إنهم يقتلون الجياد… فمتى رصاصة الرحمة؟

حصان
ظل عنوان رواية الأميركي هوراس ماكوي "إنهم يقتلون الجياد..." سببا لخوف أفسد عليَّ بعض سنوات طفولتي، وحرمني من الاستمتاع بما أناله من علامات جيدة في المدرسة. لاعتقادي أن "الجياد" جمع لكلمة جيد، وإذا ما حصلت على هذه المعدل، سوف أكون هدفا لقاتلي الجياد!

أدركت بعدما قرأت الرواية أن فهمنا الخوف والطمأنينة، بناء على الاكتفاء بقراءة العناوين دون الخوض في تفاصيل الروايات الموضوعة أمامنا، ليس قصورا طفوليا بقدر ما هو سمة مجتمعية، بفوارق غير بسيطة بين الطمأنينة والخوف البريئين أو الساذجين.

اقرأ أيضاً: المرأة الإيرانية بدأت بتحرير نفسها… ولم تنتظر وعود الإصلاحيين (4)

حيث أن الشعور الأول يأتي من فطرة إنسانية، وعدم قدرة على تفسير الوقائع بحكم العمر وقلة التجربة، بينما يسيطر الآخر نتيجة سذاجة اختيارية أو تسليم أو انقياد أو رغبة في عدم المعرفة عن قصد، ما يدفع إلى فكرة الاحتماء أو اللوذ بالجماعة من خطر الآخر، ليس لأنه خطر، إنما لكونه لا يشبهنا. فتصبح مفردة “إنهم” بما تحمله من مخزون تجهيل الفاعل الغائب أبدا، والآخر دائما، والذي لا بد أن يكون قاتلا، شريرا، يكمن للناس الجيدين الذين هم نحن فقط، هي اللغة الوحيدة التي يراد لنا التخاطب بها.

انطلاقا من هذه اللغة أُريدَ للمجتمع الشيعي الجنوبي منذ بدأت تنمو بذور وعيه السياسي، أن يبقى خائفا من الآخر، فانتزعت من ذاكرته محطات تاريخية كان فيها على جهوزية تامة لإثبات هويته وانتمائه إلى وطنه النهائي كواحد من جميع أبنائه. اختطف دور زعمائه في مرحلة الاستقلال وبناء الدولة، وسمح له أن يعيَ مظلومية استبعاده واستعباده فقط، وذلك في سبيل أن تتشكل في ذهنه لاحقا ضرورة رصّ الصفوف والقتال من أجل استرجاع الحقوق المغتصبة أوالمهدورة، والأحقية بتسيّد مرحلة ما، انتقاما من تسيّد غيره مراحل سابقة.

الشيعة في لبنان

واستكمالا… اصطنعوا له الخوف، وحين تخبط في لجته، لم يمدوا يدهم لانتشاله بل لإفهامه أن ترك هذه اليد يساوي الغرق. كما أن تضافر التاريخ والجغرافيا ساعدهم في تشكيل دواعي هذا الخوف وأسبابه، فزيّن للشيعي في هذه الزاوية الضيقة من الكرة الأرضية، أنه من العالم بمثابة القطب من الرحى، فعمد إلى تنويع انتماءاته، مبالغا في تعدد صلاته المبنية عليها، وتوسيع وطنه وتمدد هويته تبعا لطبيعة هذه الصلات. فأصبح فلسطينيا، سوريا أوما يساويهما بالمجاورة، أكثر منه لبنانيا بالخارطة، وعروبيا قوميا أممي الفكر والنضال، دون نسيان إرثه النجفي، وتطعيمه بمرجعية إيرانية. وعلى مستوى أدنى ظل فلاحا أسعديا، محروما أمليا، ومقاوما إلهيا.

وصارت ردات فعله ومواقفه تأتي تبعا لما تعانيه هذه الهويات في إثبات تفوقها، فتجعله تصادميا، يجاهر بعداواته وينكر صداقاته، أو متحفظا، يبتعد عن غيره أو يكاد ينفصل عنه، وفي الوقت ذاته يحافظ على مسافة صمت مريب أو حتى ضجيج مريب من كل من وما حوله.

بالعودة إلى رواية “إنهم يقتلون الجياد…” التي تعد وثيقة تاريخية لمآسي الحياة الإنسانية بعد الأزمة الاقتصادية التي مر بها الغرب في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي تركت حالا من اليأس في المجتمع الأميركي، يبدو أن المجتمع الشيعي في الجنوب يتجه نحو كتابة روايته الخاصة من هذا النوع. علما أن حجم الكوارث الإنسانية والوطنية المترتبة على أزماته الوجودية سيكون أضخم تبعا لحجم تضحياته أو بالأحرى مدفوعاته.

اقرأ أيضاً: نساء يطرزن الحنين بخيوط الأمل

وكما تساقط المتسابقون في الرواية إعياء الواحد تلو الآخر، بينما ظل القيمون على المسابقة مستمرين في المتاجرة، ينتظر الطائفة الشيعية المصير ذاته، بعد أن سلمت زمام أمرها إلى حفنة من التجار، يستخدمونها جيادا في السباق، وحين يستنزفون طاقاتها ويستهلكون قدراتها في الحلبة، ويحلّ بها التعب، قد يخرج من بينهم من يطلق عليها رصاصة الرحمة.

 

السابق
الحريري من مجلس النواب: لا أريد إتهام الجميع بالتعطيل واتفهم فرنجية
التالي
بدء التوقيت الصيفي إعتبارا من منتصف ليل 26 27 آذار الحالي