الثورة المصرية والقراءة التفكيكية لـ1700 مفتاح دلالي

في السياقات الإمتثالية، كنا لنقرأ كتاباً عن كلام الثورة المصرية الحديثة، من باب استعادة اللحظات التعبيرية التي رافقت مخاضاً سياسياً بدّل ملمحاً في وجه التاريخ المعاصر. أما اليوم، ونظراً إلى عدم اكتمال الثورة بسوى ثورة مضادة، باتت مطالعة “مصر الثورة وشعارات شبابها” لنادر سراج، الصادر لدى “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” تأخذنا على نحو بديهي، إلى التمعّن في القابع خلف القشرة الخارجية، وإلى البحث عن إشارة في قاموس اعتراض 2011 المدني، تلمّح إلى معوقات ستواجهه.

نقرأ الكتاب إذاً في 2014 بعدما أنبتَت الثورة الأولى، أي ثورة 25 يناير 2011، ثورة ثانية كان مُلحّاً اتمامها لإنقاذ شيء من الحلم البدئي. ندخل إلى مفردات الثورة إذاً، واعين فترة مُستقطعة من الخيبة هَشّمت يوتوبيا الوطن الخارج من رحم شباب مندفع، تأبّط حلمه ومشى من دون احتساب طرق العودة. الشباب المصري على نسق شباب أوطان عربية أخرى كثيرة، حشود سرقت جذوة التمرد وكسرت قمقم الإستبداد، أتت رافعة راية القول ظناّ منها أن للكلمة، الفعل الفصل والفعل الأقوى. لم يتأخّر هؤلاء، في إدراك أن تقزيم الخيال، حرفة عربية.
حين نزل طلاب أيار 68 إلى شوارع فرنسا يقتلعون بلاط أرصفة الشوارع ويستخدمونها في المواجهات، ويكنسون ما عَدّوه عالماً عتيقاً صار خلفهم، حملوا هم أيضاً الشعارات. تحدّث أحدها آنذاك عن ضرورة أن “يتسلّم الخيال مقاليد الحكم”، وربما في هذا التعبير خلاصة السقف الذي وضعوه: بات ممنوعاً أن تجري ممارسة المنع، والإفتراضي منه حتى. ربما يتقاطع المشروع الذي بلوره طلاب 68 مع مشروع شباب الثورة المصرية، وربما يفترق عنه أو يتعارض معه حتى. لكن نادر سراج يذكّرنا في كتابه بأن معظم منشئي الشعارات ومحرّكي التظاهرات ومنظّمي الاعتصامات كانوا من شباب الثورة الليبيراليين “السلميين” ذوي الثقافة المدنية (“حركة شباب 6 أبريل”، “ائتلاف شباب الثورة”، “كفاية”، و”كلنا خالد سعيد”)، أو من أنصار الحركات الثورية واليسارية التي انضم اليهما لاحقاً فصيلان شبابيان هما “الألتراس” و”البلاك بلوك”. يُحَدِّد هؤلاء لينطلق في دراسة لسانية تبنّاها المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، وعُرضت بعض أفكارها وتوجهاتها الأولية خلال مؤتمرين عقدا في بيروت. الكتاب ثمرة عمل فريق لبناني مصري من خمسة باحثين مساعدين تمهلوا خلال 12 شهراً، بين آذار 2012 وآذار 2013، عند 1700 شعار حملَت الثورة على أكتافها. ونظراً إلى اختلاف مصادر الشعارات وشكلها وإحالاتها، توزّع الكتاب في ثلاثة أقسام: التراكيب واستخدام الضمائر أولاً، قضايا البلاغة من خبر وإنشاء وخروج اللفظ عن مقتضى الظاهر ثانياً، والدراسة السيميائية لرموز المظهر والملبس والمأكل وغيرها ثالثاً.
يتفحّص الكتاب متأنياً، فيضاً من المدلولات، كما في الفصل التاسع حين يتوقّف سراج عند سيميائية الإشارات والرموز من باب الرموز الدينية. يعاينها أشكالاً بصرية وتعابير ومسكوكات لغوية، ويتأمّل صعوبة تصنيفها. يستدعي سراج، عضو الجمعية الدولية للسانيات الوظيفية، رموزاً حملت ثورة مدنيّة ليتجاور الصليب والهلال ويتعانقان. يستعيد لافتات حملت في فحواها تلاحم المكوّنين الدينيين، إلى رسوم غرافيتية ولوحات جدارية ظهر فيها الرمزان من دون شعارات أو تعليقات