سيرة حزبية: حملة التبرع للفلسطينيين في الروشة

يجلس الرفيق عارف على مقعده في السرفيس؛ بقي راكبان ليكتمل العدد، فننطلق إلى الروشة. أخيراً، صار لنا صفة نضالية رسمية، يقول عارف: نحمل صندوقاً، والتزاماً، وقبعتك يا سهى، كم هي مهيبة! هل تذكرين عندما التقينا لأول مرة في النادي بعد تظاهرة ساحة البرج؟ يسألني. طبعاً، طبعاً أتذكر، منذ شهرين، وشيء ما في التظاهرة دفعنا الى هذا النادي. ربما الرفيق نهاد هو الذي جرنا إلى هنا، ثم اختفى بعد ذلك، هل تذكره؟ ثم جاء الرفيق سعيد… وتعرف البقية. يشرد عارف قليلاً، يبتهج ويقول بفرحة الأطفال اننا سنضرب «رقما قياسياً»… سنجمع أكثر من خمسين ليرة! حماستي كبيرة هي أيضا. نوع من الانشراح يحلّ علينا. تنطلق السيارة بعد امتلائها بالركاب، فيلعب الهواء بنا، يطيرنا في سماوات بعيدة… لا حدود لمستقبلنا. نحن مناضلان مستعدان لبذل أرواحنا من أجل فلسطين. وحملة التبرع هذه هي أول الطريق نحو قدرنا النضالي… وخمسون ليرة ليست كثيرة على هكذا قدر.

فالمنظمة التي دخلنا أولى «هيئاتها» تربط بين النضال من أجل فلسطين، وإقامة الحكم الشيوعي، «السوفيتات»، تلك المجالس الشعبية التي اخترعها البلاشفة حين استولوا على الحكم في روسيا. والبلاشفة أولئك هم مثالنا الأعلى، أعداء المناشفة، التسوويين التحريفيين، المتساقطين من قطار الثورة… قطار لا يبالي بهؤلاء المتخاذلين. نحن بلاشفة، متطرفون، نقاتل حتى النفس الأخير، ونعتزّ بذلك. ومنظمتنا، ليكون كلامها صادقاً، مرتبطة بواحدة من المنظمات الفلسطينية الجذرية مثلها، الماركسية اللينينية مثلها، هي الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين. في وقت لاحق، عندما «تنضج» تجربتي في «حلقات» أخرى، سوف تتاح لي فرص كثيرة للتعرف على الأوجه العملية الأخرى لنظرية عضوية علاقتنا بالقضية الفلسطينية.

رائحة البحر تقترب، دقائق ونصل الى الروشة. ننزل بالقرب من مقهى «الدولتشي فيتا»، كنت لمحته أثناء التنزّه بالسيارة مع أخي الكبير. وقد بدى لي رواده غرباء، أو أجانب. تعالي نبدأ بالمقهى، يقترح عارف. ولكن… ماذا؟ لكن ماذا؟ هل يعقل؟ كل هؤلاء الرجال والنساء الأنيقين المتفرنجين، يمكن أن يتبرعوا؟ انظر الى ذاك الأشقر الذي يدخن السيجارة تلو السيجارة؟ ماذا يعرف عن فلسطين؟ سوف نتكلم معه بالفرنسية، وسوف ترين، يقول عارف، وإن تظاهر بالجهل، نلخص له القضية بكلمتين. «إمتحان» الرجل الأشقر بالذات لم يكن صعباً. أجابنا بفرنسية مكسرة وبلهجة إيطالية انه هنا دعما للفدائيين الفلسطينيين، انه من مجموعة «المانيفستو» التي انشقت عن الحزب الشيوعي الإيطالي منذ أشهر، بعد اجتياح الإتحاد السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا… وانه حضر إلى لبنان كصحافي يساري للتضامن مع الفدائيين، بعدما تعرض مطار بيروت لهجوم اسرائيلي غاشم، أحرق كل الطائرات التي كانت رابضة على مدارجه… هذا الرجل مستعد أن يخبرنا قصة حياته، علينا أن نهرب منه بلطف، بعدما تبرع لنا بثلاث ليرات.

