هل دخلت البلاد مرحلة «إدارة الانهيار»؟

يحلو لسياسي مخضرم أن يطلق على المرحلة السياسية الداخلية الراهنة مصطلح “ادارة الانهيار” ليسأل في مجالسه الخاصة ومن باب الخوف والتشكيك: هل لا تزال القوى الأساسية المعنية قادرة على الانضباط تحت سقف قواعد اللعبة المألوفة في هذه المرحلة الحافلة بالتحولات والمفتوحة على مدى زمني غير محدود؟

ثمة اعتبارات ووقائع عدة تدفع هذا السياسي الى الترويج لهذا المصطلح المتشائم، أبرزها:

– إن ما من قطب من اقطاب السياسة يمكنه القول إن الوضع سليم وان الحكومة، آخر المؤسسات التي لم تدخل في الغيبوبة، تعمل بالحد الأدنى وهو تصريف الاعمال.

– ان أياً من طرفي اللعبة الأساسيين في البلاد قادر على الحفاظ على التفاهمات الداخلية، فهذه التفاهمات، سواء داخل المكونات أو في ما بينها، تتداعى واحدة تلو أخرى وحيال أكثر من ملف وقضية.

– إن أياً من الشخصيات السياسية المخضرمة والوازنة في مقدورها اطلاق مبادرات تلمساً للحلول وبحثاً عن المخارج مما يحول دون الانزلاق الى جدار الشلل الداخلي على جاري عادتها.

– ومما زاد في منسوب الضياع وتشوش الرؤى والحسابات لدى معظم الاطراف، سقوط رهانات كانوا يعقدونها ضمناً على إمكان ان تقدم التطورات الاقليمية بعد ابرام الاتفاق المبدئي بين ايران والغرب على الملف النووي معطيات جديدة ترجح كفة هذا الخيار أو ذاك. فالفرنسيون على سبيل المثال أبلغوا المستعجلين لملء الفراغ الرئاسي ان لا قدرة على تأمين ظروف انتخاب رئيس جديد في ظل احتدام المواجهة بين طهران والرياض.
واكثر من ذلك، تبلغ المعنيون في لبنان أن ترجمة مندرجات اتفاق فيينا تحتاج الى وقت طويل والى عملية انضاج قد تكون عسيرة ودونها عقبات واختبارات.

وهكذا عوض أن تقدم مرحلة ما بعد اتفاق فيينا الى الداخل اللبناني ما يبث الاطمئنان ويكرس الارتياح ويرسم خريطة الطريق للمرحلة المقبلة، فان ثمة تطورات دراماتيكية مستجدة مثل الحديث الذي يكتسب صدقية يوماً بعد يوم عن اتصالات أمنية سورية

– سعودية، والحديث عن تفاهمات غير مرئية عقدت قبيل ولادة اتفاق فيينا على تنظيم عملية تقاسم النفوذ في المنطقة، كلها زادت منسوب الهواجس من جهة ووتيرة المخاوف من جهة أخرى، وفاقمت التباس الرؤى وغموض الخيارات والحسابات، وبالتالي جعلت حركة الاطراف المعنيين في الداخل أسيرة هذا الالتباس والغموض، فشرع كل طرف في فتح ابواب الحروب الصغيرة خدمة لاهداف ثلاثة:

– تمرير الوقت وملء الفراغ.

– اظهار القدرة على الفعل ونفي صفة العجز والقصور وشد العصب الداخلي.

– محاولة فرض أمر واقع جديد استباقاً للرياح الاقليمية التي ستأتي ساعتها ولا ريب.
وفي هذا السياق تندرج مسألة انفتاح السجال الكلامي أخيراً بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئس “تكتل التغيير والاصلاح” العماد ميشال عون في هذه اللحظة الحساسة بالذات.
لم يعد جديداً القول إن شقة الخلاف بين القطبين مرصودة منذ زمن وتتمحور على ملفات عدة، وهي كانت صامتة وخافتة ولكنها كانت تخرج الى العلن مع بروز ملفات وقضايا مستجدة من طبيعة غير سياسية. وفي كل المرات كان الطرفان يحرصان على ان يثبتا للحليف المشترك، أي “حزب الله”، ان الخلاف لا يتعدى تبايناً على تشخيص اللحظة السياسية ليس إلا، وانه تباين قابل للطي والانضباط، اي انه في الخلاصة خلاف من طبيعة غير استراتيجية.
ولكن الكلام الذي أطلقه بري أخيراً، والمتعلق برفضه انتخاب عون للرئاسة الاولى ما دام قال كلاماً يشكك فيه بشرعية المجلس الحالي، يتخطى في نظر البعض اطر الخلاف المألوفة ليثبت ان بري صار في وارد ابلاغ “حزب الله” وعون على السواء ان حساباته المتصلة بالرئاسة صارت في مكان آخر مختلف، وهنا تنتهي مرحلة وتنفتح أبواب مرحلة أخرى هي مرحلة تكريس الخلاف الاستراتيجي.

وبصرف النظر عن مآل هذا الخلاف ومواصفاته وطبيعته، فالسؤال المطروح هو: أية خلفيات وحسابات جوهرية دفعت رئيس المجلس الى اطلاق هذه المواقف؟ هل هو يريد إحراج حليفه “حزب الله” أم أن لديه من المعطيات والاسرار ما يدفعه الى استشراف الأمور واستباقها؟ واستطراداً هل ان بري يعلن خروجه النهائي من الاطار السياسي القديم، وقد عبّر مراراً عن انه صار يضيق به وضيّقاً على حساباته، وانه يقدم طلب مغادرته الى منطقة وسطى؟
وبمعزل عن الاجابات القاطعة عن هذه التساؤلات، فالثابت ان كلام بري هذه المرة يختلف عن المرات السابقة وينطوي على رسائل أخرى الى ان يثبت العكس.
وحيال انعدام الوزن الداخلي وتشوش الخيارات، ثمة من يسأل: هل هذا الأمر مطلوب في ذاته في مرحلة الانتظار، أم أن ثمة أسباباً أخرى تحول دون القدرة حتى على ادارة الازمة وفق ما صار معروفاً؟
الجلي حتى الآن ان السبب الأساسي ناجم عن عجز موضوعي عند الاطراف الداخليين أكثر مما هو أمر آخر، فالقوى الأساسية مستغرقة ومنهكة بفعل اشتباكات الاعوام العشرة الأخيرة التي لم تهدأ إلا فترات محدودة. والانهاك هنا مزدوج، فهو متأت من انهيارات داخلية واخفاق الرهانات المتسارعة.
ولم يعد السؤال هل ستجتمع الحكومة أم لا، فهي دخلت عملياً منذ فترة في غيبوبة او في مرحلة عدم اتخاذ القرارات المصيرية.
ماذا بعد؟
ثمة في الوسط السياسي من يقول إن ما يطمئن في هذا المشهد السوداوي هو ان المعنيين بالشأن اللبناني وضعوا خطوطاً حمراً للحد من مسيرة الانهيار، أبرزها:
– ابقاء الحكومة ولو جسداً بلا روح.
– دعم الجيش للاستمرار في المهمة الصعبة التي يتصدى لها.
– الحفاظ على منظومة الأمان والاستقرار الحالية.

(النهار)

السابق
اشعال اطارات ليلا امام كهرباء صيدا احتجاجا على انقطاع التيار
التالي
لماذا قطع رئيس المجلس الطريق على «الجنرال»؟