عن أيام سينما كابيتول… والخلاعة في زمن الثورة!

سينما
لم يبقَ من خيار أمام القيّمين على سينما "الكابيتول" في النبطية سوى حلّ واحد: تبديل كل كراسيها بمقاعد معدنية، بعد أن اضطرّوا لتغييرها لمرّات كثيرة. فالمقاعد المعدنية لا تقدر على تمزيقها خناجر المقاتلين ولا سكاكينهم أو أظافرهم.

كان ذلك قبل عام ١٩٨٢، حيث كانت هذه السينما الواقعة الى الشرق من سوق النبطية الملتقى الدائم لمقاتلي الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية بسلاحهم الكامل وثيابهم المرقّطة. وفي زمن الكسل والبطالة الثورية ووفرة المال كان هؤلاء يقضون أوقاتهم هناك قرب السوق للتسلية والهروب من الملَل.

اقرأ أيضاً: عن جمّول التي حرّرت الجزء الأكبر من لبنان

كان هؤلاء يقصدون سينما الكابيتول بمختلف انتماءاتهم العقائدية، حتّى أنّ مشاداتهم الكلامية كانت تحصل في الداخل أيضاً.

ففي إحدى المرّات، وعندما مرّت على الشاشة صورة جورجينا رزق – ملكة جمال العالم السابقة – صرخ أحدهم: “والله نيّالك يا بو حسن سلامة”… عندها بلغ غضب مقاتلي فتح الموجودين في الداخل ذروته، وبدأوا بإطلاق الرصاص على سقف السينما. فالرجل (ابو حسن سلامة)، كان زوج جورجينا الشرعي، وهذا ما اعتبره المقاتلون تعدّياً على عرضهم وكرامتهم بشكلٍ مباشر.

جمول

كنتُ من الذين لم يعرفوا ما هي السينما عندما قرّرت قيادة المنطقة في حزبنا الشيوعي، دعونا لحضور فيلم حول الثورة العظمى في روسيا وحول شخصية القائد لينين. كنّا حينها نخضع لحلقات تثقيفية تمهيداً لإنتسابنا للحزب، إذ أنّ مشاهدة هذا الفيلم، بإعتقاد الرفاق حينها، كان سيشدّ عصبنا الشيوعي أكثر.

عند مدخل السينما نظرت باتجاه ملصق كان بمثابة إعلان لفيلم خلاعي سيعرض بعد أيّام، شعرت وكأنّ قلبي يقفز من مكانه، رغم أنني حاولت أن أبدوَ غير مكترث، تماماً كما فعل أصدقائي.

دخلنا الى القاعة وجلسنا على تلك المقاعد الحديدية. كان الجميع مشدوهاً بفعل ما يحصل على الشاشة، أمّا أنا فقد كنت وكأنني قد تحوّلت الى جزء من المُلصق في الخارج. حفظت موعد العرض بالتحديد، كما حفظت تفاصيل ذلك الجسد على ذلك الملصق… كنت أراقب خطابات لينين وطلقات الثوار البلاشفة وصراخهم، في نفس الوقت الذي كنت أخطّط بالحضور الى النبطية والتسلل لحضور ذلك الفيلم الخلاعي… كان همّي هو كيفية الدّخول الى هناك من دون أن يراني أحد من أهالي القرية، والذين غالباً ما يتواجدون في السوق وحوله من أجل التسوّق.

تآمرت وبعض أصدقائي على حضور ذلك الفيلم. فيلم لينين كان مجانياً، أمّا الثاني فكان بحاجة الى تدبير المال من أجل السرڤيس من جرجوع الى النبطية ومن ثم العودة، بالإضافة الى ثمن بطاقات الدّخول وبعض الحلويات أو سندويشاً من محل فلافل الأرناؤوط المقابل للسينما.

تعهدنا بشكلٍ حازم بالحفاظ على سرّية تلك الخطوة، فأي خطأ سيعرضنا الى العقاب في المدرسة والحزب بالإضافة الى عقلب عُصي أبائنا، لذلك تحايلنا وراقبنا المنطقة جيداً قرب “الكابيتول”، ثم دخل أحدنا بسرعة من أجل شراء البطاقات. وبإشارة منه كنّا نتسلّل الى الداخل بإنتظار ما سنشاهده لأول مرة في حياتنا: بدأ العرض وبدأت قلوبنا تدقّ بسرعة، حتى صرنا نسمع صوتها… عند إطفاء النور وبدء العرض …جنس وشقراوات من قارة أوروبا… صار كلّ منا يغوص في عالمه الخاص… لم يعد يهمّنا من كان الى جانبنا من أعداد للمقاتلين وسلاحهم… كانوا أقلّ هدوءاً منّا… ربما لاعتيادهم على مشاهدة ذلك النوع ومزاولتهم لأشياء لم نكن نحن على علمٍ بها… لم تكن أيديهم في القاعة تقبض على البنادق… كانت في مكان بعيد عن البندقية وقُدْسيّتها!

كنّا قد اشترينا بطاقات دخول الى ” البلكون “. الحضور في الصالة تحتنا كان كثيفاً. كان همّي الأوّل أن لا يشاهدنا أحدٌ من القرية… صرت أراقب الرؤوس في الأسفل بدقّة متناهية، الى أن وقعت عيني على رأس أعرفه… هو رجلٌ خمسيني من القرية… أسرّيت لصديق كان بقربي: “أليس هذا رأس فلان؟”… تفاجأ هو الآخر بأن يكون ذلك الرّجل هناك… حرصنا على الخروج قبل انتهاء الفيلم بقليل، مخافة أن يرانا…

عند تسلّلنا الى الداخل حاول الحارس، وكان فلسطيني الجنسية، منعنا من الدخول لمشاهدة ذلك الفيلم بحجة عدم بلوغنا سنّ الرّشد (كنّا حينها نبلغ حوالي الرابعة عشرة). قلنا له بشكلٍ حازم: نحن رفاق في الحزب الشيوعي! كان هذا كافياً للسماح لنا بالدخول الى عالم أفلام الخلاعة!

كنّا نحسد ذلك الحارس على تمتعه بمشاهدة ما يريد كلما أراد ذلك، فهو الآمر الناهي هناك، وسلاحه كان يتكئ على زاوية غرفة شراء التذاكر…

بعد الاجتياح شاهدته في معتقل أنصار، كان وجهه شاحباً. اقتربت منه وسألته: بعد الإفراج ستسمح لنا بالدخول ومشاهدة الأفلام تلك؟ أجابني وكان يضع يده على الشريط الشائك: نعم، لقد أصبحتم الآن في سن الرّشد!

اقرأ أيضاً: ذاكرة السينما اللبنانية من خلال إعلانات أفلامها

كنت أُمازحه… وهو المسكين كان يعتقد بأنّه سيعود “للكابيتول” ومقاعدها المعدنية… هناك تعرّف على الثورة ومبادئها، لا ألومه!

السابق
الحريري طلب من فرنجية مراعاة جعجع وجنبلاط والجميّل خلال عهده
التالي
لماذا تصعد روسيا ضد تركيا في سوريا؟