ومقهى «الدولتشي فيتا» لا يخيبنا، بقية الزبائن، بين متفاجئ ومتعاطف، والقليل القليل غير مبالٍ. نجمع من رواده سبعة عشر ليرة. الآن يتجه نظرنا الى مطعم نصر، شبه الخالي، فنلمح المتنزهين على الرصيف العريض المطلّ على صخرة الروشة. نقرر أن نمشي بصندوقنا من أول شارع الروشة من جهة البحر وحتى أول منعطف نزولا، من ناحية مطعم ماري لاند، الذي يبدو لنا انه شبه خالي هو أيضاً. المتنزهون لا يبخلون بدورهم. لا ينتظرون شرحاً، ولا يصبرون حتى نكمل كلمتنا المعهودة «ممكن تتبرع للفدائيين الفلسطينيين؟» ليمدونا بما تيسر… ربع ليرة، نصف ليرة، أحيانا ليرة بأكملها!

والآن، الآن، من أين نجمع لنصل إلى الخمسين ليرة؟ سكان هذه العمارات يا سهى… سوف نمشطها عمارة عمارة. هيا إذن إلى كل شقة بشقتها: نرن الجرس. ماذا؟ تبرع من أجل الفدائيين الفلسطينيين… قليلون لا يفتحون الباب، نسمع صوت أقدامهم من الداخل، وكتمهم لأنفاسهم… سيدة سألتنا من خلف الباب عما نريد، ولا أكاد أردّ عليها، كما تفاهمنا عارف وأنا، أن أردّ أنا على النساء، ويرد هو على الرجال، لا أكاد أردّ حتى تعود فتسأل «شو…؟»، أكرر ثانية، ببطء، حتى أكون واضحة، فتفتح الباب عريضاً بعصبية وتصرخ بوجهنا بأننا أيقظناها من نومها من أجل فلسطين؟! هل يوجد قلة ذوق؟! يرتفع صوتها ونحن ننكمش… نريد أن نهرب من العمارة كلها. ننزل الأدراج بسرعة لنجد أنفسنا في الشارع ننظر إلى العمارة الكبيرة القريبة (…).

بعضهم يفتح الباب ويفتح معه نقاشا ينقذنا منه تهذيب عارف، ولكن في المحصلة الأخيرة يتبرع بليرة. أما غالبيتهم فتبتسم أو تقطب جبينها قليلا، وتهبنا المبلغ المرقوم كأنها تمدنا بورقة إيصال شركة الكهرباء. نضحك بصورة متقطعة، ونحن نصعد إلى العمارة الواحدة أو ننزل منها؛ على ذاك الشاب الذي يلفّ نفسه بشرْشف أبيض، والعرق يتصبّب منه، والغيظ يكاد ينفجر منه، يفتح لنا بابه غير مصدق بأننا كسرنا عليه خلوته، يتلعثم في الكلام، ماذا؟ تبرع للفدائيين؟ يتنفس الصعداء، يغلق الباب ليعود بعد ثوان محملاً ليرة بأكملها! أو تلك العجوز التي تفتح لنا بابها من دون أن تتوقف عن نهر شخص آخر داخل الشقة، يبدو انه زوجها… لا تسمع جيدا فوق ذلك: ماذا؟ ماذا؟ للمرة الثالثة، فنرفع صوتنا عالياً، «الفدائيين الفلسطينيين!». مالها ومال الفلسطينيين الآن؟ أنظري إلى حالي، بعد كل هذا العمر، يقول عني بلهاء، حمارة! من يا سيدتي؟ هو… خليل، انظروا إليه، تعالوا! ادخلوا! هل يحق له…؟! وأنا اخدمه طول عمري… وأنا… وأنا… مرة أخرى، ننسحب بابتسامات عريضة متألمة، بفضل لباقة عارف.

