شؤون جنوبية: في وداع التجربة.. ومديح قاسم قصير

شؤون جنوبية
حبّذا لو أنّ الجمهور الحزبي يكون على قدر أخلاق الحاج قاسم قصير. فكثيرون علّقوا على "وداعه" المجلة قبل يومين بالشتائم. وبالاتهامات والتخوين والسباب. وهذه ليست أخلاق الإنسان، ولا أخلاق الإسلام، ولا أخلاق أهل البيت، ولا أخلاق المذهب الشيعي، الذي يتميّز عن غيره بأنّه مذهب الاجتهاد والتنوّع والاختلاف والقدرة على تقبّل الآخر ومحاورته ومناقشته، وليس تخوينه وشتمه وقتله.

هو وداع جزئيّ، لأنّ “شؤون جنوبية” لا تزال تنبض في موقع “جنوبية”. ولأنّ نسختها المطبوعة ستعود إلى أيدي محبّيها مرّة كلّ ثلاثة أشهر. ولأنّ التجارب الجميلة لا تنتهي، بل تتجوهر فقط وترتفع من مرتبة الواقع إلى مصاف الذاكرة الذهبية. ولأنّ ما جمعته “شؤون جنوبية” بين دفّتيها على مدى أكثر من 13 عاماُ ليس مجرّد مقالات، بل تجربة تنوّع واختلاف، في أزمنة الصفاء المرعب، الأقرب إلى العنصرية.
بعد تحرير الجنوب، في أيّار العام 2000، بدأ التفكير في إصدار مطبوعة تحمل هموم أبناء الجنوب، في لحظة عودتهم إلى الوطن، بعد انقطاع أكثر من 25 عاماً، عن الانتماء الفعلي إلى الجمهورية اللبنانية.
ما هي إلا أشهر حتّى بدأ العمل. إلتقينا أنا والحاج قاسم قصير الزميل فيصل عبد الساتر وآخرين، بعد تجربة مشتركة مع آخرين، أن نطوي “ملتقى الثلاثاء الثقافي”، الذي امتدّ من العام 1991 إلى مشارف العام 2000. ذاك الذي كنّا نجريه في ضاحية بيروت الجنوبية، البدل عن الجنوب الضائع آنذاك. وهي تجربة كانت ميزتها الأهمّ أنّها كانت تجمع مختلفين في الفكر والسياسة، لكن متّفقين على أهمية التنوّع وضرورته. فاستقبلنا مثلا الشاعر الكبير سعيد عقل، والمرجع الراحل السيّد محمد حسين فضل الله، والشاعر شوقي أبي شقرا من جريدة “النهار”، وعضو الكتائب جوزف أبو خليل، ورئيس تحرير جريدة “السفير” طلال سلمان، وكثيرين من مشارب مختلفة ومتنوّعة، وهي بالمئات، من المثقفين والمفكرين والسياسيين والكتّاب والشعراء…
بعد العام 2000 قرّرنا أن ننتقل إلى تجربة جديدة، “على الأرض” أكثر منها في الفكر، على الأرض المحرّرة التي كانت تنتظر من يتحدّث باسمها، والتي كنّا بدأنا نفكّر فيها ونخطّط لمستقبلها بطرق مختلفة، متناقضة أحياناً، ومتباعدة حيناً، ومتآلفة في أكثر الأحيان.
من هنا بدأت تجربة “شؤون جنوبية”، من الاختلاف في الفكرة والاتفاق على المبدأ. كان لبنان محكوماً من سوريا، لكنّ أبناءه كانوا يفتّشون عن المستقبل. وكانت أعواماً مليئة بالأفكار، والتجارب، وهي التي أدّت إلى تجمّعات سياسية في الأعوام اللاحقة، وصولا إلى العام 2005 والمرحلة التي نعيشها إلى يومنا هذا.
إستقبلت “شؤون جنوبية” مئات الأقلام، الشابة والمخضرمة، كثيرون ممن أغنوا أوراقها صاروا في دنيا الحقّ، وكثيرون ممن كتبوا حروفهم الأولى فيها باتوا نجوم بيروت وصحافتها وحتّى مجلس نوّابها. مئات ومئات كانت “شؤون جنوبية” بوّابتهم إلى الكلام المختلف، في حين كانت الصحافة اللبنانية “محكومة” بمعادلات سياسية وبعقم الحياة السياسية اللبنانية.
كان هذا قبل الإنترنت حتّى، في الجنوب وفي بيروت، وقبل وسائل التواصل الاجتماعي، وقبل أن تصير المنابر مكدّسة ومفتوحة للجميع. كان ذلك حين كانت الكلمة مكلفة.
بدت “شؤون جنوبية” منبراً غريباً وسط اصطفاف شبه واحد. وحين بدأ الحراك السياسي يصير أكثر مرونة وبدأت الحياة السياسية تحاول أن تخرج إلى الحريّة، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، وبعد خروج القوات السورية من لبنان، بدأ “دور” المجلة يتبلور أكثر.
شاركت المجلة في النقاشات السياسية، وطرحت قضايا الجنوبيين التنموية، وسألت عن لقمة عيشهم، وذكّرت برموزهم التي كاد التاريخ أن يطويها، ولاحقت مشاريعهم الفردية والجماعية، واشتضافت شعراء الجنوب، المخضرمين والشباب، وذكّرت بالراحلين، وفتحت منبر “شباب” للشباب الراغبين في الكتابة، وحاولت أن تكون صلة وصل بين الجنوب وبين بقية أطراف الوطن، في لحظة حاول آخرون عزل الجنوب عن لبنان.
