غزة والعراضات الإعلامية

فيما يُمعن النظام السوري، وحلفاؤه من الميليشيات اللبنانية، في دكّ أهل سوريا ومدنها بالبراميل والطائرات والمروحيات والحصارات والوحشيات على أنواعها، يرمي أهل سوريا في فراغ الموت والعوز والتهجير والجروح النازفة؛ وفيما لا تقصر”داعش” بدورها، في التطهير المذهبي والعرقي والديني، في تدمير حدود الأوطان، رداً على تطهير المالكي وتشييعه للعراق وإلحاقه بايران، عل غرار نظيره السوري…

في انفجار داخلي دموي مدمر، مع قوافله التي لا تنتهي من المهجرين والنازحين والمعوزين والمقتلعين من أرضهم بما تيسر لهم من أغراض محمولة في حقائب بائسة.. في هذا الوقت بالذات، الممتد لما يربو الآن على ثلاث سنوات، جاء العدوان الإسرائيلي على غزة، ليحظى بحملات تعاطف وتظاهرات، وإن صغيرة، واستنفار أحزاب “وطنية”، وباهتمام إعلامي هائل، يبرز للمرة الأولى الفرق بين تغطيتها وبين تغطية الحرب الدائرة على العراقيين والسوريين، وبينهم فلسطينيون (مثل تلك العراضة الإعلامية، البكائية الإعلامية، المهداة إلى غزة، التي تباهت الأقنية التلفزيونية اللبنانية بتنظيمها، واحتفلت بها أيام؛ ولم تمنعها عواطفها الفوّارة من تصدير صورة الإرهابي كارلوس، تمنحه جوازاً إعلاميا بعدما كان طواه النسيان…)؛ كأن الحدث الغزاوي أهم، أكثر مصيرية، أقوى تأثيراً على حياتنا ومستقبل بلادنا من أي شيء آخر؛ إهتمام إعلامي مبالغ به، في منطقتنا، إذا ما قيس بالتعتيم الإعلامي على جرائم النظامين السوري والعراقي، وعلى فظاعات خصومهما من إسلامين جهاديين أو سلفيين أو نقشبنديين، وكان آخرها طرد “داعش” لمسيحيي الموصل من ديارهم وبلادهم بعد تجريدهم من كل شيء، وحرق كنائسهم وانتهاك مقدساتهم… أي بأفظع، بأخطر مما فعلته إسرائيل بالفلسطينين قبل سبعة عقود.
لماذ؟ لماذا هذه الهوّة السحيقة بين التغطيتين؟
هل لأن الدعم الإعلامي لغزة لا يكلف شيئاً؟ بل يرفع من نسبة المشاهدة، وبنسبة أقل، من القراءة، ويلمع أسماء أصحابها، فتطير نجوميتهم الى السماء؟ أو لأن الدعم الإعلامي والصخب الإعلامي العنقودي حوله يسكت الجبهة الأخرى التي يقاتل فيها هؤلاء “الداعمون”، في حرب أهلية مذهبية؟ أو لأنهم لو كشفوا عن بعض تفاصيل وجوهها كما يفعلون مع غزة، لأصابهم العار… لو كان للكلمة معنى عندهم؟
هل لأن عدد الشهداء في غزة، أكثر كثافة من أولئك الذين يرفض نصفنا وصفهم بالشهداء، إنما “فطائس”، أو “قتلى” في أحسن تقدير؟ أم لأن ذاك “السجن المفتوح على السماء”، الذي هو قطاع غزة، محاصر، يعيش على بقعته الضيقة مليون ونصف مليون إنسان، لا يستطيع الفرد منهم الهرب بأولاده، لا إلى إسرائيل ولا مصر ولا البحر؟ وليسوا مثل السوريين والعراقيين، ومعهم آلاف الفلسطينيين اللاجئين ثانية، الهاربين داخل بلادهم وخارجها، والذين يفوقونهم عدداً؟ أو لأنه من المعروف سلفاً بأن عدوان غزة سوف يتوقف في لحظة ما، وبأن هدنة ستسود، فيما الحرب الأهلية العربية لا يبدو إن عمرها قصير، إنما سوف تدوم؟
هل لأن الذي يقتُل في غزة إسرائيلي يهودي، وإدانته والتضامن مع ضحاياه جائز قومياً ودينياً، فيما القتل الذي يمارسه الأسد أو المالكي أو”داعش أو “حزب الله”، ليس على أي قدر من الإجرام؟ “عربي يربّي عربياً”؟ مثل الأب الذي يربي ابنه. ما شأن الآخرين بهذا الموضوع العائلي؟
هل لأننا نتضامن تلقائيا، معتادون على التضامن مع القضية الفلسطينية، أسهل انواع التضامن؟ فيما “التضامن” مع الشعوب السورية والعراقية في العدوان اليومي عليهم يتطلب مراجعة الثوابت، والنقد المستمر، واليقظة.. وكلها سمات ليست صارخة في عهد الإعلام المكتوب الذي يصبو إلى التشبّه بالإعلام المرئي؟ أم لأننا نخجل أمام العالم، أي الغرب، من تصدير صورة الوحوش التي فينا وبيننا، فيما نرتاح في غيرها، صورة الضحية الحقيقية، كأننا نريد أن نقول بأن فشلنا في بناء أنفسنا ليس من ذنبنا؟ إنما ذنب اسرائيل؟ ومعه المؤامرة علينا، التي لا تريدنا ان نكون على مستوى الأمم الأخرى الطبيعية…الخ؟
هل لأن في عبارة “مركزية القضية الفلسطينية” يتفوّق المعنى العاطفي الشرقي المنتحب الراسخ على المعنى السياسي الواقعي؟ فوق هذه “المركزية”، وهي مزمنة، قديمة، نسجت على امتداد عمرها الذي يبلغ الآن السبعة عقود، علاقات تضامنية عربية ودولية، إعلامية وإنسانية؟ فيما لم تتمكن الشعوب ضحية العدوانين البعثي والجهادي، إلا ان تحصد البراميل والجرائم والمعارضة المتخبطة؟
أم لأن “مركزية القضية الفلسطينية” صارت تعني، مع الوقت، سهولة توظيفها من أي طرف، أو جهة سياسية؟ والثمن القليل الذي تدفعه في هذا التوظيف؟ بل الربح الكثير؟ تبرىء المسؤولين الفلسطينيين عن نكباتها، فتيسر عليهم البقاء على كرسيهم الهزاز؟ تقابله طاقة توظيفية مضادة، كما هو حاصل اليوم في مصر، حيث يحتشد الإعلام المرئي والمكتوب خلف رئيسه، وبحماسة غير محدودة، في حملة رسمية وشعبية مضادة لكل ما هو فلسطيني، من قضية أو شعب أو أفراد أو فنون أو آداب؛ كأن مصر بذلك تبني مجدها الخاص كـ”قوة إقليمية”، لها دور “ريادي” في تسيير دفة المنطقة على قاعدة الدفاع عن مصالح إسرائيل؟ أي ما كانت تأخذه على “الاخوان المسلمين” عندما حكموا منذ عام، ولمدة عام؟

السابق
رفض العدوان على غزة في ملاعب كرة القدم
التالي
قبلان دعا الى التماس هلال شوال الاحد ويعتذر عن استقبال المهنئين