بيونسيه.. ملكة الاستعراض الوحيدة

الإحصاء من أبرز الإجراءات الديموقراطية، يقاس من خلالها الصواب والخطأ، والقدرة على التأثير والتغيير. لم يعد الويب عالماً افتراضياً، بل غيمةً نحيا فيها جميعاً، ونتغذى على بخارها. وفي هذا العالم، تجري الانتخابات كلّ ثانية، مع إحصاء أعداد المتابعين و«اللايك» و«الريتويت» على الشبكات الاجتماعية. لكنّ الانتخابات هنا، لا تتعلق بتحديد الشرعية السياسية، بل بقدرة مَن يحظى بالعدد الأكبر من النقرات، على التأثير في الخطاب العام، وفي شكل ولون تلك الغيمة التي نسبح فيها.

أصحاب المراكز الانتخابية الأولى على الشبكات الاجتماعية ليسوا سياسيين أو قادة عسكريين، بل نجوم ترفيه، ورموز ثقافة «البوب». يفرض الإنترنت على أولئك النجوم أداء أدوار تتجاوز كونهم فنانين أو منتجي موسيقى فقط. هم أسياد لعبة الاستعراض وحجر الأساس فيها، وبفضل الشبكات الاجتماعية، صار عليهم مشاركة حياتهم الشخصية معنا، وصناعة خطٍّ زمنيّ لها («تايملاين»). كلّ تغريدة لجاي زي، هي خبر. وكل صورة جديدة ترفعها بيونسيه على «انستغرام»، يتمّ التعاطي معها كمشروع فنّي، أو كجزء من مشروع اجتماعي سياسي يهدف لتغيير العالم، أو البحث عن الجمال، أو دعم قضايا المرأة.
منذ عشرين عاماً لم يكن أحدهم ليطالب مايكل جاكسون بالإفصاح عن آرائه السياسية. لكن الآن، صار في يد كلّ نجم بوب هاتف ذكيّ، وحساب «تويتر»، وبات مطالباً بأن يكون جزءاً من ذلك الفيض الذي يصوغ شكل التسلية في العصر الحديث.. من الملابس إلى الموسيقى والرقص والتعبير الجسدي. على نجم البوب اليوم أن يعلّق ويشارك ويتفاعل، والأهم أن يمتلك القدرة على صناعة الحدث، وعلى قيادة التأثير على الشبكات الاجتماعية.
خلال العقود الأخيرة، حمل البوب ثقافة أشبه بمزيج من قيم ما بعد الحداثة، وخطابات التنمية البشرية. الأمثلة على ذلك كثيرة، من ليدي غاغا واحتفائها بالجسد واستعماله واستهلاكه بكافة الأشكال المتاحة، وحتى اختزاله على شكل لحم حيّ كما في أحد فساتينها، إلى فاريل ويليامز، وعمله على تمثيل السعادة على طريقة كتيّبات التنمية البشرية، كما في أغنية Happy. بين الجسد الذي استنفد كل أغراضه لدرجة صار تعرّي نجمات الموسيقى خبراً عادياً لا يلفت الأنظار، وبين تدريبات السعادة، حيث يكون التصفيق في غرفة خالية، كفيلاً بجعلك سعيداً/ سعيدة، كما تقول أغنية فاريل، تقف بيونسيه ملكة متوجة على ثقافة البوب في هذه اللحظة، من دون أن تسلك أيّ طريق من الطريقين. لذلك ربما جاء اختيار مجلة «التايم» لها لتتصدر غلاف عددها الأخير، كأبرز شخصيّة بين المئة الأكثر تأثيراً في يومنا الحالي، بحسب لائحة أصدرتها المجلّة الأميركيّة العريقة.

بوني وكلايد

ولدت بيونسيه نولز في 4 كانون الأول/ ديسمبر 1981 في هيوستين، أكبر مدن ولاية تكساس في الجنوب الأميركي. لا تختلف نشأتها كثيراً عن غالبيّة رموز البوب الآخرين، وإن كان مقدار التراجيديا فيها أقل. بدأت نولز بتقديم العروض الغنائيّة طفلةً، وصارت الآلة الإنتاجيّة لوالديها اللذين دعما مسارها الفني وأدارا أعمالها. ومع نهاية التسعينيات، كانت بيونسيه النجمة الرئيسية في فرقة «دستنيز تشايلد». وسط ذلك الثلاثي الغنائي النسائي، سارت الأمور كما هو متوقع من فريق غنائي في نهاية التسعينيات: أغانٍ عن الحب والشوق وفرحة المراهقين بجمال أجسادهم. لكنّ السنوات مرَّت سريعاً. وأعمار فرق المراهقين الغنائية في الغالب قصيرة، تنتهي مع عبور أعضاء الفريق مرحلة الشباب.
لكنّ الأمور ستنقلب في العام 2002، مع إطلاق المنتج والرابر الأميركي الشهير جاي زي ألبومه The Blueprint: The Gift & the Curse، إذ يضمّنه أغنية «بوني وكلايد»، أوّل تعاون بينه وبين بيونسيه. ومع هذه الأغنية، ستغادر بيونسيه فريق «دستنيز تشايلد» إلى قلب مجتمع الاستعراض الحقيقي، إن جاز لنا استعارة تعبير جي ديبور، في هذا السياق.
يستلهم جاي زي في الأغنية شخصيتي بوني وكلايد، وهما زوجان أميركيان، هاربان من وجه العدالة، عاشا في فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات، وارتكبا عدداً متنوعاً من جرائم القتل والسرقة. يشرح جاي زي في الأغنية المشتركة مع بيونسيه، كلّ خطته لما سوف يأتي. سوف يتخذ من «بي» صديقة، وسيغزو السوق، ويفرض شروطه. لا يسعى جاي زي للتمرد على أيّ منظومة، ولا يرشح نفسه لأي دور. يقول ببساطة، إذا كانت هذه مدينة الخطايا فمكاني ملكٌ عليها. يحتل جاي زي مكانته تلك بثروة تتجاوز النصف مليار دولار، بحسب تقرير مجلة «فوربس» 2012، إلى استثمارات ضخمة تشمل شركات إنتاج موسيقي، وخطوط موضة، ووكالات رياضية… يُضاف إلى ذلك 17 جائزة «غرامي»، ومبيعات تتجاوز 75 مليون نسخة لألبوماته. شكّل جاي زي خلال العقد الأخير، موجة/ تيّار موسيقي، قوامه فنانون دعمهم وعمل معهم، من بينهم ريهانا، إلى جانب موسيقيين وفنانين من تيارات وأنواع موسيقية أخرى، مثلوا ما يشبه عصابة جاي زي. في مقابلة تلفزيونية تعليقاً على غنائه مع بول مكارتني من البيتلز، يشرح جاي زي رؤيته لحاضر ومستقبل النوع الذي يقدّمه، قائلاً إنّ الهيب هوب يمتلك روابط قديمة مع «الفن»، أو بحسب تعبيره «الغاليري»، تعود إلى وقت كان فيه نوعاً موسيقياً ينتمي إلى العالم السفلي (الأندرغراوند). ورغم أنّ الهيب هوب يمتلك اليوم نفوذاً كبيراً في السوق وعلى ساحة الحفلات والرقص، إلا أنّ جاي زي واثقٌ من قدرته على إعادته إلى صدارة الغاليري.