قاومت الاحتلال الإسرائيلي على طريقتها، ومن دون ادّعاءات أو تزلّف ومن دون بحث عن مغانم سياسية أو سلطوية، ودفعت الزميل عسّاف أبو رحال شهيدا في العام 2010، خلال عدوان “العديسة” الذي تصدّ له الجيش اللبناني ببسالة.
ورغم الخضّات التي مرّ بها لبنان، من اغتيالات بين العامين 2005 و2007، ومن 7 أيّار في العام 2008، ومن انتخابات في 2009، وخلافات في 2010، وحروب أهلية عربية ممتدّة من العام 2011 إلى يومنا هذا، ظلّت “شؤون جنوبية” قادرة على استيعاب اختلافاتنا في رؤية الأمور، أنا والحاج قاسم قصير والزميل الحبيب فيصل عبد الساتر، وغيرهم الكثيرين.
جمعتنا المجلة، واستوعبتنا، كنّا نكتب ونختلف على صفحاتها، ونسهر سويّاً في منازلنا. كنّا نحتدّ في النقاشات، ثم نمضي إلى المقاهي والأصدقاء لنكمل صداقاتنا التي لن تنتهي. وهذه كانت “شؤون جنوبية”، هذه كانت روحها، وهذا كان عهدنا بها وبنا.
ما كتبه الحاج قاسم على الفيسبوك أمس، وهو التالي، كان جميلا كعادتنا بما يكتب “الحاج”، كما نسمّيه:
“لقد صدر العدد الاخير من مجلة شؤون جنوبية وفيه مقالات ونصوص عن هذه التجربة الصحافية. وأنا أشكر كل من عمل في المجلة أو كتب فيها أو ساهم في دعمها واستمرارها. وأودّ أن أؤكد أنّ نهاية هذه التجربة لا يعني انتهاء العلاقة مع الأصدقاء والصديقات في المجلة، ولا سيما الزميلين علي الامين وفيصل عبد الساتر. وإذا كانت هناك خلافات في وجهات النظر حول بعض الأمور فإنّ الصداقة مستمرّة. لذا أودّ أن أحيّي جميع العاملين في المجلة وأشكر كلّ من كتب ملاحظة أو رأياً نقدياً. وأؤكّد رفضي الإساءة لأيّ صديق أو زميل حتّى لو كان هناك خلاف في الرأي”.
كان هذا الستاتوس من الحاج ليقطع الطريق على من راحوا يتّهمون المجلة بأنّها كانت “أميركية” وبأنّ كاتب هذه السطور، أنا علي الأمين، عميل أميركي وإسرائيليّ. والأنكى أنّ كثيرين راحوا يطالبون الحاج قاسم والزميل فيصل بغسل أيديهم من هذه التجربة لأنّها “أميركية”، ويريدون من قاسم وفيصل، وهما يغادرانها، أن يشتماها كما يفعل جمهور الشتّامين.
حبّذا لو أنّ الجمهور الحزبي، اللبناني بشكل عام، يكون على قدر أخلاق الحاج قاسم قصير. فكثيرون علّقوا على “توديعه” المجلة قبل يومين بالشتائم. وبالاتهامات والتخوين والسباب. وهذه ليست أخلاق الإنسان، ولا أخلاق الإسلام، ولا أخلاق أهل البيت، ولا أخلاق المذهب الشيعي، الذي يتميّز عن غيره بأنّه مذهب الاجتهاد والتنوّع والاختلاف والقدرة على تقبّل الآخر ومحاورته ومناقشته، وليس تخوينه وشتمه وقتله.
ليت كلّ الأصدقاء يكونون مثل “الحاج قاسم”، ذلك الرجل الصادق واللطيف، الذي يؤثر الآخرين على نفسه، ويفيض بالحبّ، حتّى لتظنّه ليس من هذا العالم. هو الذي لا تفارق البسمة وجهه، والذي إذا أعددت أصدقاءه فستجد أنّ أكثر من نصفهم يختلفون معه في الرأي، ويحبّهم، والأهمّ: يحبّونه.
الحاج قاسم كان جزءًا أساسياً من المجلة ومن مشروعها، واختلافنا في الرأي لم، ولن، يفسد في الودّ قضية. وقبلها وبعدها سنظلّ على الصداقة الجميلة التي تجمعنا منذ ثلاثين عاماً.
في هذه اللحظات التي يعيشها المشرق العربي والعالم الإسلامي، كم نحن في حاجة إلى تعميم نموذج هذه الصداقات، التي هي، وليس أيّ شيء آخر، تبقي على حبال الودّ التي قد ترسم مستقبلا أفضل. ولا غنى عن هذا الودّ، مهما اشتدّت الخلافات، لأنّ البديل هو الإلغاء والقتل والدماء التي نسبح فيها منذ سنوات.
نودّع المجلة، لكن لا نودّع الأصدقاء. نودّع التجربة الشهرية، طوال 13 عاماً، وننتقل إلى تجربة جديدة، فصلية، متّصلة بالموقع الإلكتروني، وبمشاريع أكبر وأكثر طموحاً. والقافلة ستستمرّ في السير.

السابق
كيري: اميركا لا تسعى الى المواجهة مع روسيا
التالي
الحجيري: المفاوضات لتحرير العسكريين مستمرة والعراقيل داخلية