الشيخ محمد شقير: علينا القضاء على بذور التكفير والفتنة والإرهاب من التراث الديني

انطلاقاً من ارتباط التطرّف بمعتقدات وأفكار بعيدة عما هو معتاد ومتعارف عليه سياسياً واجتماعياً ودينياً، قد يصل الدفاع عنها إلى الاتجاه نحو العنف في شكل فردي أو سلوك جماعي منظّم، بهدف إحداث التغيير في المجتمع، وفرض الرأي بقوة على الآخرين. فيتحوّل إذاً من مجرّد فكر إلى سلوك ظاهري أو عمل سياسي، يلجأ عادة ، إلى استخدام العنف وسيلة إلى تحقيق المباديء التي يؤمن بها الفكر المتطرف، أو اللجوء إلى الإرهاب النفسي أو المادي أو الفكري، ضدّ كل ما يقف عقبة في طريق تحقيق تلك المباديء والأفكار التي ينادي بها هذا الفكر المتطرف. وكون التطرف هو تجاوز لحد الاعتدال، فهما مرهونان بالمتغيّرات البيئية، والحضارية والثقافية والدينية والسياسية، التي يمرّ بها المجتمع.

وحول مدى ارتباط الدين بالسياسة في المجتمع وتأثيره عليها سلباً أم إيجاباً، من ناحية كيفية فهم الدين وتطبيقه، قصدنا لتوضيح ذلك، الدكتور في مجال الفلسفة والفكر الديني والإسلامي، الشيخ محمد شقير، عميد كلية الدراسات الإسلامية في الجامعة الإسلامية في لبنان، الذي شارك في العديد من المؤتمرات بين لبنان والخارج، وله عدة إصدارات في هذا المجال. فكان لنا معه الحوار الآتي:

إلى أي مدى يعتبر التشريع الديني مرجعية أساسية في قرارات الفرد السياسية كالانتماء الحزبي، والمشاركة في الحياة الاجتماعية العامة؟ 

لو فرقنا بين الجانبين الفردي والاجتماعي، لوجدنا أنّه، على المستوى الفردي، يعتبر التشريع الديني بشكل عام، مرجعية لنسبة كبيرة جداً من الأفراد، لأن البعد الفردي على مستوى التشريع الديني، بعدٌ واضحٌ وجليّ، بالمعنى الديني والتشريعي، ويبرز أيضاً في المعنى الاجتماعي، كما نجد أكثر من إشكالية لها علاقة، ببعض الأبعاد الاجتماعية فيما يرتبط بالجانب التشريعي، إلّا أنه قد يصعب جداً أن نجد إشكاليات ترتبط بدخالة التشريع ومرجعيته، على مستوى البعد الفردي.

هل ما زالت المرجعيات الدينية بكل الديانات، تلعب دوراً كبيراً في الحراك السياسي والاقتصادي العام للمجتمعات، وهل لها أثر في السياسة الخارجية بين الدول والمجتمعات المختلفة؟

