محمد بركات.. بصمةُ الاختلاف وعقليّةُ الوصاية

محمد بركات محاولات اغتيال علي
يكفي السارد أن يشير إلى بطله "علي" وتعيينه مناطقيّاً ومذهبيّا وارتباطه عاطفيّا بامرأة تختلف عنه مذهبيّا وعقائديّاً بالمعنى الآيديولوجي. كما يرسم اختلافَهُ المبكّر منذ طفولته ومراهقتِه مع مناخ العائلة، وأخلاقيّات المدرسة التي تستوجب الطاعة، وهو الحال نفسه مع المخيّمات الحزبيّة (لا يمكن أن تناقش "شيخاً" ماركسيّاً في ألوهيّة ديكتاتوريّة البروليتاريا). هؤلاء وأولئك هم الأضراس التي تحدّث عنها في كتابه الثاني "المدينة لا تتسّع لرجلٍ جديد" حين قال: (الآخرون/ اضراسُ حياتي/ أقتلعُهم/ واحداً/ واحداً/ وأضحكُ/ بفمٍ عار).

يُولَدُ الإنسان ومعه بصمتُهُ تحملُها رؤوسُ أصابعه لتقول إنّه كيانُ فريدٌ لا يشبهُ غيرَه، لكنّ هذه البديهة تظلّ في مكانِها الفسيولوجي لا تتعدّى وظيفتَها في التحقّق من الشخصيّة وأنّ فلاناً هو فلان وليس أحداً سواه. لم تنتقل هذه البديهة، أبداً، خارج وظيفتِها الأوليّة ولم تتفعّل في المجال الاجتماعي ولم يكن لها صدى في الحقل الثقافي.
أنتَ فريد في “البصمة” وحسب، وما عدا ذلك دعْ فرادتك والتحقْ بالكتلةِ الصمّاء والسِّرب الموحّد، وقُدْ خطواتِكَ إلى طابور التماثل والاستنساخ لتكونَ الصورة التي يرضى عنها الأهل في المنزل والشارع؛ ويقبلُ بها المعلمون في المدرسة؛ وتنالُ مديحَ الحزب إذا ما فكّرتَ في إطار سياسي يستجيبُ لهواجسك وانشغالاتك.
دعْ فرادتك وانسحبْ من أصواتِك الداخليّة، وادخلْ ـ بعنفٍ أو سلام ـ إلى خيمةِ الوصاية لتشرب وتتشرّب الاستسلامَ والإذعان. … هناك من يخلِصُ لمعنى بصمتِهِ ويجهرُ باختلافه. يعلنُ خروجَهُ على القالب الذي تريده العائلة أو المدرسة أو المذهب أو الحزب أو حتىّ الزوجة والأصدقاء. يصدع نافراً من التشابهِ المميت ومنجذباً إلى أفقٍ مفتوحٍ يتوسّع كلّما ضربَ جناج الحريّة ضربتَه على النحو الذي يعالجُهُ محمد بركات في كتابه “محاولات اغتيال علي ـ سيرة منزليّة” (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت ـ 2014).