سكارى الحبّ

في هذه الصورة، ستحضر حبيبته بيونسيه ملكةً بصحبة ملك، بدءاً من ارتباطهما الذي سيتم توثيقه في أغنية مشتركة أخرى هي Crazy in Love العام 2003. وبينما أصرّ الثنائي على إبعاد حياتهما الخاصّة عن الأضواء، إلا أنّهما سيستغلانها لاحقاً في أعمال مشتركة عدّة آخرها Drunk in Love. بعد أقلّ من عامين على إنجابها لابنتهما الأولى، تظهر بيونسيه في بداية الشريط المصوّر بالأبيض والأسود للأغنية، كأنّها تخرج من البحر، وهي تحمل كأساً رياضيةً ضخمة، تتعثر بها على الرمال. ومع دخول الموسيقى إلى المشهد، يتواصل الشريط ومحوره جسد النجمة المنحوت، إذ يبدو جهد التمرين واضحاً على كلّ عضلة من عضلاتها. تطلّ بصورة مناقضة تماماً لكلّ صور الأمومة والحياة الأسرية. يشاركها جاي زي في الأغنية، ويرافقها في السير على الشاطئ، لتبدو الأغنية كأنها مونولوج سرديّ لحياة زوجين غارقة في كعكة الحب. وبينما يغني مغنّو الراب والهيب هوب الآخرون عن العصابات والفتيات والرقص حتّى الصباح، فإنّ جاي زي يغنّي للمملكة «بي»، ويقول إنّ «صدرها هو إفطاره».
في عدد «تايم» الذي تتصدّر بيونسيه غلافه، تكتب مديرة العمليّات في «فيسبوك» تشيرلي ساندبرغ مقالاً عن نجمة البوب الأكثر تأثيراً في العالم. تصفها بأنّها أيقونة للنسويّة الحديثة، وبأنّها تغيّر شكل صناعة الموسيقى وتدفع بأغنية المرأة للاستقلال، وتصدّر القيادة. حديث ساندبرغ تؤكده تبرّعات بيونسيه وزوجها السخيّة لمختلف القضايا الاجتماعيّة، وعملهما بجهد في دعم أوباما سياسياً وجماهيرياً. فالمسألة السياسية جزء من الصورة المكمّلة الأساسية لصناعة البوب، ما دامت مصالح الصناعة لا تتعارض مع الموقف السياسي. الدلالة على ذلك، ما كشفته وثائق ويكليكس عن إحياء بيونسيه حفلةً خاصة لمعتصم القذافي، وبعدما تفجرت الثورة الليبية أعلنت بيونسيه على طريقة تبرئة الضمير، أنَّها تبرَّعت بأجرها لمصلحة إحدى المنظمات الخيرية. لا ضغينة، المسألة ليست شخصية وبيونسيه لا تملك موقفاً سلبياً تجاه نضالات الشعب الليبي. ذلك عمل فقط.
في مجتمع الاستعراض هناك فئة من المستعرضين، يشكّلون النسخ الأصليّة والتي تتمّ على أساسها كلّ عمليات الطبع والتوزيع، في بقية الأسواق العاملة. وفي هذه المهنة، تستحق بيونسيه التقدير على الإخلاص لدورها أولاً وأخيراً كملهمة للاستعراض، ونموذج مثالي لكتيّبات التنمية البشرية النسوية، وكمصدر بهجة لملايين المتابعين في جميع أنحاء العالم… وذلك كافٍ لجعل «تايم» تضعها في مقدّمة من صنّفتهم بـ«الجبابرة»، ضمن لائحتها للمئة الأكثر تأثيراً في حياتنا حول العالم.

السابق
هادي حبيش: اذا تعذر ايصال جعجع سنختار شخصية أخرى من 14 اذار
التالي
كيري:اسرائيل قد تصبح دولة فصل عنصري اذا لم تتوصل الى السلام