حانات بغداد الراحلة مع سكرات الشباب والكحول والشعر

حانات بغداد

في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، كانت بغداد زاخرة بالحانات والنوادي الخاصة بفئات الموظفين، لكنها تستقبل الناس من جميع الفئات. دجلة كان ضابط الإيقاع الأكبر في تلك الحانات، إلى جانب الشعر والفن وكؤوس البيرة والعرق. لكن الرحلة التذكارية في حانات بغداد اليوم، تشبه وقفات على الأطلال.

في زيارتي الأخيرة لبغداد عام 2004، بعد سقوط النظام السابق وغياب عنها امتدّ لثمانية وعشرين عاماً، أجريت مع الشاعر سعد صاحب إحصاءً لحانات بغداد السبعينات، فكانت الحصيلة أكثر من خمسين حانة، عدا النوادي الخاصة بالمسيحيين. لكن هذه كانت تستقبل الجميع من دون استثناء، كنوادي الموظفين والعمال. على ذكر العمال، كانت حانة نقاباتهم من أجمل الحانات، لامتداد مساحتها وكثرة الظلال الشجرية والمساحات المزروعة بالأعشاب وشتائل الورد، تنيرها ليلاً المصابيح الصغيرة الملونة التي يسمّيها العراقيون “النشرة”، وتُستخدم عادةً في الأعياد والاحتفالات الخاصة والعامة.

حانات خاصة وللجميع
قرب حانة نقابات العمال كانت حانة “سرجون” الشهيرة. أما “نادي المهندسين” فكان قريباً من ساحة الأندلس عند مدخل شارع 52. هناك أيضاً “نادي جمعية التشكيليين العراقيين” بالقرب من “معرض بغداد الدولي”، ونادي “العدلية” الخاص بالمحامين والقضاة وموظفي وزارة العدل، و”نادي الجباة” في باب المعظم، وهو مخصص للجباة والسائقين والعاملين في الشركة العامة للنقل العام، ويحق للجميع ارتياده، كغيره من النوادي المذكورة، إضافةً إلى “نادي العلوية” في العلوية، ونادي “المسبح” في منطقة المسبح و”نادي الدورة” لموظفي وزارة النفط. كل وظيفة كان لها ناديها الذي يقدم الشراب والطعام والمقبلات، ناهيك بالحانات الصغيرة المنتشرة في الباب الشرقي، وهي رثّة تضم شتى الأصناف من البشر المتكسبين والعاطلين والمياومين والمتقاعدين وباعة الملابس المستعملة والباعة الجوالين والجنود المجازين ورجال الأمن وباعة اليانصيب والقرويين العابرين. بعض الحانات كانت في أزقة صغيرة من الكرادة والباب الشرقي، وطريق بغداد الجديدة، في مناطق الأمين والبلديات وكمب الأرمن والأشوريين وباب المعظم والوزيرية.

الحانات الحديثة
الحانات ذات الطراز الحديث تتميز بديكورها الجديد وإضاءتها الرومنطيقية. وهي لا تقدم غير الجعة العراقية والأجنبية. وكان جميع روادها يُقْدِمون بلهفة على الجعة العراقية ذات المواصفات الممتازة، بالنوعية المتوافقة مع شروط عالمية راقية، كجعة “فريدة” و”لاكر الذهبي” و”شهرزاد” و”أمستل”.
كانت تلك الحانات تتناثر على ضفة دجلة في شارعي ابي نواس والسعدون، وبعضها الآخر في منطقة الكرخ، الجهة الثانية من بغداد. لكن الذهاب اليها كان قليلاً، بسبب من حركة الحياة الدائبة في منطقة الرصافة، وأقصد حياة الليل والبحث عن المتعة وتزجية الوقت. هذه كلها كانت مزدهرة في شوارع السعدون والخيام والنضال وأبي نواس.
كان معظم أبناء جيلي من الشعراء والكتاب والفنانين يتعاطى الشراب. لم أر شاعراً أو رساماً أو ممثلاً أو موسيقياً أو كاتب أغنية أو صحافياً أو قاصاً وروائياً أو كاتباً ومترجماً من هذا الجيل، لم يكن ينجذب إلى الشرب، إلا في حالات نادرة واستثنائية. أما الكثرة فكانت تفرط في الشراب، في الظهيرة والليل. كان أغلبنا يلوذ بالزقّ في ظهيرات بغداد القائظة. فبعد تمضية ساعات في المقهى، وعندما كنا نخرج من الجامعات أو الوظائف بعد الدوام الرسمي الذي ينتهي في الثانية، كنا نلجأ إلى الكأس الباردة الشفافة، بعد الكثير من الشاي الذي شربناه، والتبغ الذي دخّناه، وبعد الثرثرة النهارية المتواصلة.