بغض النظر عن التنظير الفكري أو الديني فيما يرتبط بهذا الدين أو ذاك، أو بهذا التوجّه الفكري لهذا الدين أو المذهب أو ذاك. لو نظرنا إلى الموضوع من زاوية واقعية، اجتماعية تتعلّق بالاجتماع الديني أو الاجتماع السياسي، لوجدنا مجمل المرجعيات الدينية لها دخالة بشكلٍ ما بالجانب السياسي، وبالاجتماع العام وبالشأن العام، بغض النظر عن مدى هذا التدخل، وهذا التأثير. وعموماً سواء فيما يرتبط بالمرجعيات الإسلامية أو المسيحية، فإنّ مجمل هذه المرجعيات لها دورٌ ما، فيما يرتبط  بالجانب السياسي أيّاً كانت التبريرات التي تقدَّم في هذا الإطار. بعض المرجعيات تقدِّم تبريراً معرفياً دينياً، يُشَرع تدخّلها في الجانب السياسي فنجد في منظومه معرفيّة دينية تبرّر لها هذا التدخل وهذا الانخراط، كما هو الحال لدى أطروحة ولاية الفقيه. ونجد مرجعيات أخرى تتدخّل بالشأن السياسي بشكلٍ واضح ومؤثر جداً، مقدِّمةً مبررات من نوعٍ أخر، على المستوى النظري أو المعرفي، ولا تتبنى أطروحة الولايه المطلقة للفقيه، بل نجد في أدائها انخراطاً واضحاً جداً في الشأن السياسي، فتشبه بذلك المرجعيات الدينية التي تتبنى أطروحة الولاية المطلقة للفقيه، كالتدخّل الواضح (وإن تم تسويغه بعناوين مختلفة، شرعية أو غير ذلك)، لمرجعية النجف في الفترة المعاصرة بأكثر من مفصل سياسي مرتبط بالدولة العراقية الحالية، بالضغط على الاحتلال الأميركي لإجراء الانتخابات، أو لإبقاء شخصية سياسية ما، في منصب سياسي كرئاسة الحكومة أو عدم بقائها. أما المرجعيات الدينية المسيحية، فهي تؤكّد على الفصل بين الدين والسياسة على المستويين المعرفي والديني، وفي أدائها تتدخّل بشكل واضح في السياسة بمبررات متعلّقة بقضايا وطنية، لكنها سياسية بامتياز. لذلك فإنّ مجمل هذه المرجعيات تشترك فيما بينها بالانخراط بالحياة السياسية، وإن اختلفت في مدى هذا التدخل وحدوده ومسافته. أو في المبررات المعرفية التي تطرح في إطار هذا التدخل أهيَ دينية، أم وطنية.

ألا ترون أن الدين أصبح يشكّل إحدى وسائل الصراع البشري بعد أن كان (رحمة الله للبشرية)؟

لا بد هنا، من الإشارة إلى أمرين: الأول، هو توظيف الدين وتحويله، إلى وسيلة يتم استغلالها لتحقيق غايات وأهداف دنيوية سياسية، وهذا تعامل خاطئ ومسيء للدين، والثاني، هو توظيف الطاقات والمشاعر والقيَم الدينية (كقيَم الخير، والعدالة، والإصلاح، ومواجهة الفساد والظلم) من أجل تحقيق الخير العام والأهداف السامية التي يتبناها الدين. والمقصود هنا بقيم العدالة (ليس المعنى التجريدي أو الفلسفي، بل المعنى الواقعي للكلمة)، أي العدالة التي لها أبعادها الاجتماعية والسياسية والمتوافرة في توزيع الثروات، وفي السياسات الضرائبية، وسياسات الأجور ومختلف مجالات الحياة الاجتماعية. فإذا كان الإستناد إلى المرجعية والقيم الدينية والاعتماد على الدين من أجل تحقيق هذه الأهداف الدينية الإنسانية، فهذا يكون أمراً إيجابياً، جيداً ومطلوباً.

“لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها”، ذلك يؤكد حثّ الدين الإسلامي في القرآن الكريم على الاعتدال، والتطرف هو تجاوز لحد الاعتدال، ممّا ينطلق المتطرّف في تكفير غيره دينياً وإباحة دمه؟

ظاهرة التكفير ليست بحديثة على مستوى الجماعة الإسلامية، فهي ظاهرة قديمة جداً، وهناك دراسات كثيرة أطلّت على العوامل التي أدّت إلى استيلاد هذه الظاهرة تاريخياً، وعملت على اجترارها في مجمل المفاصل التاريخية المرتبطة بالتاريخ الإسلامي. وإن اختلفت في البعد، المتعلق بسوء فهم الدين، أو بكيفية التعاطي معه. فالدين أتى ليغير إلى الأفضل، تغييراً شاملاً متعدّد الأبعاد، كالفكرية والثقافية والمعرفية، إلّا أنّ، بعض المجتمعات (كالجاهلية مثلاً) لغاية أو لأخرى، بدلاً أن تتغيّر بالدين، فإنها تعمد إلى تغيير الدين بثقافتها وأفكارها، ما يؤدّي إلى تشويهه. وكما قال الرسول للإمام علي (ع):” أنا قاتلت على التنزيل وأنت تقاتل على التأويل”، لما للتأويل من دور أساسي، فيستحيل استبعاد دخالة أكثر من سلطة سياسية في التاريخ الإسلامي، عمدت إلى تسويغ العنف الذي تمارسه مع المعارضة بمسوّغات دينية عن طريق فقهاء البلاط، ما أدّى على مرور الزمن إلى إنتاج تراث عنفي، تكفيري، يهدف في فترة معينة إلى تكفير المعارضة من أجل نزع أي حصانة دينية عنها تأييداً لممارسة عنف السلطة تجاهها.

