قوة الحراك المدني في نبضه المطلبي، في كونه يلتقط لحظة لبنانية جامعة رافضة لاستهانة السلطة بحقوق مواطنيها المطلبية، في معالجة قضية النفايات، في ازمة كهرباء لبنان المستفحلة، في حقوق المواطن المعيشية وحقه في الحصول على فرص العمل، في الاهتمام بالشباب كعنصر حيوي تجري عملية تهميشه ونبذه في اولويات السياسات العامة للبلد… وقبل ذلك كله في اجماع اللبنانيين على رفض الفساد والافساد اللذين استفحلا داخل الطبقة الحاكمة وأذرعها في الادارة العامة والمؤسسات العامة وفي الحياة العامة.
هذه العناوين محلّ اجماع لا جدال فيه وأظهرت العديد من استطلاعات الرأي وتظاهرة 29 آب انها المطالب المشتركة بين مختلف المجموعات المتنوعة، وصولا الى الافراد الذين شاركوا في هذه التظاهرات بصفتهم الشخصية. وهذه العناوين التي تندرج تحت عنواني الفساد الرسمي من جهة والاستلشاء الحكومي تجاه حقوق المواطنين، لا تلغي حقيقة وجود مطالب سياسية مشروعة ومطلوبة تندرج تحت عنوان مقدمها الاصلاح السياسي، من خلال اقرار مشروع قانون انتخاب عادل على القاعدة النسبية. على ان انتخاب رئيس للجمهورية هو بالضرورة امرٌ ملح من الناحية الدستورية، بالاضافة الى كون الفراغ في الرئاسة الأولى سبباً جوهرياً لما وصلت اليه الاوضاع في البلاد من دون ان يختصرها.
في الجملتين السياسيتين الاخيرتين سيبدأ التباين بين المتفاعلين مع الحراك المدني وداخله، فجمهور 29 آب قد لا يكون متفقا على من اين أولوية انتخاب رئيس او انتخاب اعضاء مجلس النواب، هذا التباين حقيقي وموجود، وهو جدل خطير ولغم سياسي يهدد الحراك المدني من قبل السلطة، اذ أن وحدة الموقف من القضايا المطلبية وصلابتها في مواجهة اطراف السلطة، تقابلها كفاءة السلطة الحاكمة في جرّ الحراك نحو هذا اللغم، والغاية من العمل على تفجيره اعادة الانقسام الى صيغته الآذارية، من خلال خلق صراع وهمي بين اولوية انتخاب رئيس او انتخاب اعضاء مجلس النواب عبر قانون انتخابي جديد.
القول بأن الاصلاح ومعالجة التراكمات في الفساد وفي انتهاك الحقوق الدنيا للمواطن اللبناني، تتطلب اصلاحاً سياسياً، هو وجهة نظر وجيهة ولها منطقها المتماسك، لكن عود الحراك الطري، يجعل من دخوله في العنوان السياسي الاصلاحي، امراً خطيراً على الحراك نفسه وسبيلا لتشتت عناصر تكوينه من المجموعات المدنية وصولا الى انفضاض اجزاء فاعلة من الجمهور من حوله، وهي من حقها ان تكون حذرة من العناوين السياسية في ظل عدم ثقتها بقدرة هذا الحراك على قيادة مرحلة تغيير سياسي لمصلحة المواطنين من دون ان يسقط في حبال الانقسام السياسي والطائفي في البلد. نعم قوة النظام الطائفي وطراوة عود الحراك تجعلان من الشأن السياسي رغم حيويته في عملية التغيير امراً يهدد الحراك.
المتصدّون لادارة الحراك لاتكفي مصداقيتهم الشخصية وطموحهم ونضالهم ليدفعوا الحراك لاسيما بعد يوم 29 آب، نحو معركة غير مضمونة النتائج. فعامل الثقة يتطلب نجاحات الحراك بتحقيق مكاسب ملموسة للناس، بناء الثقة يتطلب الوصول الى برّ الأمان في ازمة النفايات اولاً وهو أمر لم يتحقق بعد، لكن في الموازاة ثمة فضيحة كبرى تنتظر الحراك في ملف الكهرباء، ومافيا المولدات الخاصة، وحسنا فعلت مجموعة #بدنا_نحاسب بالاعتصام مساء امس امام مؤسسة كهرباء لبنان في بيروت، فهذا المسار من التصدي للملفات الحيوية والمطلبية التي يهدد وجودها الفساد كفيل ببناء جدار الثقة بين عناصر الحراك من جهة وبين هذا الحراك والجمهور من جهة ثانية. علماً ان حافز جذب اوسع دائرة من المجموعات الناشطة في عناوين حقوقية واجتماعية وانمائية ونقابية وغيرها من الفئات المتضررة من السياسة الحكومية، يجب ان يبقى همّ وشرط استمرارية الحراك وتوسعه مناطقيا واجتماعياً.
العنوان السياسي بمعناه التفصيلي والذي يحاكي الانقسام الطائفي او الانقسام الآذاري، هو الفخّ الذي يجري اعداده للحراك المدني داخل طاولة الحوار التي دعا اليها الرئيس نبيه بري اليوم، ورفض هذه الطاولة عبر التجمع في ساحة الشهداء الاربعاء استجابة لدعوة الحراك المدني او لجنة 29 آب، لا يجب ان يسقط في فخّ نقل الجدال السياسي العبثي من طاولة الحوار الى الحراك نفسه. حينذاك سيعني ان السلطة السياسية نجحت في تهميش الحراك باعادة فرض جدول اعمالها السياسي والطائفي العبثي وشد الجميع الى ملعبها. نجاح الحراك ونموه واشتداد عوده امام امتحان بسيط ومعقد في آن، هي اختبار حسن توقيت رفع القضية الجامعة وشعاراتها.. هذا الحراك قوته في القضية المطلبية وسوى ذلك ليس مضمون النتائج اليوم بل مخاطره واضحة للعيان.