طراوة الكأس
كانت الكأس تطرّي برقتها جلسات اللهب الساخن في حزيران وتموز وآب وأيلول. في الحانة كنا ننغمس في غابة من الفيء والظلال والمبرّدات التي تدفع الهواء اللطيف نحونا. ثمة صديق نديم الى جانبك تتعاطى معه الأنخاب والأبيات الشعرية. جلّ هذه الحانات الناعمة كانت تقع في شارع الرشيد أو في نهايات شارع النهر، كحانة “جبهة النهر” و”شريف وحداد” و”سولاف” و”ألف ليلة وليلة”. لي في هذه الحانة الأخيرة صورة تجمعني مع أصدقاء تلك الايام ونحن في العشرين من العمر. لي أيضاً صور في حانات لم تكن تحمل أسماء، حانات ناعسة، ملتمة على نفسها، بغرف كبيرة وباحات وشرفات. هذه الحانات معظمها كان يقع على نهر دجلة، وادركتُ في ما بعد أنها كانت بيوتات بغدادية جميلة ليهود العراق، وبعدها أصبحت من أملاك الدولة العراقية، تابعة لدائرة الأملاك المجمّدة، أو الموقوفة.
حانة “شريف وحدّاد” كانت من الحانات الجميلة بواجهتها الزجاجية المفتوحة على نهاية شارع البنوك من جهة، ومن جهة أخرى على جسر الأحرار والشارع النازل في اتجاه ساحة الأمين. كانت تلك الحانة من طبقتين، تقدم الطعام والشراب، وكانت مزدحمة دائماً، كونها تقع في مرمى النظر. لذا كانت تعج بالرواد القادمين من شتى الإتجاهات، شعراء وفنانين آتين من باب المعظم، وملحّنين وكتّاب أغنية وشعراء شعبيين، وبعض المغنّين الهواة ممن يعمل في كورس الإذاعة و”فرقة الإنشاد” العراقية. هناك أيضاً من ينتظر أن تواتيه الفرصة ليصبح نجماً تلفزيونياً وإذاعياً أو مطرباً صاحب شهرة.
كنا نأوي الى “شريف وحداد” الصاخبة، والضاجة بالأصوات والنقاشات والقراءات الشعرية وكلام السكارى من تجار صغار يميلون ليحتسوا بضعة أقداح من العرق الأبيض أو الأسود. هما صنفان من العرق (المستكي والزحلاوي) وكلاهما من نتاج محلي، لشركات عراقية عريقة، تحضّره من التمور العراقية، في مصانع أنشئت منذ مطلع القرن الفائت.

