7 أيّار 2008: حين احتلّ مسدّس العوزي الإسرائيلي بيروت

7 أيار
هنا شهادتي، أنا زكريا جابر، حين كنت في الـ15 من عمري فقط. شهادتي عن محاولة بعض زعران "7 أيّار" أذيّتي وأذيّة والدي خلال أحداث ذاك الشهر من العام 2008. كيف دخلوا منزل والدتي بحثا عنّي لترهيب والدي. وكيف أطلقوا قذيفة على منزل والدي وأحرقوه. وكيف حاولت تصوير اللحظة بالكاميرا التي تعطّلت... لكنّني صوّرت كلّ شيء في رأسي.

لباس فاخر، حذاء نظيف، وذقن محلوقة. النظافة والترتيب تبدو على هؤلاء الثلاثة الذين مشوا تحت المبنى الذي كنت أسكنه مع أمي في منطقة الشياح على حدود ضاحية بيروت الجنوبية. لا يكتمل مشهد المافيا بلا سلاح نصف أوتوماتيكي باليد مخبأ تحت الجاكيت الرسمية السوداء. قليل من التاريخ عن العوزي، وهو سلاح من عائلة الرشاشات المفتوحة المقبض من الجنسية الإسرائيلية، والذي كان يسمى “الصغير” لكنّ مفعوله كبير، أي أنّ حجمه أكبر من المسدّس بقليل إلا أنّ رصاصته قادرة على تفجير أدمغة واختراق حائط حديد. وهذا الشبل الإسرائيلي يلتصق بيد الشبل من حركة أمل (أفواج المقاومة اللبنانية) التي تأسست على يد السيد موسى الصدر. والأخير عُرِف بعداوته للدولة الصهيونية ونهجه كمقاوم مؤيدٍ للعلمانية في الوقت ذاته، ولتلك الأسباب تم إخفائه، ثمة من يتعصب لنفسه ويكره كل شيء ها هو، أمامي، يعاكسه.
“ويلٌ إذا نفذ صبره وأعطى أمره”، صورة عملاقة للرئيس نبيه برّي علّقها شبّان حركة “أمل” في شارع أسعد الأسعد بالشيّاح في ضاحية بيروت الجنوبية…

وكان السابع من أيّار 2008، وكنت جالساً على الشرفة في المنزل ذاته في منطقة الشياح – شارع المصبغة بالتحديد، حيث ربيت مع والدي ووالدتي قبل طلاقهما. ثم بقيت مع أمي بعد الطلاق وكان جاري “أبو خشبة” هو المسؤول الأمني لنبيه بري (قائد حركة أمل، ورئيس مجلس النواب منذ أكثر من عشرين عاماً). وقد أعطى أمره، وبدأت أفهم ما كان يرويه لي والدي عن الحرب الأهلية اللبنانية.
بين الشياح وطريق الجديدة مسافة مقبرتين وحديقة، لكن في هذا اليوم المشؤوم أخطأنا بطريق الدفن بين الشارع والمقبرة. رصاصٌ، قذائف، جثث ونيران… ما أجمل الفيلم حين يكون حقيقياً. لم أكترث كثيراً على فكرة أن هذا الرأس الذي أراه الآن ينتمي للجسد الذي رأيته قبل 10 دقائق على بعد 200 متر. لم أكترث إن كان المسلح أمامي من طائفتي أو من ديانةٍ أخرى، فتخليت عن المبادئ التي أُجبِرتُ على حملها في هويتي حين تعلمت قراءة الأحرف بمعانيها وأبعادها وليس أشكالها فحسب.
الرابعة من بعد ظهر التاسع من أيّار كنت في منطقة برج أبي حيدر ببيروت. وكان حزب الله قد بدأ بحملة طعنه رقاب العاصمة: سقطت قذيفة على منزل والدي، وبدأت الصحف المكدّسة والكتب تحترق. لم أكن هناك لكن بعد حين علمت أن أبي قد نجا وهو يختبئ في مكتبه منذ ذلك الحين في جريدة المستقبل في منطقة الرملة البيضاء.