مواكبة. وفي زمن سطا على فكرة الثورة وجعلها صنو التطرف الأعمى، يكتب سراج أن علامتَي الصليب والهلال المتعانقين، على خلاف انفصالهما، لم يجيئا “مؤشر استقرار وهدوء” بقدر ما كانا “رد فعل تضامنياً على نزاع طائفي الملامح ينذر بعواقب الأمور ما لم تخمد جذوته”. والحال انهما استُنبطا في موازاة التعدي على الكنائس والأقباط. غير أن صورة “الهلال معانقاً الصليب”، وعلى ما يشير الكاتب، استقيت من الإرث الوطني المصري، وكانت ظهرت على إحدى الرايات خلال مسيرة شعبية في مطلع القرن العشرين.
يتمهّل الكتاب عند مفهوم واحد وظّف في سياقات عدة بل ومتناقضة. استقدمت “اليد الواحدة” على سبيل المثال في بادئ الأمر للدلالة على الوحدة بين الشعب والجيش، أو بين الشعب والشباب، ليتحوّل معناها لاحقاً للتنديد، فبرز شعار “طنطاوي ومبارك إيد واحدة” خلال الإحتجاج المناهض للحكم العسكري. هذه اليد عينها هُدِّدت بالقطع في أعقاب التحرش بالنساء في ساحة التحرير وغيرها، فدعت هيئات وحركات نسوية الى حملة “قطع إيدك” رفعَت شعارات “التحرش مش هيفيدك… جرّب تاني وأنا بقطع إيدك”.
يفرد الكتاب حيزاً لدينامية استخدام الضمائر في لغة الشعارات، ويذهب إلى حدّ إعداد جداول بيانية بها. والحال، أن بروز “أنا” المتكلم، في أعقاب حقبة الذوبان في البوتقة الجماعية القسرية، ضارعه استخدام “نحن” و”نحنا” و”إحنا” و”دحنا”، الدالة في هذا السياق على الإلتئام الإختياري ضمن مجموعة متراصة وقادرة على التغيير. أضف إليها استقدام “هو” و”هم”، و”هي”، للدلالة على مصر المؤنّثة كما في شعار “يا ما قلتو عنها عجوزة هي كانت لسّة شابة”.
تعرّج الدراسة على التناص اللغوي في ستة وثلاثين فيلماً، بعضها من كلاسيكيات الفن السابع المصري والبعض الآخر أكثر معاصرة، وظّفت عناوينها في شعارات ساخرة، فبات مثلاً شريط “ثرثرة فوق النيل” السينمائي، “ثرثرة فوق التحرير”، ليغدو عنوان “أبي فوق الشجرة” أيضاً، “أبي فوق الدبابة”. تمدّد نطاق تملك المرجعيات الثقافية إلى الإقتباس من الشعر العربي أيضاً، بدءا من أبي الطيب المتنبي وصولاً إلى أبي القاسم الشابي. واستمهل قول طارق بن زياد مخاطباً جيشه “البحر من أمامكم والعدو من ورائكم”، ليصير “دولة التكفير أمامكم ومبارك الجديد خلفكم”. كلام يفصح عن خيارين لا يشفيان غليل الطموح الثوري عشية انتخابات رئاسية وضعت “الأخوان” في كفة أولى وأحمد شفيق في كفة ثانية. ربما تأتي حكاية صاحب مقهى Unità caféوهو من شباب الثورة المتحمسين، كعلامة إضافية على لجم الحماسة المصرية الوطنية وعلى قوقتعتها وفق الحسابات الضيقة. يذكُر سراج أن صاحب المقهى قرر جعل الصليب والهلال المتعانقين اسماً تجاريا لمنشأته السياحية، ليضطر الى تغيير الإسم والشعار بعد سبعة شهور، والسبب إحجام بعض الزبائن العرب والخليجيين تحديداً عن ارتياد مقهاه بسبب خياره المندفع.
لا يتردد كتاب “مصر الثورة وشعارات شبابها” في الإعتماد على مجموعة من المصادر والمراجع المطبوعة والمرئية والمسموعة والإلكترونية ليكمل رسمه البياني. يوفّق المؤلف في إنقاذ الوثيقة من قدرية السقوط من خروم مصفاة التاريخ العربي الإنتقائية والقصيرة الذاكرة خصوصاً.

http://newspaper.annahar.com/article/176764

 

السابق
تركيا تتدخَّل عسكرياً ضد «داعش» وإيران تُحذّر من التفاقم
التالي
الحكومة اللبنانية تجدد تفويض سلام التفاوض لاطلاق العسكريين