يوميات معتقل 4: هكذا صنعت ماء الخيال كي لا اموت من العطش

معتقل
«الأسير الذي لا يجيد صناعة الخيال والأحلام تضيع روحه في غابة الأسلاك الشائكة!» هكذا يحاول الأسير التخفيف من الشعور بالإحباط واليأس بالرغم من الظلم والعذاب الذي يتعرض له،... هنا ذكريات جديدة عن الفرح والأمل في المعتقل.

بقيود بلاستيكية بيضاء كانوا قد قيّدونا، وأغمضوا عيوننا بالمناشف، قبل أن يرمونا في باصات ويتجهوا بنا شمالاً.
استمرّت الرحلة من هناك إلى هنالك خمس ساعات، الـ«هناك» معتقل العفّولة، كما قيل لنا، والـ«هنالك» معتقل أنصار.

في العفّولة لم نكن قد عرفنا بأن ثمّة معتقل يشيّد داخل لبنان. في الباص الكبير شعرنا بأن حرارة شمس آب تصفعنا من جهة الشرق، عندها أدركنا بأننا نتجه شمالاً، أي لبنان.

«جاء الفرج… إنهم سيفرجون عنّا، ولا شكّ بأنهم يقودونا إلى سراي صيدا، سيتركوننا وشأننا»، بهذه العبارات بدأ الهمس بيننا عندما شعرنا بأننا متجهون نحو لبنان.

توقفّت قافلة الباصات في مكان ما، فرحتنا كانت غامرة بعد شهر من الأسر، أصوات تأتي من الخارج، إبن عمّي علي الجالس قربي همس بصوت منخفض: إنّها أصوات أبائنا وأمهاتنا المنتظرين، ماذا سنأكل اليوم؟ ردّيت بفرح لا يوصف: الماء.. أريد ماءً قبل كل شيء… سأشرب اليوم نبع الطاسة كلّه!

«رح تنزلو واحد واحد يا منايك» … صرخ أحد الجنود، قبل أن ينزع البشاكير عن عيوننا!
من نوافذ الباص الأنيق رأينا أسلاكاً شائكة وخيما منصوبة وجموعا من المعتقلين تنظر إلينا من وراء تلك الأسلاك. كانوا قد سبقونا إلى هنا منذ أيام.

هو معتقل جديد، ولن نذهب إلى بيوتنا. إنها البداية وليست النهاية. هو الشعور الذي لا يوصف ولا يستطيع أن يعبّر عنه أحد.

أجلسونا على التراب للتأكد من عددنا وأرقامنا قبل الدخول إلى المعتقل الجديد، حينها شعرتُ بشوق إلى شرب الماء. بحثت بلساني عن قطرة لعاب في فمي فلم أجد. لم يكن أمامي إلاَ استجداء الجندي الذي يتكلّم العربية ليعطيني ولو قطرة ماء واحدة من قربة يحملها.

«بدّك مي يا مخرّب؟» عندها اقترب منّي ودعاني إلى فتح فمي قبل أن يأخد براحة يده مقداراً من «الشيبس» الإسرائيلي المالح وأجبرني على ابتلاعه!

الجندي ذاته بدأ بالصراخ وهو ينهرنا إلى داخل المعتقل الجديد: قامت مضاداتنا بالتصدي لطائرات العدو الإسرائيلي وشاهدنا إحداها وهي تسقط في البحر … فصرخ الجندي «بدكن كاتيوشا يا منايك يا كلاب»!.

كنت أفكّر بعطشي وبنبع الطاسة… لا مياه في الداخل. حتى منتصف الليل لم أكن أعرف ما يجري، أو أين أنا، الى أن أيقظني ابن عمّي علي بعد أن استطاع الحصول على القليل من الماء، رفع جسدي النحيل قليلاً وأعطاني ماء الحياة!

إنّها أنصار، عرفت ذلك في اليوم التالي، عندما نظرت شمالاً ورأيت قريتي جرجوع. أجبرت نفسي وللحظات بأن أكون في جوار نبع الطاسة، شعرت بفرحة لا توصف.

الأسير الذي لا يجيد صناعة الخيال والأحلام تضيع روحه في غابة الأسلاك الشائكة!

السابق
جنبلاط لجعجع: احترم رأيكم لكنني مع مرشح تسوية
التالي
الانفجار السكانى والعنف المجفف