تقاطع تاريخي: تشيُّع السنة وتسنُّن الشيعة

ظهر المذهبان السني والشيعي كحلين متعارضين لأزمة الضمير الإسلامي التالية لـ»الفتنة الكبرى». بعد أقل من ثلاثة عقود على وفاة نبيهم، تقاتل المسلمون قتالا عنيفا مكلفا، ترتد أمامه صراعات العرب قبل الإسلام، ولم تكن سقطت من الذاكرة بعد، إلى شجارات صغيرة.

فضل بعض المسلمين صون وحدة الجماعة الفتية، لكن وحدة متصارعين لا تتحقق بغير إنكار الصراع ورفض الاعتراف به والتفكير في أسبابه، وبخاصة قضية «الإمامة»، أي السلطة. المذهب السني في الإسلام سيتولد عن هذا الخيار، وإن لم يستقر على ملامح نهائية قبل القرن الرابع الهجري.
وآل خيار مسلمين آخرين إلى «التشيع» لما يرونه الحق على حساب الوحدة، حق علي ونسله في الإمامة وخلافة النبي، وحول هذا الخيار سيتكون المذهب الشيعي. الشيعة هم من شايعوا عليا في الصراع مع معاوية. قبلوا بالصراع، فانحازوا إلى طرف وعادوا طرفا، وجعلو من قضية الإمامة أصلا من أصول العقيدة.
تكون المذهبان كلاهما في السياسة، وكمحصلة لحدث سياسي تأسيسي، لكن المذهب السني الذي تكون حول رفض التفكير في الانشقاق والصراع والعنف، أي في السياسة، ظل على قيد السياسة عبر الربط بين وحدة الجماعة وبين سلطة الخلافة من جهة، وعبر إعادة إنتاج رفض «الفتنة». عبر ذلك سيكون السنيون، «أهل السنة والجماعة»، هم «الأمة»، بينما سيكون الشيعة طرفا مخصوصا.
غير أن سلطة الخلافة تحققت منذ «الفتنة» المؤسِّسة بـ»الشوكة والغلبة»، وعملت على تشكيل «الإسلام» بصورة تضفي عليها الشرعية. ليس بدون مقاومات، نعم، لكن المذهب السني هو نتاج معالجة بعينها لأزمة الضمير بعد «الفتنة»، بقدر ما هو نتاج قبول سلطات مستولية خشية انبعاث الفتنة. هذا التثبت حول الفتنة قاد إلى تشريع «إمارات الاستيلاء»، وسلطات لم يندر أن كانت الجور مجسدا. هذا يثير سؤالا عن المضمون القيمي لهذا الخيار. ما هي القضية التي يجري الدفاع عنه حين يقبل كل طغيان وسفاهة تجنبا لـ»الفتنة»؟
ثمن الوجود السياسي هنا هو رفض التفكير في السياسة. تجنب الفتنة سار، سُنّياٌ، مع رفض التفكير في الفتنة، في منابعها، في مطالب الناس وصراعاتهم، في القيم التي يفترض أن تنتظم الاجتماع البشري، في سبل تسوية النزاعات بين الناس. لا شيء مهم يمكن الاستناد إليه هنا. الوجدان السني الموروث جعل من التغاضي فضيلة عليا.
بالمقابل، قاد الخيار الذي آل إلى المذهب الشيعي إلى الخروج من السياسة، لكنه انشغل كثيرا جدا بقضية السياسة الأولى: الإمامة،وتكون كمذهب حولها. على أن سياسة الجماعة الشيعية تمركزت حول مظلمة آل البيت، ولعن مرتكبيها والحقد عليهم، ورفض تقادم الزمان عليها. لقد صار مقتل الحسين بن علي تحديدا واقعة أصليةلا تاريخية، لا تبلى بكرّ الأيام.