نضحك كثيراً، حتى نكاد أن ننسى لماذا نحن هنا، حاملين صناديق خشبية، وأنا واضعة تلك القبعة الثورية فوق رأسي، وعارف، صاحب الطول الفارع والشعر الأحمر، ينقذنا بجدية من أوضاع حرجة…! نضحك على جديتنا، على القبعة، على التهذيب… يجب أن نتوقف عن الضحك. وإلا أضعنا على أنفسنا إلتزامنا، وضرورة قيامنا بمهمتنا الثورية على أكمل وجه. والضحك يضيع علينا واجبنا… ما يدخلنا في دورة ضحك ألذّ من سابقتها. انه الضحك الممنوع، مثل العاصفة التي ترتاح بالإنجرار إلى أهوالها.

نشعر فجأة بالجوع. نريد أن نأكل شيئاً، أي شيء. ولكن قبل ذلك علينا ان نعدّ ما جمعناه في هذه الحملة، ونقدر بأننا تجاوزنا الرقم الذي وضعناه على أنفسنا. علينا العودة إلى رأس النبع، وفي النادي، نجلس ونأكل سندويشات فلافل. ما رأيك، يقترح عارف؟ حسنا. في النادي، نجلس على الطاولة المخصصة لنا، ونحسب: تجاوزنا الخمسين ليرة بسبع ليرة! نحن الإثنين فخورون بذلك.

نهارنا ينتهي، حان وقت العودة إلى بيوتنا، ولكنني أتلكع… أريد المزيد من الهواء الطلق. والدرس يا سهى؟ ماذا تفعلين بالدرس؟ الم تخترعي حجة الدرس مع أمال لكي تقومي بمهمتك؟ ماذا تقولين لأهلك عندما تعودين متأخرة، محملة بالدفاتر في هذه الحقيبة التي تهلك الجبال؟ تقولين لهم انك سوف تنكبين الآن على الدرس؟ أم ماذا والامتحانات على الأبواب؟ لا تشغل بالك يا عارف، سوف أتدبّر أمري، الآن بعد الفلافل هذه، نحتاج إلى سيجارة وقهوة. هيا نشتري علبة جيتان ونتجه نحو مقهى الجندول.

نأخذ الطريق الفوقي من الكورنيش كي لا أمرّ بالقرب من منزلنا، فيراني أهلي أو الجيران. وهناك، في الجندول، نأخذ نفسا عميقا نحن الاثنين، ونشرب قهوة الإكسبرس. ما الذي أخذكَ إلى المنظمة يا عارف؟ أريد أن اعرف… هكذا… هل تذكرين ذاك الرفيق في تظاهرة الشهر الماضي، الذي كان واقفاً بالقرب من سامية، ويلبس شالا أحمر؟ ربما أتذكره، ماذا به؟ هذا هو الرفيق أندريه، هو أكبر مني، كان في صف «الترمينال« (ثانوي قسم ثاني) العام الماضي. حسناً، اسمه اندريه، وقد تعرفت عليه في الملعب، بعد شجار بينني وبين أحد التلامذة في صفي، الذي كان يقول بأن الفلسطينيين مسلمون وان المسلمين وحدهم يجب أن يقفوا معهم، بعد إتفاق القاهرة. تدخّل الرفيق اندريه في هذه الخناقة، وقال أشياء أعجبتني، وصرنا نلتقي أثناء الفرصة بانتظام، حتى اقترح عليّ بعد ذلك بخمسة أشهر أو ستة، أن اجتمع في إحدى حلقات المنظمة. أثناء الأشهر الخمسة هذه، كنت الحّ عليه ان يستعجل إدخالي الى المنظمة. وكان كل الوقت يجيبني بأنني ما زلت برتبة «إتصال»، أي انه يمتحن التزامي ويثقفني… تعرفين الباقي، فأنتِ أيضا كنتِ «إتصال»، وبعدها صرتِ «حلقة». والآن نحن في الحلقة، أحد بنود إجتماعاتنا هي كم من «الاتصال» تمكنا أن نجمع خلال الأسبوع المنصرم (…).

السابق
عن الطائفة العلوية في سوريا
التالي
ايران تمنع ’واتس أب’ لاسباب ’اخلاقية’ و’صهيونية’