الحصيري النجفي شاعراً بوهميا
حين كنا نميل الى هذا المكان، كنا نختار الطبقة الثانية، لكي لا يدهمنا أحد الأصدقاء الثقلاء من السكارى، ويتطفّل على مائدتنا ويترك شرخاً في الجو الذي هيّأناه لقراءة ما كتبه أحدنا. من كان يتردّد على هذا المكان بكثرة، هو الشاعر النجفي المُجيد عبد الأمير الحصيري الذي كان يحمل قصائده في كيس ورقي تحت إبطه، فيقرأها مقابل اقداح من العرق. كان الحصيري شاعراً بوهيمياً من الطراز الأول، يجد ما يشتهي ويريد. مرّات كان يقبل على الشجار لشدة سكره، لكنه كان من وجه آخر محبوباً من الجميع وصاحب ثقافة شعرية لا تخفى على لبيب، ممن كانوا يُطربون للشعر المسبوك بإتقان، عدا قلة من الذين لا يفهمونه، وهم على كل حال كانوا من الرواد العاديين والمستطرفين.
كان الحصيري، كريماً، ذكياً، ورعاً، وحافظة للشعر الكلاسيكي، ولا يتوانى، إذا حصل على مبلغ من المال، أن يبذره في الحال على أصدقائه. وإذا أحس بأنك في حاجة الى المال، أو الى دفع ثمن مشروب أو جائعاً الى وجبة، فإنه دائماً يلبّي مباشرة، حتى لو لم تُند منك إشارة الى ذلك.

مقهى مطوّلاتنا
مرات كنا نجد أنفسنا محشورين في دائرة ضيّقة، فننسلّ بهدوء لنختار الحانة القريبة من “شريف وحداد”. تكون على مرمى خطوتين، مطلة على النهر. كانت غرف تلك الحانة باردة في الصيف، وفي الأشتاء دافئة تفي بحاجاتنا وتغنينا عن الذهاب الى المنازل القائظة غير المريحة صيفاً شتاءً. هناك كنا نقرأ مطوّلاتنا من القصائد لكي نتمكن في النهاية من الوصول الى حوار مثمر، ذي فائدة، بسبب هدوء المكان وانزوائه الظليل وتعدد غرفه، وهي عادة كانت تضم جماعات من أصدقائنا الفنانين، رسامين ومسرحيين.
على مقربة من هذه الحانة على الناحية الثانية من جسر الأحرار، كانت حانة “جبهة النهر” التي كانت أسعارها أغلى من الحانتين السالفتين، وكان يرتادها المخرجون المسرحيون والرسّامون والنحاتون الكبار والروائيون من جيل الخمسينات، وبعض من تبقى من جيل الشعراء الرواد، وهم كانوا يأتون من مقهى البرازيلية وحسن عجمي والزهاوي، بعد قضاء صبيحتهم فيها. لم نألف “جبهة النهر”، لأنها كانت تضم في المساء بعض الرواد من الضباط والرتب العسكرية العالية.

“سولاف” الغروب الساحر
في بداية شارع الرشيد من جهة اليسار لجسر الجمهورية، كانت حانة “سولاف” الساحرة. وهي لا تزل ماثلة حتى الآن، لكنها تحولت باراً ليلياً ومطعماً يسهر روادهما حتى الصباح. زرت “سولاف” واستطلعتها من الداخل في زيارتي الأخيرة لبغداد. فهذه الحانة البديعة، كنت أرتادها مذ كنت فتى في السابعة عشرة، ولي صورة تذكارية فيها مع بعض الأصدقاء.
الى “سولاف” كنا نأتي، تفتننا سعتها وسعة باحتها الصيفية العالية على دعاماتها الحجرية فوق من نهر دجلة، ولها طلة فاتنة على النهر والقوارب التي تمخر العباب. هناك شريط طويل من النخيل يتراءى لك من الضفة الثانية. أما منظر الغروب فكان ساحراً: نسمات عِذاب تحرك خصل شعرنا الطويل النازل على الجبين، والماء كان لا يبعد عن أيدينا سوى مسافة بوصة واحدة، ويفصلنا عنه درابزين حجري طرازه ملكي، بريطاني أو إسباني، يوحي تصميمه بالذوق والرفعة.

حانة رومانس
إذا كانت الظهيرة قائظة جداً، وهي كانت هكذ

السابق
عدوان لـ”النهار”: نرفض الإقرار بدولة حزب الله
التالي
المالكي: السعودية وقطر أعلنتا الحرب على العراق