واشنطن ترشح 18 دولة عربية للتقسيم

منتصف شهر كانون الأول من السنة الماضية 2013، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” وثيقة سياسية إدَّعت أنها جمعت معلوماتها من خبراء ومؤرخين وإختصاصيين في شؤون الشرق الأوسط. كان من الطبيعي أن تثير تلك الوثيقة إهتمام زعماء المنطقة، خصوصاً أنها تحدثت عن “الربيع العربي” كمدخل لتفكيك الشرق الأوسط الى دويلات إثنية وطائفية وعشائرية.

قالت الصحيفة إن بلوغ هذه الغاية سيتم عبر سلسلة نزاعات محلية وإقليمية يؤدي عنفها، في النهاية، الى التخلص من حدود سنة 1916. أي الحدود التي رسمها الديبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو ونظيره البريطاني مارك سايكس. لذلك حملت تلك الاتفاقية إسمَيهما كشهادة على سيناريو خضع لرغبة المنتصر في الحرب العالمية الأولى، لا لرغبة سكان البلدان التي رسما حدودها المقتطعة من الامبراطورية العثمانية المهزومة.

وتدّعي “نيويورك تايمز” أن المشرفين على مراكز القرار بالنسبة لهذه المسألة الخطيرة لا يتحدثون عن تقسيم دول المنطقة، بل عن تصحيح خطوط إتفاقية سايكس-بيكو. وهم يعترفون، بطريقة غير مباشرة، أن الحدود السابقة لم تصمد أكثر من مئة سنة أمام السيل الجارف الذي زاده إنهيار المنظومة الاشتراكية زخماً وإندفاعاً.
وكتب ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الاميركي، كتاباً تحت عنوان “حرب الضرورة أم حرب الاختيار؟”. وفيه يذكر أن قرار الرئيس جورج بوش الابن إحتلال العراق سنة 2003 كان بمثابة الشرارة التي أشعلت حرب المقاومة الاسلامية، وما رافقها من تأثيرات عميقة على سوريا ولبنان وايران ومختلف دول الجوار.

وتوقع “هاس” في كتابه تفكك العراق الى ثلاث دويلات، مع هيمنة ايرانية مباشرة على محافظات الجنوب، وإنفصال منطقة كردستان بعد إعلان إستقلالها. أما الشمال الغربي فيبقى من حصة “داعش” والمتشددين السنّة الطامحين الى إنشاء دولة سنيّة مكوّنة من محافظات غرب العراق، بما فيها الموصل الممتدة الى مدن شرق سوريا.
ويواجه هذا السيناريو إعتراضات كثيرة من مختلف دول المنطقة والمرجعيات السياسية والدينية. فالمرجع الديني الأعلى للشيعة في العراق، علي السيستاني، أفتى بضرورة مقاتلة تنظيم “داعش”، الأمر الذي شجع عشرات الآلاف من المحافظات الشيعية للتطوع والتدريب على حمل السلاح. وحذر، من خلال ممثله عبدالمهدي الكربلائي، من مخاطر تفتيت البلاد وتقسيمها، معتبراً أن “الخليفة” أبو بكر البغدادي ليس أكثر من عميل لدول أجنبية وعربية.

ومن أجل إبعاد شبهة التدخل عن واشنطن، أعلن وزير الخارجية الاميركي جون كيري أن بلاده ملتزمة وحدة العراق. علماً أن إدارة اوباما راهنت على نوري المالكي، وعلى الدعم الذي تقدمه له ايران وروسيا. وتوقعت أن يبطىء هذا الدعم زحف “داعش” في اتجاه بغداد والمراقد الشيعية المقدسة مثل النجف وكربلاء والكاظمية.
ومن دمشق، نشرت هيئة التنسيق الوطنية التابعة للمعارضة المقبولة من النظام بياناً حذرت فيه من خطر سيطرة “داعش” على مناطق عدة في شرق سوريا وشمالها. وقالت إن إحتلال حقول النفط في محافظة “دير الزور” يهدد كيان الدولة السورية ووحدة وسلامة أراضيها.
ويرى المراقبون في الاتحاد الاوروبي أن وحدة العراق قد تعرضت للاهتزاز والتمزّق. فالشمال الكردي قطع إرتباطه بمركزية بغداد، وإتجه نحو تركيا لبناء علاقات إقتصادية بديلة. وفي وسط العراق وجنوبه إستمرت حكومة الأمر الواقع التي يسيطر على قراراتها شيعة موالون لايران. أما زعيم “داعش” ابرهيم عواد السامرائي، الملقب بأبي بكر البغدادي، فقد أطل يوم الجمعة الماضي من فوق منبر جامع الموصل ليحضّ المسلمين على مبايعته خليفة.

