد انطلقت أصلاً. وهنا يجب الانتباه إلى الموقف الروسي الحازم الرافض له، والمساند للسلطات الشرعية المنتخبة في تركيا، والذي كان العامل الديموقراطي فيه هامشي كون السلطات في روسيا لا تقيم وزناً أصلاً لهذا الأمر. وببساطة فهمت موسكو الانقلاب بصفته محاولة غربية لإعادة تطويع لتركيا، واستخدامها كمخلب قط ضد الدب الروسي. كما حصل في زمن الحرب الباردة، وطي صفحة الاستقلالية الاردوغانية الندية تجاه العالم، ولكن الرافضة لخوض المعارك بالنيابة أو التحول إلى رأس حربة ضد روسيا كما في الحقب السابقة.

المعطيات السابقة كلها تبدت في الزيارة الأخيرة للرئيس اردوغان لموسكو، والتي حصلت ليس فقط على وقع الانقلاب الفاشل، الذي ضاعف شعبية اردوغان وزاد من قوته في الداخل، وانما ايضاً على وقع انتصارات المعارضة في سورية وحلب، تحديداً والتي حملت بصمة تركية لا يمكن تجاهلها و كسرت ليس فقط الحصار على حلب فقط، وإنما وهم الروس وحلفائهم في الخيار الشيشاني، وكسر المعارضة وإجبارها على الاستسلام للتسوية أو اللاتسوية التجميلية والشكلية التي طرحتها موسكو بدعم غير خفي من واشنطن، الساعية واللاهثة خلف الحل السياسى الروسى المتعجرف والدموى للقضية السورية حتى لو كان غير عادل أو مستدام.

تركيا روسيا

استقبل أردوغان إذن بحفاوة واحترام في موسكو، لم يتم التطرق من قريب أو بعيد لقصة إسقاط الطائرة، وإنما جرى التركيز على أمرين مهمين الاقتصاد والقضية السورية، وفيهما كانت الندية حاضرة جلية وحاجة روسيا فيهما إلى تركيا لا تقل، وربما تزيد عن حاجة الأخيرة لها.
في الاقتصاد جرى التركيز أساساً على الطاقة التجارة والاستثمارات المشتركة طبعاً والسعى لرفع حجم التبادل التجارى بين البلدين ثلاثة اضعاف تقريبا ليصل الى 100 مليار دولار سنويا ، استحوذ الملف الأول على الاهتمام الأكبر مع توافق وتفاهم على الملفات الأخرى التي تتضمن تفاصيل كثيرة سيتم العمل عليها من قبل الوزارات والهيئات المختصة ، ، سيستمر طبعا الاعتماد التركي على الغاز الروسي الذى يلبى ثلثي حاجة السوق بمعدل 56 مليار متر مكعب سوياً، مع استمرار السعر المخفض طبعاً، وإضافة إلى المشروع الاستراتيجي الأهم والمعروف بالسيل التركي، والذي سيضمن أيضاً حصة روسيا في السوق الأوروبية، ويوازن مع الخطط الأخرى ذات الصلة مثل خط تاناب الاذرى، والخط الإسرائيلي المحتمل، وسيجري توقيع التفاهمات النهائية بخصوصه في أيلول، وربما يكون المشروع جاهزاً بعد ثلاث سنوات، وبينما سيتحمّل الطرفان التكاليف مناصفة بينهما، مع سعي للدمج مع مشروع تاناب الاستراتيجي أيضاً.

أنقرة سعت ببساطة إلى طمأنة روسيا إلى حصتها ومكانها المركزى في السوق التركية، كما في السوق الأوروبية – عبر تركيا بشكل عام – ولكن ضمن حزمة اقتصادية تبادلية وندية كاملة تتضمن إعادة تصدير الخضروات والأجهزة الكهربائية، وقطع غيار السيارات التركية إلى روسيا، وعودة قطاع الإنشاءات والمقاولات إلى ممارسة عمله وبنشاط في السوق الروسية – تم تنفيذ مشاريع بعشرات مليارات الدولارات في السنوات العشرين الأخيرة – وتشكيل مجلس اقتصادي برأس مال مشترك للاستثمار في البلدين، وحتى في مناطق أخرى.

الندية كانت حاضرة كذلك في الملف السوري، وعلى قاعدة تنظيم الخلافات للحفاظ على المصالح المشتركة الثنائية، وتم تشكيل لجنة ثلاثية سياسية أمنية عسكرية للتنسيق بين البلدين –تشبه ما تم مع أمريكا وليس مع اسرائيل حيث الجانب السياسى يكاد يكون غائب-وتحاشي أي اصطدام كما حصل في إسقاط الطائرة الروسية ، والأهم أنه جرى التوافق على محاربة الإرهاب داعش وبي كا كا السوري، الذي تم إغلاق مكتبه في موسكو، بل أنكر الرئيس بوتين أي علم له بالأمر- وطرحت تركيا وجهة نظرها المعلنة والثابتة الرافضة لاستفادة إرهابيين من قتال الإرهابيين أو تقوية نظام بشار الأسد على حساب المعارضة التي لن تسمح تركيا بكسرها، كما اتضح من معركة أو ملحمة حلب الكبرى.

كان لافتاً ضمن نظيم الخلافات إشارة الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالين أحد مهندسي، بل المهندس الرئيس للمصالحة مع روسيا إلى التوافق على أربعة خطوط عريضة مع الاختلاف على التفاصيل والآليات، وهي وقف الأعمال القتالية، إيصال المساعدات الانسانية خاصة في حلب، تحقيق مرحلة الانتقال السياسي والحفاظ على وحدة التراب السوري، والنقاش سيتحور حول كيفية العمل على حل الخلافات أو التقريب بين المواقف مع التأكيد على الموقف التركي كما قال كالن نفسه والمتضمن عدم حدوث تغيير تجاه بشار الأسد ونظامه، وضرورة رحيله من أجل تحقيق الانتقال السياسي بنجاح وفعالية.

تركيا تفهم طبعاً أن روسيا باتت لاعب مهم في الملف السوري، وهي تفهم وترى بأمّ العين تورط موسكو استنزافها وغرقها في الوحل السوري، وهي كما الرياض وعواصم معنية أخرى مستعدة للمساهمة وللتوصل إلى حل سياسي، ولكن دون تذاكي أو تحايل وفق إعلان جنيف نصّاً وروحاً، ورحيل نظام الأسد سلماً أو حرباً.

لا أفهم المنطق الذى يزعم أن تركيا إنثنت أمام روسيا ، ولا تبدو أنقرة مضطرة أصلاً سياسياً اقتصادياً وأمنياً لتقديم التنازلات، لا لموسكو، ولا لغيرها، وهي ما زالت مصرة أو متمسكة بموقفها المحق والحكيم من القضية السورية العادلة، وهي مقتعنة بحقائق التاريخ الجغرافيا، و الواقع ، وتفهم أن موسكو بحاجة لها، أيضاً وأن العلاقة ندية ومتساوية والخلافات سيتم إدارتها أو تنظيمها إلى أن يحدث التغيير المنتظر في الموقف الأمريكي الذي سيجبر موسكو ساعتئذٍ على الانخراط في حل سياسي جدّي، دون الأسد ونظامه، وعلى أساس بيان جنيف نصاً وروحاً مع الحفاظ على وحدة التراب السوري أي كان النظام السياسي الذي سيتوافق عليه السوريون في سوريا الجديدة.

(اورينت نت)

السابق
روسيا وأميركا يقتربان من الاتفاق على عمل عسكري مشترك ضدّ المتشددين في حلب
التالي
قاسم: قانون النسبية هو الأعدل