يوميات معتقل (1): عن الخونة من المعتقلين… الأبطال

السجون
تبدأ "جنوبية" اليوم في نشر سلسلة حكايات يومية كتبها المناضل الشيوعي العتيق محمد فرحات، عن تجربته في المعتقل الإسرائيلي. وهي يوميات مختلفة عن "البطولات" الوهمية التي يتحدّث عنها الخارجون من المعتقل. وهي قصصٌ حقيقية ستفاجىء كثيرين، كان نشرها على الفيسبوك، وتعيد "جنوبية" نشرها تكريماً لأصالتها ومغزاها الذي يرفع "البوح" من مرتبة "الكذب" إلى مرتبة "الصدق". هنا الحلقة الأولى.

عندما اقتادونا من جرجوع إلى مركز التحقيق المستحدث في مدرسة بلدة الريحان الرسمية، لحقت بنا أمهاتنا إلى هناك، حيث وقفن وراء سور المدرسة بانتظار إنتهاء التحقيق.

من وراء ذلك الجدار رمت لي أمي كنزة بيضاء كتب عليها بأحرف كبيرة وباللغة الفرنسية: «تكساس 77»، وهي كانت هدية من أحد أقربائي المهاجرين في دولة الكويت.

كان لكلمة تكساس في تلك الفترة وقع آخر، إذ كانت أفلام الكاوبوي في أوجّها، في ما تعنيه من مسدّسات وبنادق وإطلاق نار ومغامرات حربية، ومّا جعلني محطّ أنظار الجنود الغاضبين.

أوّل الغيث كان في مركز التحقيق الثاني، بعد مدرسة الريحان، معمل صفا لجمع وتوضيب الحمضيّات في بلدة الغازية. في الليلة الأولى أوقفونا ضمن صفوف متراصّة. إقترب أحد الجنود ليحدّق بنا فرداً فرداً، نظر إليّ وإلى كنزتي ليقترب منّي وهو يتمتم: تكساس… تكساس، قبل أن يشدّ شاربي بأصابعه القاسية ويأمرني بفتح فمي ليبصق إلى داخله!

لعنة تلك الكنزة الجميلة لاحقتني إلى داخل المعتقل في اسرائيل، كان الجندي دوغي يناديني:«أنت تكساس… أنت شبيخ يا منيك… أنت تقوّص يا تكساس».

لم يعد يشغل دوغي حينها إلاّ النظر إليّ وتعذيبي، إختارني للقيام بعملية «رشّ» كل الأسرى العراة بالمبيدات الحشرية، ليضربني بوحشية بعد انتهائي من إنجاز مهمّتي بحجّة وصول بعض رذاذ المبيد عبر الهواء إليه. ثم أيقظني في فجر اليوم التالي لأنقل «الكرادل» المملوءة بفضلات الأسرى إلى بئر في خارج المعسكر.

أمرني بعدها بحمل حجر كبير ورفعه إلى الأعلى مع الوقوف على رجل واحدة. وأسوأ ما كان في عملّية نقل الفضلات هو اضطراري إلى وضع يدي في داخل السطل – الكردل، كما يسمّونه – من أجل البحث عن «المسكة» الغارقة بداخله، لم يتسنَّ لي بعدها غسل يدي لشهور طويلة…

أمي لم تقصد إيذائي… فقط أرادت أن تطمئنّ إلى أنني سأبعد لسعات البرد المسائية في بلدة الريحان الجبلية، وكانت تعتقد بأنني سأعود إلى المنزل في اليوم التالي.

إلاّ أنّ التحقيق أصبح اعتقالاً لمدّ ةأربعمائة وتسعة وتسعون (469) يوماً بالتمام والكمال، تخلّلها أكثر من 400 وجبة فاصولياء، تلك الفاصولياء البيضاء المسلوقة مع القليل من البصل والكثير من الماء كانت وجبتنا الأساسية بشكل شبه يومي.

