الوحدة العربية: التوازن بين الذاكرة والمشهد

السيد هاني فحص
صحيح جداً أن مشروع الوحدة العربية قد انتكس وأن المرحلة انكشفت عن توظيف القومي في تعزيز القطري، ولم يكن مطلوباً ولا مرة أن يهمل القطري من أجل القومي، لأن القومي شرط القطري كما هو القطري شرط القومي. غير أن النزوع الوحدوي يكشف إنه نزوع أصيل يصل في درجة ثباته إلى مستوى التكوين، هذا النزوع يمكن الاطمئنان إليه والبناء والحفاظ عليه كاحتياطي ذهبي، من دون أن نقع في اليأس من إمكان تحقق الوحدة مرة أخرى.

ننتمي إلى جيل وسيط ربما كانت صلاحيته للشهادة هي عين صلاحيته للرؤية، والشهادة ليست مقصودة لذاتها بل هي بوابة للرؤية. وأنا لدي شعور بأن ما تبقى من عمرنا يستأهل أن ننهض معاً وفرادى إلى وظيفة لا مصلحة لأحد في الاستقالة منها.

إن هذا يقتضينا أن نتوازن بين السالب والموجب في الذاكرة والمشهد وأن نرى إلى جدلية ما، بين السلب والإيجاب حتى لا نستغرق في الندم والتشاؤم أو في الزهو والتفاؤل، وأن يكون لنا بين هذا وذاك طريق نَصَف لا ينتهي بنا إلى خطر الاستقالة بالتراجع والنكوص مرة، وبالطفرة مرة أخرى.

صحيح جداً أن مشروع الوحدة العربية قد انتكس وأن المرحلة انكشفت عن توظيف القومي في تعزيز القطري، ولم يكن مطلوباً ولا مرة أن يهمل القطري من أجل القومي، لأن القومي شرط القطري كما هو القطري شرط القومي. غير أن النزوع الوحدوي يكشف كما كان يكشف باستمرار وفي المنعطفات وبتعبيرات مختلفة ومتفاوتة قوة واتساقاً، إنه نزوع أصيل يصل في درجة ثباته إلى مستوى التكوين.

هذا النزوع يمكن الاطمئنان إليه والبناء والحفاظ عليه كاحتياطي ذهبي، من دون أن نقع في اليأس من إمكان تحقق الوحدة مرة أخرى، على أن نقيم أطروحتها من جديد على نظام معرفي مختلف يستخلص المثال الوحدوي المنشود من الداخل العربي، مكوناته ومسارات تطوره وانتكاسه، وأن يكون المثال الآخر المختلف نشأةً ومساراً، الاشكالي والملتبس – إيطاليا وألمانيا مثلاً – أن يكون شاهداً ليس إلا، ثم نعمد إلى تأسيس المشروع السياسي الوحدوي على المتاح والضروري، لأن الركون إلى الحتمية أدى إلى الاستغناء من الوظيفة الوحدودية.

هذا المنحى ربما وصل بنا إلى إعادة النظر في بناء الحزب العربي الذي يفترض فيه وينتظر منه أن يكون رافعة الوحدة، بناء على أن الحزب ضروري للحياة المدنية القطرية والقومية باعتباره مؤسسة مدنية وسيطة. فالحزب العربي الذي بني قد بني على مثال آخر ولم تكلف حركة التحرر العربية نفسها عناء القراءة المتأنية لخصوصيات تكوّن وتكوين الأمة العربية ومجتمعاتها الوطنية لتؤسس على هذه القراءة بناءً حزبياً مطابقاً أو مقارباً، ما أدى إلى تحول الحزب العربي بنية منفصلة مماثلة إلى حد كبير لبنية الدولة القطرية التي حملها الحزب نفسه مسؤولية التقصير والقصور والانفصال.

