«داعش» خطر وهمي؟

ثمة رأيان في الظاهرة “الداعشية”؛ الأول يقول بأن “داعش” مؤامرة أميركية إسرائيلية، غرضها، كما هو العادة، التخريب على المسيرة العراقية المظفرة التي يقودها نوري المالكي، وعودة الإحتلال الأميركي إلى العراق… إلى ما هناك من أوصاف باتت محفوظة، يتمسك أبناء “الممانعة” بالبوح بـ”أسرارها” كلما وقعت الملمّات. وهذه “قراءة” للحدث لا يحتاج نقضها إلى الكثير؛ من الطلب الملح للمالكي بتدخل أميركي سريع، إلى الإرتباك الأميركي نفسه، إلى الحملة الأميركية الداخلية التي يخوضها الجمهوريون وبعض الديموقراطيين الأميركيين لحث أوباما على التدخل بأقوى من مجرّد إرسال ثلاثمائة مستشار وخبير أميركي إلى أرض العراق… إلى ما لا ينتهي من الشواهد التي لا تحتاج إلى تمحيص، وكلها تضع هذه “القراءة” في خانة الخطابة البائتة؛ مع ان إلحاح الطرف العراقي “الممانع” على الأميركيين كي يحميه من همجية “داعش” يحيي سلوكاً كانت هذه “الممانعة” نفسها تأخذه على المعارضة السورية عندما كانت تتوسل تدخلاً أميركياً ضد قوات بشار الأسد، وتعتبر هذا التوسّل دليلاً على “عمالة” هذه المعارضة وتنفيذها لمخطّطات إمبريالية صهيونية. ليس معروفاً عدد الذين يصدقون فعلاً هذه القراءة، ولكن من الواضح إنها صارت تنتمي إلى عالم مضى…
ولكن هناك قراءة ثانية للحدث الداعشي، أخطر من الأولى، وصادرة عن بعض العقول المنتمية إلى المعسكر الآخر، المعادي للممانعة، تخفف من قوة “داعش”، تقلل من عدد المنتسبين إليه، تضخم من قوة “حلفائه”، العشائر والنقشبندية وبقايا البعث (كأنها “أرحم” منها)، وتكاد تقولها واضحة؛ بأن “داعش” لن تشكل خطراً علينا، طالما انها مجرّد “واجهة إعلامية”، سوف تنسحب إلى جحورها فور إنتهاء المعارك… وانه بالتالي لا لزوم لهذا الرعب أو “التضخيم” الخ.
هذه القراءة المطمئنة إلى “داعش”، تبعث على التساؤل: من أين لأصحابها الميامين كل هذه المعلومات الثمينة السرية التي لم تصل بعد إلى مسمعنا؟ من أين يستقون معلوماتهم؟ من “مصادرهم” المحلية أو الإقليمية؟ وطالما إنهم واثقون بها إلى درجة صياغتهم موقفهم السياسي على أساسها، أين هي معطيات “معلوماتهم” هذه؟ ثم هل يصدق عاقل عايَش المنطقة وزعماءها، المعارضين منهم والموالين، بأن طرفاً منهما سوف يقدم لطرف آخر “الحضور الإعلامي”، ويختفي هو خلف الكواليس، ليعمل بالسخرة على الأرض؟ من هي تلك الملائكة الضائعة التي يحدثنا عنها هؤلاء، وما هي مبرراتها؟ هل المقصود منها أن تخيفنا، كما كانوا يخيفون الصغار من البعبع الذي سيختفي عند طلوع النهار؟ فقط تخيفنا ثم تنسحب؟ خوف وهمي، طفولي، لا مبرّر له…؟
أكثر من ذلك: إذا ما دقق المرء في مكان قوة “داعش”، على امتداد العام الذي نشط فيه على الأراضي السورية والعراقية، فانه سوف يلاحظ بأنه تنظيم ثري، منضبط، ذو قدرة إنتحارية وقتالية عالية. ولكن القوة لا تقتصر على هذه العناصر المادية، “غير النبيلة”، إنما يتجاوزها الى الحاضنة الشعبية التي سمحت له بالعيش والإستمرار و”النوم”، كما استقبال انتصاراته على أساس إنها “إنتفاضة ثوار ضد الظالمين من الشيعة”… فيتحول أصحاب هذه القراءة للحدث الداعشي نظراء قراء آخرين، لم يختلفوا عنهم إلا بولاءاتهم؛ مثلهم مثل اليساريين والمحللين والقوميين والعلمانيين الذي يلتفون حول حزب إسلامي جهادي آخر هو “حزب الله”، ويشكلون الحلقة الأعرض من قاعدته الشعبية، التي تحميه من سهام “العملاء” رافضي سلاحه وتجاوزاته ودويلته، وخرقه الحدود الوطنية لصالح قيادته الإيرانية.
تنظيم “داعش” لا يستحق الإستخفاف. هو قبل كل شيء خطر على كل الأوطان، بحدودها المرْذولة الملعونة “الاستعمارية، المسخة”، خطر على الإنسان، على الأخلاق والثقافة والحضارة الإنسانية بأسرها. سليل القاعدة الطالبانية، الأكثر حنكة الآن، بعد الجيل الأول، الأكثر تنظيما وتعبئة و”حيثيات”. والتذرع بظلم الظالمين تارة لإعطاء الذرائع لهجميته، أو تسخيف قدراته تارة أخرى، أو الوعد الضمني بأنها إنما هي “هوجة” وسوف تزول… هو نوع من التعامي عن الوقائع على قاعدة الكيدية السياسية الضيقة إياها، الحاكمة لكل مجالنا السياسي المنهار.

السابق
إيران رداً على نتنياهو: من يتحدث عن تفكيك العراق لا يدرك التداعيات
التالي
زهرا رداً على عون: صمت دهراً ونطق كفراً