وربّما أول خروج يتجسّد في هذه المعالجة أنّ الكتابَ يندُّ عن التصنيف الأجناسي الذي يطمئن إلى شكلٍ أدبي فيرفعُ قلق التلقي وينسجم مع أفق الانتظار لشكلً بعينِهِ يميّزُهُ ابتداءً فيُقرَأ تبعاً لأعراف قارّة لا تقبلُ بالتداخل. لأجل ذلك ينبّه الكاتب في مقدمتِهِ أو إشارتِهِ الافتتاحيّة إلى أنّ (هذا الكتاب ليس رواية، ولا هو نثراً، ولا مجموعةَ قصصٍ قصيرة، ولا سيرة ذاتية). ينفي الشكلَ الثابت ويستجيبُ لسيولة الكتابة وتنقّلها بين حقولٍ مختلفة كما يعكسُها فضاءُ الإعلام الجديد متنعّماً بحريّتِهِ التي لا تستكين إلى نوعٍ سابقٍ في الكتابة وتصدر عنه بصورة ثابتة ودائمة. هناك مساحةٌ فارّة من الجموع والأشكال والتكرار، وتمتلئُ باقتراحاتٍ شتّى من التعبير الكتابي تَسَعُ الحالة الإنسانية وفرديّتها وتمضي معها في أيّةِ صيغةٍ تختارُها.
يضعُ محمد بركات القيدَ جانباً، ويذهبُ إلى لحظته الاجتماعية والسياسية والدينية في لبنان، والمتفجّرة منذ 2005 باغتيال رفيق الحريري مروراً بأحداث 2008 إلى زلزلة الربيع العربي وتوابعه التي لم تهدأ. يرسي نواةً حكائيّة، أقرب إلى التأطير أو بذْر علاماتٍ استهدائيّة للقارئ توجّه إلى المكان والظرف والزمان والعلاقة، ويترك تلك النواة متقصّداً دون إرواءٍ لتنمو وتتفرّع في شبكة روائيّة معلومة تزخر بالحدثيّة والتصعيد الدرامي.

يكفي السارد أن يشير إلى بطله “علي” وتعيينه مناطقيّاً ومذهبيّا وارتباطه عاطفيّا بامرأة تختلف عنه مذهبيّا وعقائديّاً بالمعنى الآيديولوجي. كما يرسم اختلافَهُ المبكّر منذ طفولته ومراهقتِه مع مناخ العائلة، وأخلاقيّات المدرسة التي تستوجب الطاعة والانضباط والحرمان التام من النقاش وإبداء الرأي، وهو الحال نفسه مع المخيّمات الحزبيّة التي تربّي الفتيان على صورتِها السياسيّة وتنهال على رأسِهِم بمسلّماتها اليقينيّة غير القابلة للمراجعة (لا يمكن أن تناقش “شيخاً” ماركسيّاً في ألوهيّة ديكتاتوريّة البروليتاريا). هؤلاء وأولئك هم الأضراس التي تحدّث عنها في أحد نصوص كتابه الثاني “المدينة لا تتسّع لرجلٍ جديد” حين قال: (الآخرون/ اضراسُ حياتي/ أقتلعُهم/ واحداً/ واحداً/ وأضحكُ/ بفمٍ عار).

أحسبُ أن ما يهمّ الكاتبَ في هذه التجربة الحفرُ في عقليّة الوصاية بأذرعها الطويلة والكبيرة والنافذة إن على مستوى الأفراد؛ أو المجموع طائفةً ودولة، وما يترتّب على هذه العقليّة من تصحّر وجداني ومعرفي؛ تابعَهُ محمد بركات بحرارة وألم، وشجن أيضاً في أكثر من موضعٍ في الكتاب بخاصّةٍ فصل “الهجرة والتكفير”. وفيما هو يقومُ بالحفرِ فإنّه يصغي لـ “محاولات الاغتيال” أو الهدْر لشخصيّة علي إذْ تنهمرُ عليه شُهُبُ التخوين وتنقدح في حوضه صواعقُ العمالة، وفي الوقتِ نفسّه فإنّه يمتّن علاقته بذاته ويبرّر خروجه كما لو أنّه يكتشف هذه الأبعاد خلال لحظة الكتابة أو الإصغاء لشريط التحولات والانقلابات في المواقف والأحداث؛ شخصيّأ وسياسيّاً ومجتمعيّا (أحياناً نقول أشياء لم نقلْها لأنفسنا من قبل. في معظم الأحيان نكتشف ما نقوله ونكون مستمعين أكثر من قائلين. لهذا السبب يقاطع بعضنا بعضاً. نتحدّث فوق كلامِ الآخرين في الجدالات الحامية. أصلاً نحن نحكي قصصنا وأخبارنا لأنفسنا أوّلاً. المستمعون يأتون لاحقاً. وتلك كانت لحظته. أخذَ يستمع إلى نفسِه بذهول).

لقراءة المقال الأصلي إضغط هنا

السابق
عندما يقول نصر الله إننا في عصر الظهور
التالي
العاهل السعودي يندد بالارهاب ويتعهد بمحاربته