رحلة هرب ناجح من الحرب الأهلية والسرطان

لم نكن على الأرجح لنسمع بأمل علم الدين المحامية اللبنانية المتألّقة في الاغتراب لولا زواجها من نجم هوليوود جورج كلوني. وهناك بالتأكيد غيرها من اللبنانيات واللبنانيين الذين حقّقوا نجاحات متميّزة لكنّهم ويا للأسف اضطروا ليحققوا ذواتهم أن يبتعدوا عن الوطن الأمّ.

يبدو الاغتراب أحيانًا بالنسبة للبناني القادر على تدبير أموره حيثما كان منبرًا للإبداع بمختلف قطاعاته وتبدو الثروة البشرية المحلية مدفونةً تحت أطماع الطبقة السياسية وصراعات رجالاتها الذين يختلفون على كل شيء ويتّفقون دائمًا في إجهاض مصالح المواطن. بعد بروز أمل، عرفت من طريق الصدفة بوجود أديبة بارني وهي امرأة متميزّة حكايتها ليست فقط مؤثرة لما تحمله من ألم وصعوبات ولكنّها ملهمة كذلك تحملك على التفكير: كيف لامرأةٍ تمشي بمحاذاة الموت أن تعيش بكل هذا الزخم من دون حتّى أن تعتبر أنّها ضحية المأساة؟ أيّة شجاعةّ تتحلّى بها هذه اللبنانية التي تقول إنّ إيمانها بمقدرتها على القيام بأيّ شيء يأتي من إرثها اللبناني؟
“في الواقع، قرّرت في سنٍّ مبكر جدًّا، حين كنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من العمر، أنّي سأكون يومًا ما مستقلّة وأنّي سأتعلّم. ترعرت في منزلٍ كان فيه والدي سيّد المنزل ورأيت أنّ الرجال هم من يحكمون العالم وقرّرت أنّي أريد أن أكون بينهم وأحكم العالم أيضًا يومًا ما بنفسي”، هكذا تُعرّف أديبة من الطريق الذي حفرته لأحلامها وهي تؤكّد على أنّها بدأت بتحديد أهدافها منذ كانت صغيرة وأنّها لطالما بذلت قصارى جهدها لتحقيقها. بالنسة لأديبة، أتت خصالها هذه من تلقاء نفسها لكنّها تستدرك وتقول “عرفت أيضًا أنّني إن تصرّفت كطفلةٍ جيّدة فإنّ والديّ سيثقان بي بما يكفي للسماح لي بالذهاب إلى الجامعة والعيش وحدي لكن كانت هذه في نهاية المطاف معركتي التي خضتها”.
تتحدّر أديبة من عائلة لبنانية، أم وأب وخمسة أطفال هي ضمنهم، ولدت عام 1977 أي بعد سنتين من بدء الحرب الأهلية اللبنانية وعاشت في بلدها الأمّ حتّى عام 1984 أيّ حين كانت في السابعة، حتّى هاجرت عائلتها إلى السويد لكنّ سنواتها السبع لا تحمل سوى الذكريات السيّئة. بكلمات أديبة، “علاقتي مع لبنان حلوة ومرّة، لقد أخذ مني طفولتي ولم يتسنًّ لي أن أكون طفلة وهذه غلطة لبنان… أغلب الذكريات التي أحملها ليست ذكريات الأطفال المسلية ولكن ذكريات أشبه باركضوا إلى الملاجئ”.
“هذه ناحية من العلاقة مع لبنان والناحية الأخرى هي أنّي شديدة الفخر بإرثي، لقد ترعرعت في السويد وأحمل الكثير من الخصال السويدية، كوني طبعًا جزءاً من الثقافة هناك، لكن أظن أن الكثير من سلوكي المتمثل بالقيام بالأفضل وروح المبادرة وإيماني بمقدرتي على القيام بأيّ شيء يأتي من إرثي اللبناني”.
هاجرت العائلة إلى السويد بعد تقديم طلب لجوء هربًا من الحرب، وبحسب أديبة “أتى أهلي إلى السويد من دون أن يكون لهم أيّ علاقات أو أيّ شيء، كان عليهم البدء من جديد وعلّمني هذا أنّه على المرء أن يحارب لما يحتاجه بنفسه. هناك أمور رائعة تأتي من الكوارث أيضًا”.
بالنسبة لأديبة، والداها مثل أعلى في حياتها. هي لا تعلم تحديدًا من أين اكتسبت مهاراتها في عالم الأعمال لكنّها تقول إنّها ربما ورثت هذه المهارات من والدها وبات لها في وقتٍ لاحق أشخاص اعتبرتهم قدوة مثل ريتشارد برانسون وغيرهم. وأديبة هي الرئيسة التنفيذية لـ”منتدى سيليكون فالي” وهو أكبر وأقدم منظمة غير ربحية، مكرسة لتثقيف وخلق العلاقات داخل مجتمعات التكنولوجيا والمجتمعات التأسيسية. رحلة أديبة في عالم الأعمال بدأت مبكرًا وكانت مؤسسة لمعرض الابتكارات السويدية لعرض الجيل الجديد من الابتكارات السويدية، كما عملت أديبة لمدة 13 عاما في النظام الإيكولوجي للابتكار السويدي (الحدائق العلمية ووكالات التنمية الإقليمية والحكومة). ودرّبت كذلك مئات من رجال الأعمال على بدء التشغيل في التسويق الدولي وتطوير الأعمال والدخول إلى الأسواق، والاتصالات، والعلاقات العامة. وهي حاصلة على درجة البكالوريوس في التسويق الدولي وإدارة الأعمال من جامعة مالارلادين في فاستيراس، السويد، ودرست كذلك العلامة التجارية، والعلاقات العامة والإعلام والاتصالات في كلية برغس للاتصالات في ستوكهولم، السويد.
لكنّ حياة أديبة لم تكن حلمًا ورديًا، أيّ أن تحقيقها لحياتها العملية لم يكن نهاية المآسي، فالمرأة الاستثنائية عاشت زواجًا غير ناجح وطلاقًا في الثلاثين من عمرها فقط. تزوّجت الرجل الذي عرفته منذ كانت في العشرين من العمر في سنّ الرابعة والعشرين وتصف الطلاق بأكبر تحدّيات حياتها. “تظنّ أنّك تعرف كيف ستكون الحياة وأنّك خططت لكل شيء ثم يتضّح أن الأمور ستكون مختلفة كليًّا. كانت هذا أكبر التحديات في حياتي لكني تعلمت منه أيضًا. أظنّ أنّي تعلمت من أكون وما أريد من الحياة لأنّك عندما تكونين شابة وتتعرفين بأحدهم لا تعرفين فعلًا ما تريدين. في الثلاثين، عرفت من أنا وما أريد وكيف أودّ أن تكون حياتي. لذا حين اخترت زوجي الثاني، كنت حذرة في الاختيار لأعرف أنّه يلائمني، أنّنا نلائم بعضنا”. الزواج بالنسبة لأديبة يجب أن يدفع المرء إلى الأمام والشريط المناسب هو الذي يدعم المرأة لتحقيق كلّ أحلامها. زوجها الحالي أميركي وهي لا تعرف إن كانت الأمور ستنجح بينها وبين رجل عربي كونها لم تكن يومًا مع عربيّ.
على الرغم من صعوبة التجربة إلّا أنّها ليست التجربة المؤلمة الوحيدة. في عام 2005، اكتشفت أديبة أيضًا أنّها تعاني من سرطان الثدي وكانت في العشرينيات فقط. بعد ثلاثة أعوام، ظهر المرض مرّة أخرى وخسرت شعرها ثمّ قامت بإزالة الثدي. تقول أديبة إن “الأمر المريع فيما يختص بالسرطان هو أنّه أسوأ عادةً للأشخاص المحيطين بالمريض أكثر من المريض نفسه لأنّهم عادةً لا يعرفون كيف يتعاملون مع الأمر… حين خسرت شعري واضطررت أن أضع شعرًا مستعارًا، أقمت حفلة للشعر المستعار وسألت جميع المدعوين أن يرتدوا شعرًا مستعارًا لكي نخفف من دراماتيكية الأمر. ثمّ أقمت حفلة وداع وشكر لنهاية الخدمة لثديي. والآن أحاول أن أفكّر كيف يمكنني الاستفادة من الأمر لدعم الآخرين في نفس الوضع وتشجيعهم على المضي قدمًا…”.
من ضمن كلّ ما تعرّضت له، تعتقد أديبة أنّ أسوأ ما مرّت به هو عدم قدرتها على الإنجاب والحصول على الأطفال. “لقد كان هذا الجزء الأصعب والأصعب والأصعب وهذا على الأرجح أشدّ ما يؤلمني. لكن لا زلنا نعمل على الأمر، لا يمكنني حمل طفل في داخلي لكنّنا نعمل على حلول لجعل الأمر يحدث”.