وعاء كبير يحمله اثنان من المتبرّعين في الممرّات بين الخيم، حيث يقوم «شاويش المطبخ» بعملية التوزيع على أوعية المعتقلين الجياع، والتي كان يتخلّلها الكثير من الغشّ واللاعدالة، فإذا كان المعتقل محسوباً أو قريباً من أحد النافذين، فإنّ عدد حبّات الفاصوليا في وعائه سيتضاعف، وإن كان على حالنا، فالمعتقل يحصل على وعاء مليء بالماء مع بضعة حبّات من الفاصوليا اللعينة.

الإحتجاج ممنوع، يكفي إبلاغ الجنود الحرّاس بأنّ أحدنا يشاغب أو لا يرضخ لقرار شاويش المطبخ ومختار المعسكر، الذي اختاره الجنود شاباً يافعاً، مهمّته كانت تتلخّص في الإبلاغ عن المشاغبين ومفتعلي المشاكل، وفي المقابل يحصل على سلطة مطلقة في داخل المعسكر، وكذلك يُعفى من وضع يديه على رأسه والجلوس لساعات بدون أيّ حركة.

مختار معسكرنا كان جميل الوجه، ولكن سيّء الخلق، وسط رائحة أجسادنا العفنة كانت تفوح منه رائحة صابون. كان يحرّك عصاه بشكل دائم، يمسكها بيمينه ويضربها برفق على راحة يده اليسرى. جاهز لإنزال العقاب بمن يريد وساعة يشاء، هو حلقة الوصل بيننا وبين الحرّاس، لا يجوز لنا التفوه بكلمة إلاّ عبره.

كلّما كان يزداد خوفنا، كان المختار يكثر من عجرفته، لأسبوعين أو ثلاث بدا الأمر وكأنّه القدر الجديد. على جانب خيمتنا صاحبة الرقم 20 والمجاورة للجورة الصحيّة كنت وإبن عمّي قد أدرنا وجوهنا شمالاً باتجاه جرجوع.

حضر المختار، أشاح بعصاه ليصيب كتف علي، الذي كان قد حمل أوجاع يده اليسرى إلى المعتقل بعد عمليات جراحية عديدة ومتكرّرة فيها.

إنهال “علي” على المختار بالضرب والرفس وسط دهشتي ودهشة الجميع، المختار بسلطته وسلطانه وبرائحته الذكية الأخّاذة أصبح مرمياً على تراب المعسكر. المستفيدون القريبون من المختار وشلّة المطبخ تسارعوا لإنقاذه وللثأر منّا نحن أبناء جرجوع. وتدخّل للدفاع عنّا شركاؤنا في الخيمة رقم 20 أبناء مخيّم البرج الشمالي الفلسطينيين. العراك بالأيدي استمرّ لدقائق قبل أن يأخذ الجنود الحرّاس بالتحرّك وحسم الأمر بدعوة الجميع إلى الهدوء.

فرح الجنود لذلك التضارب، لكنّهم وقفوا إلى جانب المختار وشلّة المطبخ السيئة الذكر، فعوقب من عوقب، إلا أنّ أحد حواجز الخوف كان قد أزيل.

أصبحت حبّات الفاصوليا تندر أكثر وأكثر في أوعيتنا، نحن من تجرّأ على الوقوف بوجه الظلم، إلى أن قام الجنود بإزاحة المختار وتعيين غيره.

بتاريخ 24 تشرين الثاني من العام 1983 أفرج عنّا… بعد أن عانقت أبي وأمي وأخوتي توجهت إلى مطبخ المنزل. وعندما رفعت غطاء الوعاء الكبير الساخن، وجدت أنّ أمّي كانت قد حضّرت إكراما «لعودتي» طبخة «محرزة» من الفاصوليا البيضاء…البريئة.

السابق
احراق منزل مواطن في الشرقية النبطية
التالي
زياد الرحباني: فيروز معجبة بهتلر وستالين!