في عين الشيعة، السنيون «نواصب»، يناصبون آل بيت الرسول العداء. هذا غير صحيح، لا يعادي الوجدان السنيعليا ونسله، لكن السنية تكونت حول النفور من الشقاق والتمزق، وتريد تجنبهما، ولو بثمن تناقضات هائلة، ولو بمناصبة الشيعة، أصحاب الخيار الآخر، العداء. وفي العين السنية، الشيعة «روافض»، منعزلون عن إجماع الأمة، ومعتصمون بنهج سلبي. هذا غير صحيح بدوره. الأمة أُبعدت عن السياسة منذ وقت مبكر، ربما منذ وقت «السقيفة»، ولا يكاد يقف في وجه السلبية أو الرفضية خيار إيجابي،يتيح لعموم المسلمين المشاركة في سياسة الأمة.
عوض الشيعة عن خروجهم من السياسة بسردية مظلومية فاعلة جدا، وهم إن كوّنوا ذاتية سياسية أقوى تماسكا، إلا أنهم حضنوا غِلّا مريرا لا يرتوي على من سيعتبرون سلالة يزيد أو ورثة معاوية. هنا أيضا يثور سؤال عن المضمون القيمي لخيار سياسي عقدي جعل من الحقد فضيلة جوهرية.
أما السنة فاضطروا لقبول تناقضات كبيرة مقابل وحدة غير محققة، منها القبول بالمفضول في وجود الأفضل، وهذا تسويغ للواقع القائم وليس خيارا فعليا، ومنها رفض الحكم في شأن صراع صحابة النبي المتقاتلين، بل واعتبارهم جميعا ودون تمييز تقريبا سلفا صالحا ومرجعا ساميا لا يُبلغ. هناك طرفة شهيرة تكثف الأمر. يقال إنه على شاهدة قبر حجر بن عدي الكندي كُتب التالي: هذا قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي رضي الله عنه الذي قتله الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لأنه كان مواليا للصحابي الجليل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه!
لكن اعتبار متقاتلين «سلفا صالحا»على قدم المساواة هو إنكار لواقعة تقاتلهم،وبالتالي رفض للتفكير بالسياسة، وهو ما يفتح الباب للخروج من السياسة بعد حين يقصر أو يطول.
أما أهم التناقضات فيتمثل في أن المذهب الذي تكون حول الوحدة لم يحقق الوحدة. وجود الشيعة بحد ذاته مؤشر على الإخفاق. علما أن الشيعة لم يكتفوا بوجود موصول، وإنما زادوا عليه المنازعة الوجيهة على الشرعية الإسلامية، ومن هذه المنازعةالقدرة على إنكار شرعية السنيين الإسلامية، أي إخراجهم من الإسلام. لا نتكلم على مجموعات أخرى تفرعت عن الجذر الحضاري الإسلامي، لكنها خرجت من الصراع على الشرعية الإسلامية، العلويون والدروز بخاصة.
لكن تعثر الوحدة محقق على المستوى السني ذاته. فالعيش في التناقض (قبول سلطات غير عادلة، إقامة الهوية على وحدة غير محققة، التسوية في الفضل بين متنازعين…)، وإن كان مؤشرا على تصالح مع التاريخ،خلخل مع الزمن طاقة التوحيد السنية، وانعكس تعددا وتناثرا واسعا في البيئات السنية ذاتها.
والحال أن عدم تحمل الانقسام والصراع، ورفض التفكير فيهما وتطوير معالجات مثمرة لهما، يحول دون تكون ذاتية سياسية متماسكة، ويؤسس لتفجر التناقضات في شروط مغايرة.
الشروط المغايرة توفرت في الزمن المعاصر.
اليوم يتطور الوعي السني باتجاه شيعي، ويتطور الوعي الشيعي في اتجاه سني.
