هاني فحص في مؤلّفه الأخير: المسلمون بين التقريب والوحدة والفتنة

هاني فحص
أصدر العلامة والمفكر الإسلامي اللبناني السيد هاني فحص كتابه الذي بين أيدينا قبل شهرين ثم غفا غفوته الأخيرة، نعرض هنا أبرز ما أتى في الكتاب.

أصدر العلامة والمفكر الإسلامي اللبناني السيد هاني فحص كتابه الذي بين أيدينا قبل شهرين ثم غفا غفوته الأخيرة، ورحل عن هذه الدنيا بعد أن أغنى المكتبة العربية والإسلامية بالعشرات من الكتب التي تعنى بما كان يهجس به من ضرورة تعزيز للوحدة بين مختلف المذاهب والشرائح في الأقطار العربية والإسلامية درئاً للفتنة التي أصبحت على الأبواب على إثر ما حدث ويحدث في العراق وسوريا واليمن وغيرها من الأقطار الإسلامية التي اجتاحتها حمى التّعصّب وشيق السلطة.

كان السيد هاني فحص يؤمن بجدوى الحوار فنذر نفسه في العقدين الاخيرين للتقريب بين الأديان والمذاهب وأسّس مع ثلّة من المفكرين والسياسين المستقلين اللبنانيين “المؤتمر الدائم للحوار”، ويعتبر من الأعضاء المؤسسين للفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، ومن ثم “اللقاء اللبناني للحوار”، كما كان عضواً في “الإتحاد العالمي للعلماء المسلمين”، وعضواً في “أكاديمية أهل البيت” في الأردن وفي “منتدى الوسطية” أيضاً.

وبالعودة إلى النص الذي بين أيدينا “المسلمون بين التقريب والوحدة والفتنة”، وعنوانه دالاً عليه معنى ومغزى، فإن السيد الراحل يستعرض بداية تاريخ التقريب بين المذاهب الإسلامية من ذاكرته المتوقّدة التي غذّتها ثقافة رحبة عهدنا بها، ثم يعرج للتقاطع الديني والسياسي الذي حكمها ودور الدول والمجتمعات في ذلك، وبعد ذلك يتناول مسألة الأقليات بسؤال هل هي ضرورة أم ذريعة، ليدخل بعد ذلك إلى صلب الموضوع نحو الإشكالية السنّيّة الشيعيّة وضرورة التماهي بين المذهبين لا الإندماج، مستعرضاً شواهد الإندماج وتجاوز الفتن التي شوّهت الروح الإسلامية في تاريخنا الماضي القريب والبعيد، خالصاً لنتيجة أقرّها بعد عرضه لمختلف المراحل التاريخية وحتى عصرنا الحديث لما أنجز من جهود للتقريب بين المذاهب، وهذه النتيجة هي أنه طالما بقي الفقهاء خارج إغراءات السلطة فسوف تسود المحبة والإحترام بين المذهبين الإسلاميين الكبيرين السنة والشيعة في العالم العربي والإسلامي كلّه.

ونستعرض بدورنا نصاً لعلامتنا الراحل وهو الذي اشتهر بقلم أدبي طعّم به فكره المستنير فغدا علامة فارقة جعلته نسيج نفسه كمعلم عقلي ديني يبثّ للإنسانية آخر ما توصّل له الإسلام من حريّة وعدالة إجتماعيّة، ويقول في النص:

“كان التباعد بين المسلمين السُّنة والمسلمين الشيعة، يعتمد في استمراره وانفجاره أحياناً، على مقدار من الجهل المتبادل الذي غذاه التجهيل المتعمد، ما جعل صورة كل من الطرفين لدى الآخر، صورة نمطية تستمد عوامل ثباتها من اختلاف كان المفروض أن يكون طبيعياً في معرفة الإسلام، لم يكن يوماً منحصراً فيهما وبينهما، بل هو شائع في ما بين المذاهب كلها وداخل المذهب الواحد.

وقد تأسس هذا الاختلاف كما هو معروف، ولأسباب يدخل التسويغ السياسي في جملتها من دون أن يختزلها، على مسألة مركزية في السياسة الدينية، لم يعطل إبان حصوله حول الخلافة، في العهد الراشدي، ورشة المسلمين التي تركبت من مجموع المشارب والحساسيات والاجتهادات، لتوالي عملية ترسيخ الإسلام ونشره. ولم يعرف التاريخ الإسلامي، ما سماه المؤرخون لاحقاً فتنا بين الشيعة والسُّنة، إلا في عهود متأخرة عن العهد الراشدي، إذ كان الصراع في العهد الأموي أشد التباساً وتركيباً وتداخلاً بين الأسباب، من دون أن يغيب البعد العلوي – الأموي عن صورته.

وتكرر حدوث الفتن في العصر العباسي خصوصاً، لأن خلفاء أو ملوك العباسيين كانوا حريصين على موقعهم بين السُّنة والشيعة، لأن ذلك التذبذب كان يتيح لهم لونا من الاستمرارية تقوم في ما تقوم، على كونهم سنة في نظر السنة بلحاظ الإلتزام الفقهي، وإن لم يقصروا في اضطهاد ثمة السُّنة وعلمائهم، وعلى كونهم شيعة إذا ما أراد الشيعي أن يراهم كذلك، وإن كان هذا الجانب من تعريفهم أو النظر إليهم يقوم على السلب لا على الايجاب، أي على كونهم ضد السنة بلحاظ موجبات وظروف وخلفيات تأسيس دولتهم، التي استثمرت ممانعة الشيعة في مواجهة الأمويين والقسوة الأموية عليهم.