غالباً ما يبقى التطرف في دائرة الفكر لارتباطه بمعتقدات دينية، سياسية واجتماعية، ما نسبة تحوّل هذا التطرف إلى عمل إرهابي إذا ما اقترن بسلوكيات مادية في مواجهة المجتمع؟

هو إرهاب فكري، ديني، وهو أشبه بالقنبلة، التي ربما إذا لم توقّت لم تنفجر، ولكنها تبقى قنبلة معرّضة لمن يأتي ويوقّت انفجارها، أويشعل فتيلها في أي وقت، لذلك البطولة ليست في الامتناع عن إشعال الفتيل، بل في أن نلغي أونعدم هذه القنبلة. وهذا التراث التكفيري أشبه بذلك، قد ينفجر في أي وقت في مجتمعاتنا الإسلامية، قتلاً ومجازر وتفجيرات، وبتعبير آخر فهو يشبه البذرة الخبيثة التي إذا ما اجتمعت بعض العوامل، من شأنها أن تنمو، فعلينا القضاء على بذور التكفير والفتنة والإرهاب الخبيثة، وذلك باستئصالها (ليس فقط من المعاهد الدينية والمدارس والمساجد ووسائل الإعلام)، بل وأيضاً من التراث الديني الإسلامي، وإلّا بقيت منبثَّة فيه بمثابة السرطان الذي لا نعلم متى يتمدّد، ليهدّد حياة مجتماعتنا بالخطر.

في ظل شيوع ربط التطرّف بالإسلام لدى أميركا والغرب، مع أنّ الإسلام يحذّر من أخطار هذه الظاهرة وانعكاساتها السلبية على أصحابها وعلى مجتمعاتهم، كيف يمكنكم توضيح مدى إدراك الإسلام لخطورة هذه الظاهرة؟

لو عدنا لنصوص الدين الإسلامي الأساسية، لا نجد صعوبة في الاستدلال على عدم المشروعية الدينية لهذا التراث التكفيري الدخيل على الإسلام، كالنص القرآني: ” وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين”، فضلاً عن النصوص الدينية التي تدعو إلى الخير، وعدم الاعتداء، والتي تؤكد على أنه “لا إكراه في الدين”، والتي تنهى عن التكفير والعدوان. والإشكالية لا تنحصر بالجانب المعرفي، بل هناك جوانب أخرى ترتبط بها، كالجهود التي تبذل في العديد من المؤسسات الدينية (في الأزهر والنجف وقمّ)، بإدراكٍ لخطورة هذه الظاهرة، فضلاً عن بدايات تعاون في هذا الإطار، نأمل أن يتكامل ويتوسّع ليصل إلى المدى الذي نشهد فيه عملاً جدياً وفعلياً ومؤثّراً لاستئصال هذا التراث من جذوره، إذ للأسف أصبحنا نرى على قنوات الإعلام دعوى علنية للقتل، فلا بدّ من تجريم هذه القنوات.

انطلاقاً من أنّ الإرهاب أداة أو وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، ما هي الغاية برأيكم التي تهدف هذه الجماعة لتحقيقها في منطقتنا وفي لبنان تحديداً؟

على مستوى الممارسة والفعل، ليست فقط أهدافاً سياسية. هناك مجتمعات تنتمي إلى طوائف مخالفة لرأيهم الديني أو الفكري أو المذهبي، ولا تشكل خطراً سياسياً عليهم، وموقفهم منها سلبياً، يقومون بذبحهم لاختلافهم عنهم، ما يؤكد أنّ الهدف السياسي هنا، ليس أساسياً، بل هناك بعد يتعلّق بالجانب الإيديولوجي. وإن كانت ممارسة العنف في بعض الموارد لها أهداف سياسية، وربما سيكولوجية ونفسية، أو دينية وغيرها، وإن كان في بعض المجالات الهدف السياسي هو الغالب، إلّا أنه في بعض الموارد الأخرى قد نجد أهدافاً أخرى، كالهدف الديني، خاصة وأنّ هذه المجتمعات هي دينية بوضوح، وبمقدار ما تسيء فهم الدين فهي تسيء توظيفه. لذلك، أشبّه الدين بالطاقة النووية أي الخلّاقة، إن أُحسِنَ فهمه يتحوّل إلى طاقة خيّرة ومؤثرة جداً، وإن أسيء فهمه يتحوّل إلى طاقة هدّامة، كالطاقة النووية، عندما تُستَخدَم لأغراض عسكرية.