في الإطار السني هناك اليوم مظلومية محتدمة، ورفض للعالم وحقد مشتد عليه. حيال «الفتنة» التي يمثلها العالم المعاصر كنظام للدولة الوطنية، وكحداثة مادية واجتماعية وسلوكية، وكحضور كبير للمرأة في الفضاء العام، وأشكال جديد من الصراع والانشقاق والعنف، تطور في البيئات السنية استعداد قوي للتكفير والهجرة والجهاد، للرفض. «روافض» اليوم هم السنيون، أو هم من السنيين. يفاقم من ذلك أنه ليس هناك مركز سياسي سني يحظى ولو بقليل من الاحترام أو الشرعية. لا السعودية ولا مصر هي هذا المركز، ولا يبدو أنتركيا تريد أن تكونه أو قادرة على إجماع أمرها على أن تكونه.
من رفضوا التفكير في العنف والصراع في الأزمنة التأسيسية، لا يهابون الفتنة اليوم، ويظهر بينهم من يمارسون اليوم عنفا أعمى، يعبر في واقع الأمر عن الخروج من السياسة والهامشية التاريخية.هذا الخروج ينعكس في ضغينة وحقد شديدين على العالم.
بالمقابل يظهر الشيعة سلبية أقل حيال العالم، ولديهم مركز سياسي متماسك، إيران، لا تقارن به دول مثل السعودية ومصر، وهو يمارس سياسة تبدو فاعلة، ولا يعتصم بالرفض المحض. يحاول المركز الإيراني وتوابعه تجميع أتباع وحلفاء حولهم، بما في ذلك من البيئات السنية المنهكة والمبعثرة. ويقبل الوعي الشيعي التناقض، وهو علامة على الانخراط في التاريخ، وتصالح الهوية مع الواقع. تتفاوض إيران مع الغرب، وتجد قواسم مشتركة مع قوى مختلفة تتعاون معها، وتعمل على تأليف قلوب سنيين وغيرهم، دون أن تتخلى عن هدفها الذي هو أن تكون قوة مستقلة فاعلة، فاعلا سياسيا تاريخيا له الكلمة العليا في محيطه.
لا يعاني الوعي الشيعي من أزمة ضمير كبرى في العلاقة مع العالم الحديث، ليس وراءه «عصر ذهبي»، ولا يجد التاريخ المعاصر عدوا فحسب، ولا يتطور بين من يُعرِّفون أنفسهم كشيعة مُركّب «الوعي الشقي». هذا المركب يميز اليوم الوعي السني الذي يعيش الحاضر كسقوط وانحدار، ويعاني أزمة نفسية أمام «الحداثة»، فإما يقبل عليها ويخون ماهيته، أو يصون وفاءه للماهية المفترضة، فيندار عن العالم ويعمل على تدميره، فيتسبب مرة إثر مرة في تدمير أوسع لعالمه الخاص. الماهية السنية في جهة والواقع المعاصر في جهة أخرى؛ هذا مظهر لرفض الانخراط في التاريخ والخوف منه.
تتقاطع على هذا النحومرة أخرى دروب الخيارين اللذين تكونا حول «الفتنة الكبرى»، بينما هما يتواجهان في فتنة كبرى جديدة. ولا يتبين المرء أي ديناميات أو استعدادات فكرية وسياسية ونفسية لتجنب هذا الصراع أو «اعتزاله».
هذا حين لا مفر من الاعتزال، ولكن مع العمل على تحويل الاعتزال إلى قوة سياسية تحررية، تكسر تناوب خيار الوحدة مع تناقضات مستعصية، وخيار رفض التناقض مع المظلومية والحقد.
بيد أن هذا يوجب العودة إلى ما قبل المذهب، وما قبل الفتنة، إلى الأسس، إلى الرسول والرسالة.

 

السابق
الشاب: لا بديل من النفوذ الغربي من أجل الحد من تطور التيارات الاصولية في لبنان
التالي
فادي كرم: إيران تعتبر لبنان ورقة تفاوض فهل يتعظ أتباعها اللبنانيون؟