ومن ذلك الموقع ابدى العباسيون في كل عهودهم، امتداداً إلى العهد السلجوقي ومروراً بالبويهي حرصهم على المباعدة بين السُّنة والشيعة وتعصيب كل منهما ضد الآخر، وإشعال الفتن في بغداد وغيرها كلما احتاجوا إليها لتبديد قوى الاعتراض والاحتجاج على الجور والفساد. ولعله مما يكشف أن العباسيين لم يكن من همهم الانتصار لطرف على طرف، هو انهم لم يقصروا في تأجيج الصراع بين أهل المذاهب السنية ذاتها، متذرعين إلى ذلك بأفكار ومسائل دينية ساعدوا على افتعالها ورفعها إلى مستوى العقيدة والمقدس الديني. من هنا كانت فتنة خلق القرآن والدم والقتل الذي حصل بشأنها، والفتنة بني المعتزلة والأشاعرة عموماً، مروراً باضطهاد الشيعة وسجن أئمة أهل البيت عليهم السلام وسجن، وتعذيب الإمام أبي حنيفة أو قتله في رأي بعض المؤرخينن، واضطهاد الإمام مالك بن أنس، عقوبة على مساندتهم لبعض قوى المعارضة وخاصة حركة أبناء الإمام الحسن عليه السلام وصولاً إلى التذرع بتهمة الالحاد والزندقة، خاصة في زمن الهادي والمهدي العباسي، والتي ذهب ضحيتها عدد من العلماء والأدباء والمفكرين من ذوي الإيمان الراسخ والعقيدة الصحيحة والأسئلة الوجيهة، ولم تطل من الملاحدة أو أهل الشبهات الإلحادية إلا القليل ولأسباب سياسية أولاً وبالذات، لا عقائدية.

وعلى مر التاريخ، كانت دول الجور وسلاطينها تنكشف فيزول مقدار من الجهل المتبادل، وتتواصل الديار والأقطار بالتجارة والحج ومواجهة المخاطر المشتركة والغزو الأجنبي، الصليبي والمغولي مثلاً والغربي الاستعماري واليهودي الاستيطاني في ما بعد، وبالرحلات والتبادل العلمي بين الحواضر، من غزة إلى القاهرة إلى جبل عامل وبلاد الشام عموماً إلى أقطار المغرب والاستانة والعراق وإيان والهندس وآسيا الوسطى، فيعاد، بالتعارف والتثاقف، اكتشاف المشتركات المنهجية وتحرير مساحاتها وتوسيعها وحصر مسائل الخلاف وضبطها، وتزداد الضمانات، من دون أن يمنع ذلك قوى الشر في الداخل والخارج من اغتنام الفرص واستثمار بقايا الجهل وذاكرة الفتن في تأجيج فتن أخرى … إلى العصور المتأخرة وبروز مشاركات إسلامية عامة، بعيداً عن دواعي البعد والتباعد، في مواجهة الجور الداخلي أو العدو الخارجي.

وهكذا قرأنا عن حركات معارضة ومناهضة للسلطة العثمانية، اندمج المسلمون فيها على موجبات العقيدة ونصاب الوحدة ومقتضيات المصلحة الواحدة والمصير الواحد، وبرز في بلاد الشام مثال ظاهر العمر ونصايف النصار، والحركات اللاحقة التي واجهت جور جماعة الاتحاد والترقي عبر الجمعيات السرية والعلنية التي شارك فيها الجميع، وكانت ثورة العشرين في العراق بقيادتها وقاعدتها الشيعية والمشاركة السنية الواسعة فيها ضد الانكليز شاهداً على الموقف المبدئي ونسيان أو تناسيَ عوامل الفرقة وأسباب الشكوى، وإعادة ترتيب الأولويات الإٍلامية واتجاه حركة عموم المسلمين وجهادهم في المفاصل الصعبة. وقبل ذلك كانت حركة الوحدة الإسلامية على أساس حماية المتحقق منها والارتقاء به في ظل الدولة العثمانية إلى مستوى أعلى وأوضح واعدل.

ومواجهة تحديات المشروع التجزيئي الاستعماري، قد نشطت على ما أسسه السيد جمال الدين الأفغاني ورفيقه الشيخ محمد عبده وتلاميذهما الذين امتد أثرهم إلى ثلاثينيات القرن مرروراً بتجليات كانت ثورة أحمد عرابي في مصر احداها كما كان مقتل ناصر الدين شاه القاجاري في ظهران من علاماتها، تنتهي إلى حركة التقريب بين المذاهي الإسلامية بعدما نجح المشروع التجزيئي في إقامة الحدود بين أقطار الأمة… على أساس أن إعادة بناء الوحدة على أساس العقيدة يشكل احتياطياً ذهبياً في مواجهة استحقاقات التجزئة”.

السابق
ضهر البيدر مقفلة حتى اشعار أخر
التالي
من أجل رحلة الى أقاصي السلام: نظرة على العنف وتجلّياته في لبنان