بعد ثلاث ساعات كانت قذائف الـRpg، تقع على مبنى الجريدة، ويصرخ كل من في داخلها مناشدا الجيش اللبناني التدخّل، هو الذي لا يبعد مركز له عن مبنى الجريدة أكثر من عشرين متراً. ولم يتحرّك أحد منهم لأنّ لا أمر من قيادته، على الأرجح، بالدفاع إلا عن المجرمين الذين يحكمون الـ 10452 كلم  مربع، وليس عن المواطنين والصحافيين.
انقطع الإتصال بيني وبين أبي، ابتسمت وأكملت عشائي فهو قد قال لي في تلك الليلة إنّه بخير وإنّه ينتظرني أن أكمل كتابة فيلمي القصير الأوّل.
هم أنفسهم من كانوا يتسكّعون في الحيّ السكني في الشياح، يصعدون على الأدراج ببطء. أمي فتحت الباب وقالت لي: “طلاع عالسطح عند الجيران والعب مع رفقاتك”. فحملت كاميرتي والحقيبة التي جهزتها وفيها ثياب والقليل من الماء والطعام الجاهز، وذهبت عند الجيران.
في الطبقة الرابعة من مبنى “بكري” لم يسلم خشب الباب من الأيدي السامة: “فتحوا الباب، أحسن ما نفتحه بالقوّة”. وكانت تلك هي الجملة الأنسب لتهويل سكان الشقة. فتحت أمي الباب وصرخت: “شو في؟”، أجابها المسلّح: “وينو جوزك؟ مش هون؟ وينو إبنك؟”. وهذا كل ما سمعته قبل أن أهرب من المبنى متجهاً إلى بيت صديقي في الحيّ وبعد ذلك، وبعد الرصاصة الألف، والـ CD العاشر، خرجت إلى الشارع بسبب الضجر.
كاميرتي على كتفي، حقيبتي على ظهري، مجهزاً بالأفلام والبطاريات، متجهاً إلى مستديرة شاتيلا حيث القنص من الطريق الجديدة إلى الشياح والعكس بالعكس. وبالطبع كنت خائفاً أن تنكسر الكاميرا أو أن تُصاب بطلق طائش. ركضت نحو مدخل حرج بيروت واختبأت بين الأشجار وبدأت ألتقط الصور للمسلحين والجيش المختبئ في الملالات العسكرية، وكانت رائحة البخور تفح من مسجد الخاشقجي وتختلط برائحة الرصاص والأسلحة الفتاكة وتكوّن غيمة من ثاني أوكسيد الكاربون المبخر، وما زلت خلف الأشجار.
عدت إلى المنزل، بلا اعتقال، بلا إصابة، ودون أن أكون موقوفا أو رهينة،.. وحين رأتني أمي صرخت بوجهي: “وين كنت؟ بكفي بيّك خربلنا بيتنا من ورا مواقفه السياسية، إنت بدّك تجبلي الجلطة؟”.

لم أجِبها لكنّني هربت إلى شارع الحمرا “المحتلّ” في اليوم الثاني لأظهّر الصوّر فاكتشف أنّ الأفلام التي استعملتها قد اهترأت.
لا صور لي، وعاصمتي محتلّة، وثمة من يريد أن يؤذيني ويؤذي كل من يحيطني. وبيروت حزينة بالفعل، لا تبتسم… حتّى الآن.

النصّ الأصلي على الرابط التالي: http://www.assaultonawallclock.com/

السابق
14 آذار: شهدنا نسفا للنصاب ممن يفترض أن يكونوا مسؤولين عن كل لبنان
التالي
اشتباكات في المصيدة عرسال على خلفية خطف مواطنين وابتزاز مالي