وقال في خطبته: “أُبتليتُ بهذه الأمانة الثقيلة، فوليتُ عليكم ولستُ بخير منكم، ولا أفضل منكم. فان رأيتموني على حق فأعينوني… وإن رأيتموني على باطل فانصحوني وسددوني. لا أعدكم كما يعد الملوك والحكام رعيتهم برفاهية وأمن ورضاء، وإنما بما وعد الله عباده المؤمنين”.
ويُستدَل من تشابه صيغة هذه العبارة المروية على لسان أحد الخلفاء، أن البغدادي خلع عباءة الرجل المقاتل في أزقة بغداد… وإرتدى عباءة الواعظ والمرشد الأعلى لدولة بدأت بـ “داعش” وإنتهت بـ”الدولة الاسلامية”. أي أنها إنطلقت من مساحة جغرافية معينة محصورة بالعراق وبلاد الشام (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين) لتصبح “الدولة الاسلامية”.
ويرى المرصد السوري لحقوق الانسان أن البغدادي إضطر الى إستنباط مصطلح جديد لدولة الخلافة بعد إنضمام آلاف المقاتلين المغاربة الى صفوف تنظيمه. لهذا أصدر العاهل المغربي الملك محمد السادس مرسوماً يمنع بموجبه الأئمة والخطباء وجميع المشتغلين في المهمات الدينية من ممارسة أي نشاط سياسي.

وقد أشاد زعماء الدول الاوروبية بهذه الخطوة الجريئة لأنها تقطع الطريق أمام ظاهرة توظيف الدين لخدمة أغراض سياسية. ويبدو أن خطوة العاهل المغربي لاقت الاستحسان لدى الدول المجاورة، بدليل أن السلطات الجزائرية فصلت 230 إماماً كانوا يتبارون في إلقاء خطابات دينية متطرفة.
وكان من الطبيعي أن يمد البغدادي سلطة خلافته الى المغرب بهدف إستمالة العديد من أبنائه، ومنع السلطات من تطبيق المرسوم الملكي. لذلك حرصت “الدولة الاسلامية” على مهاجمة شخصيات مغربية رسمية وحزبية عبر شريط فيديو. كما أشادت ببطولة شاب مغربي نفذ عملية إنتحارية في محافظة الأنبار.
في هذا السياق، دخل على خط الأزمة الشيخ يوسف القرضاوي الذي أعلن من الدوحة أن تنظيم “الدولة الاسلامية” باطل شرعاً. وأوضح القرضاوي في بيان مسهب: “إن الخلافة من الناحيتين الشرعية والفقهية تعني الانابة. والخليفة – لغة وشرعاً – هو نائب عن الأمة الاسلامية ووكيل عنها من خلال البيعة التي منحتها للخليفة. وهذه النيابة لا تثبت شرعاً وعقلاً وعُرفاً إلا بأن تقوم الأمة جميعها بمنحها للخليفة. من هنا القول إن مجرد إعلان جماعة للخلافة ليس كافياً لاقامة الخليفة”.
ومع أن كلام الشيخ القرضاوي جاء منسجماً مع دوره كواحد من أهم مرجعيات الاخوان المسلمين، إلا أن التفسير السياسي لبيانه جاء لينفي عن قطر إتهامات الصحف الغربية بأنها شاركت في تمويل “داعش” مع دول خليجية أخرى.