صحيح أيضاً أن مشروع تحرير فلسطين الذي شكّل لنا سقفاً جامعاً قد وضع في مسار متعرج وشائك ، لا تخلو نهاياته المنطقية المتوقعة من مخاطر ، ولكننا متفقون على أن الثبات نسبي في كل المتحولات والمفاصل المماثلة، فالتسوية أو السلام المفروض لن يكون مقدساً ومطلقاً… إذن نبقى على السقف على أن نعالج الفجوات التي حدثت فيه، بأناة وروية ونقرر الممانعة القائمة على الثقة بالحق والمقتنى الحضاري العربي، وعلى أننا الأصل الذي مهما يرتبك فإن الطارئ ومهما يتماسك ظاهراً، فقصاراه أن بربكه لا أن يلغيه، وأن التاريخ لا يختصر بلحظة، وما من أحد ولا جهة ولا قوة ولا ضعف يستطيع أن يقفل هذا الصراع الذي لا يبدو أن الغلبة لنا فيه قريبة الأجل، ما يقتضي صبراً وأعداداً واستعداداً من دون بطالة أو ارتخاء أو مقامرة… والممانعة شرط الغلبة ومقدمتها الضرورية، طال الأمد أم قصر. وعلى الطريق إلى الغلبة في موعدها نحقق مستويات من النهوض، على أن نعيد النظر في الاختزال المعطل والقاتل (بصوت المعركة) والذي عطل المستويات الأخرى، علماً وأدباً وفناً وإنتاجاً وارتقاء في الديموقراطية والبناء الاجتماعي والتنمية والمشاركة وبناء الدولة الجامعة الحاضنة… فصوت المعركة أصوات متعددة متواصلة وليس صوت الرصاص وحده… إذن إرادة التحرير تبقى قائمة وتبقى متصلة بالشأن الوحدوي اتصالاً عضوياً وسببياً إلى حد بعيد ويمكن إعادة وضعها في سياقها من دون تعجيل أو تأجيل. أما العدالة كمعطى وشرط للتحرير والوحدة واستكمال للاستقلال والسيادة، فلم تفقد نبضها وإمكانياتها وضرورتها. كل ما حصل أنها أصبحت أكثر تعقيداً بعدما تعقدت شروط التنمية وانحسرت النظرة الأحادية إلى المسألة الطبقية، وبعدما بدأت علامات نظام عالمي جديد، قد نختلف على تعريفه، ولكننا قدنتفق على أن من أهم أهدافه تفجير ألغام التعدد والتنوع في مجتمعات الجنوب عموماً لإعاقة أو منع أي محاولة للتنمية الناجعة حفاظاً على الاستلحاق الدائم.

إن ذلك يقتضينا أن نعيد تأهيل أنفسنا معرفياً وأخلاقياً لحمل مشروع العدالة الاجتماعية، وأن نرفع التعدد موضوع الوحدة، ومقتضيها، من كونه واقعاً مقبولاً على مضض إلى جعله مشروعاً حضارياً لا يماهي بين المختلفات بل يوفق بينها على أساس التوسط والاعتدال والتسوية، ومثالاً لحركة الخاص على العام من دون إطلاق أو تعميم حتى لا تتحول الوحدة حجة لإلغاء الأطراف المكونة. إن للطبقة السياسية العربية أن تأتي إلى الثقافة من السياسة على حذر ضروري، تخطئ في ذلك أو تصيب بحسب أهليتها وسلامة أغراضها وأدائها… أما نحن فعلينا أن نأتي إلى السياسة من الثقافة علنا نخفف من سخونة السجال على القطيعة وتبادل الأدوار على غير نظام أو نسق ملائم. ولعل الأساس في ثقافتنا المنشودة هو أن نفتحها على الأسئلة من دون خوف على المقدس لأن السؤال يزيد المقدس قداسة ويكشف قداسة غير المقدس.

عندما نستجمع شروط أهليتنا عربياً، نكون قد حققنا شرطاً أساساً من شروط الأهلية في العالم الإسلامي والعالم الثالث حسب المصطلح القديم غير الدقيق… وهما مديان مباشران من أمدائنا الرحبة، نلتقي فيهما ومعهما على ذاكرة مشتركة وحلم مشترك. وهنا قد نصل معاً إلى تدوير الزوايا بيننا وبين الآخر – الغرب – ونعيد تشكيل الثنائية على نصاب أقرب إلى الصواب، فلا يبقى التقابل الحاد ذريعة للبطالة.

السابق
خلفان: الخليج العربي لن يكون ملاذاً لجماعات القرضاوي أو الحرس الثوري
التالي
في عيد المرأة: دعوة مفتوحة للحكي