تعتقد أديبة التي عاشت معظم حياتها في الاغتراب أن أحلام النساء وآمالهن وطموحاتهن لا تختلف بين توزيعهن الجغرافي: شرق وغرب. “الفرق ليس بيننا، نحن لسنا مختلفات لكنّه في محيطنا وما يتيح لنا القيام به”، تقول أديبة. وتشير إلى رغبتها بإنشاء تيار وحراك يتيح لنساء الأعمال في لبنان أن يستفيدوا أكثر من التكنولوجيا والمهارات التي تمكنهن من تعزيز إمكاناتهن.
مع الوقت، تحوّل عمل أديبة إلى هوايتها مع حبّها للسفر والاسترخاء ولعب الجولف، ولا تزال تحتفظ بمناعتها وحبها للحياة وقدرتها على المقاومة والثابرة لتحقيق أحلامها. عندما سُئلت أديبة إن كان بإمكانها تحقيق كلّ ما حققته لو كانت في لبنان، قهقهت وقالت “لا أظن ذلك”. “فعليًا لقد فكرت بالأمر، ربما لو بقيت في لبنان لن أعرف إن كنت لا أزال حيّة حتى هذا اليوم؟ لكن لا أعرف، كأشخاص نحن من نكون كيفما كانت الأوضاع، أظنّ أننا سنقوم بما في وسعنا لجعل ما نقوم به رائعًا؟ لذا من يعرف، ربما كنت سأتمكن من القيام بأمر مذهل في لبنان بما أنّنا تخطينا الحرب في النهاية. لقد تغيّرت حياتي مرّاتٍ عدّة وأظنّ أنّه في نهاية المطاف الأمر متعلّق بمن تكون، لا يهم فعلًا أين ترميك الحياة، ستقوم بأفضل ما بوسعك”.

(النهار)

السابق
التصعيد الخامنئي «حراثة في الماء»!
التالي
«شمشطة»