الى ذلك، حذرت ايران الأكراد من مغبة الانفصال عن العراق، مهددة باقفال المعابر بين البلدين، وبدعم أي فريق يواجه هذا المشروع الذي إعتبرته صناعة اسرائيلية. ورد رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني على تهديد طهران بأنه مستعد لاجراء إستفتاء على الاستقلال. وكانت الولايات المتحدة قد حثت البارزاني على إبقاء الاقليم جزءاً من العراق. وخلال إجتماع عقده مع الوزير جون كيري، أبلغه أن العراق لم يعد كياناً موحداً.
ويعيش في إقليم كردستان العراق شبه المستقل خمسة ملايين كردي. ولقد إستغلت السلطة المحلية إجتياح تنظيم “الدولة الاسلامية” للمناطق السنيّة كي تستولي على مساحات شاسعة من الأراضي في غرب العراق وشماله، تصل الى ما نسبته أربعين في المئة زيادة عن المساحة الأصلية.
وقد إتهم نوري المالكي قوات البيشمركة الكردية باستغلال الأحداث الجارية للاستيلاء على منطقة متنازَع عليها في كركوك. ويرى البارزاني أن غضب طهران مصدره الخوف من تنامي شعور الانتماء الى كردستان لدى سبعة ملايين كردي مسجلين على قوائم المواطنين الايرانيين. ومثل هذا الخلل قد يضرب سوريا حيث يوجد أكثر من مليوني مواطن كردي.

ويرى خبراء الأمم المتحدة أن قيام “الدولة الاسلامية” السنية على حدود ايران يشكل نموذجاً للدولة الدينية التي دشّنها الامام الخميني تحت إسم “جمهورية ايران الاسلامية”. ومعنى هذا أن قيادتي البلدين تلتقيان حول تصوّر واحد، ما عدا إختلافهما الايديولوجي بين “نظام الخلافة” ونظام “ولاية الفقيه”. أما التشابه فيكون بالاتفاق على إلغاء الدولة القومية المدنية، وإحلال دولة دينية محلها.

ومن هذا التصور، ترى ايران أنها مضطرة الى محاربة دولة جديدة هي في الواقع تمثل شكلاً من أشكال النظام الديني الذي يسوّقه ملالي طهران في المنطقة. كتب الاكاديمي البريطاني روجر اوين مقالة هذا الأسبوع قال فيها إن النزاع الطائفي في العراق لن تقتصر تداعياته على تقسيم البلاد الى ثلاث وحدات سياسية… بل قد ينتهي الأمر الى جرّ القوى المجاورة، ولا سيّما ايران والمملكة العربية السعودية، الى هذا النزاع.
والثابت أن الحديث عن إعادة تقسيم الشرق الأوسط، بعد صوغ سايكس-بيكو جديد، ظهرت عقب الغزو الاميركي للعراق سنة 2003. ثم تكرر هذا الحديث اثر إندلاع ثورات “الربيع العربي”.

وربما كانت وزيرة خارجية اميركا السابقة كوندوليزا رايس أول مَنْ إٍستخدم تعبير “الشرق الأوسط الكبير”. وكان ذلك عقب صدور أول مخطط مكتوب لتقسيم المنطقة وضعه الباحث الاميركي-البريطاني برنارد لويس بتكليف من وزراة الدفاع الاميركية ومستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر زبيغنيو بريجنسكي.
ونُقِل عن بريجنسكي قوله إن المطلوب إشعال حرب خليجية ثانية، تقوم على هامش حرب العراق-ايران، تستطيع الولايات المتحدة توظيفها لتصحيح حدود إتفاقية سايكس-بيكو، وتنفيذ خطة برنارد لويس القاضية بتقسيم 18 دولة عربية الى مجموعة دويلات صغيرة.

ومن بين الوثائق التي تحدثت عن هذا المشروع وثيقة نشرتها مجلة “القوات المسلحة” تحت عنوان: “حدود الدم” وضعها الجنرال المتقاعد رالف بيترز سنة 2006.
ومنذ ذلك الحين وحدود الدول العربية تُرسَم بدماء آلاف الضحايا الأبرياء، من أجل تمرير مشروع مريب يسمح لاسرائيل بأن تعيش وسط أربعين دولة معادية من دون أن توقع إتفاقية سلام!

السابق
هاشتاغ على ’تويتر’ ينعى انتحاري ’دي روي’!
التالي
حمدان: تنسيق ميداني بين ’حماس’ و’حزب الله’