كيف يمكن إقناع كوادر الإرهابيين باستراتيجية الانقلاب على الأوضاع، والقيام بالأفعال الإرهابية المنوط بهم تنفيذها؟

لا شك أن هناك عوامل تتعلّق بالبعد السيكولوجي، ذي الأساس الديني، كما أن هناك عوامل تتعلّق بالبعد الماورائي، كإقناعهم بالفوز بالشهادة والجنة وغير ذلك، وطرق الإقناع وأساليب التأثير على المستوى الديني متعدّدة، لكننا لو قرأنا هذه الظاهرة بشكل عام، نجدها (باعتبارها ظاهرة تكفير بالمعنى الإجتماعي والسياسي والعسكري)، تتميز بعدة ميزات منها، أنّ البعد العقلاني عندها بعدٌ ضعيف، ومدى فهمها للواقع المحيط بتعديداته السياسية والإقليمية وغيرها فهمٌ شبهُ معدوم، لذلك يكون من السهل جداً امتطاؤها، واستغلالها من قبل جهات إقليمية أو دولية تجد أنه من المفيد لها ولمصالحها ولأهدافها استغلال هذه الظاهرة على المسرح الدولي. ونتساءل على مستوى تجربة الصراع بين القطبين الأميركي والسوفياتي، ألم يستغلّ الأميركانيون ظاهرة هؤلاء الإسلاميين من أجل مواجهة المدّ الشيوعي أو الأحمر؟ أم أنّ الإستعمار الغربي أو الأميركي على العالم العربي والإسلامي، أقل خطراً وضرراً من المدّ الشيوعي أو الأحمر؟ لماذا تم استغلالهم إذاً؟ لأسباب أن الولايات المتحدة الأميركية كانت لها تحالفات مع هذه الدول العربية، الخليجية، والإسلامية، وتمتلك تأثيراً قوياً على هذه الجماعات، فأخذتهم لمواجة هذا المدّ الشيوعي أو الأحمر، لاستغلالهم فيما بعد بضرب محور المقاومة. ولكن هل الإنتفاضة التي تأخذ هذه الأبعاد العنفية، تعود للظلم الموجود لدى بعض الأنظمة العربية والغير موجود لدى أنظمة عربية أخرى، ولماذا لم تتحرك دينامية الربيع العربي في بعض الأنظمة الخليجية، ألأنّ الظلم فيها أقل من الموجود في غيرها، أو أن الإستبداد الذي يمارس منها هو أقل من الذي يمارس من غيرها، أو لأن الفقر والقهر والأمية والفوارق الطبقية والتضييق على الحريات والمشاركة السياسية فيها أقل؟ لماذا تحرّك الربيع العربي في بعض الدول العربية ولم يتحرّك لدى هذه المجتمعات التي هي أشد تخلفاً وأكثر استبداداً، والظلم الإجتماعي فيها، وصل إلى ما يتجاوز رأسها؟ والسبب، أنه ليس هناك قراراً دولياً باستثمار طاقة الربيع العربي ودينامياته، للتأثير على هذه الأنظمة، أو لتغييرها أو لإسقاطها.

وخلاصة ذلك أن المتطرّف أداة تنفيذ لمن يخطط لأهداف سياسية معينة وهو يمكن اعتباره ضحية الجهل والتطرف. ولو درسنا هذه الظاهرة من خلال مناهج فلسفة التاريخ، كفترة ممتدة وليست متقطعة، نجدها ما أنتجت سوى القتل، القهر، الدمار، الانقسام، التفريق، الفتنة والخدمة لمصالح الدول الكبرى، ولم تنتج شيئاً لخير هذه الأمة.

 

السابق
دراسة «آراء» لأولويات 2014: الغذاء.. الأمن والنفايات
التالي
«جد الملكة اليزابيث من آل هاشم»…تصريحٌ أثار الجدل وشجع البحث!