يرحل الحكّام ويبقى الفنّانون خالدين فيها أبدا

فيكتوريوس بيان شمس
زرياب انطلق من قصر هارون الرشيد، ومنه أكمل إلى قصر عبد الرحمن الثاني حاكم الأندلس، لتسقط الأندلس، وينتهي العهد العباسي فتليه عهود، لكن زرياب بقي مخلّداً في أثره، ومن آثاره الموشح الأندلسي، والوتر الخامس في العود، وبعض قواعد في العزف والغناء التي مازالت صامدة إلى اليوم تلهم من اقتفوا أثره، جيلاً بعد جيل.

منذ تصريح زياد الرحباني لموقع “العهد” التابع “لحزب الله”، حين أوضح موقف السيدة فيروز من حسن نصرالله، الأمين العام لـ”حزب الله”، والنقاشات لا تهدأ، إن عبر الشاشات، أو الصحف، أو مواقع التواصل الإجتماعي. فريق يهاجم، وآخر يعتقد أنه حقق كسباً غير مسبوق.
والمسألة ليست كما قد تبدو للوهلة الأولى على بساطتها. ليست مسألة رأي شخصي لشخصية سياسية، أو فنان مغمور، أو فنان ذو جمهور محدود. قبلها حاول أحد الفريقين توظيف ما صرّحت به الفنانة ماجدة الرومي في زيارتها البحرين عن ضرورة سحق الثورة هناك، أو استخدام فضل شاكر في الدفاع عن فيروز. ألهذا الحال وصل المدافعون عن فيروز؟ مع العلم أن لماجدة الرومي، كما فضل شاكر، وربما غيرهم ممّن أعلنوا عن مواقف سياسية مثيرة للجدل، مستمعين، ومحبين من الفريقين، سواء قبل انطلاق الثورات العربية، أو بعدها.
وصل الأمر ببعضهم أن استنطق فيروز بما لم تصرّح به، وهي القليلة الكلام – لقاء متلفز أو اثنان على أبعد تقدير – فهذ أحمد محسن، يكتب بجريدة “لأخبار” اللبنانية في عددها (2180) الصادر يوم الجمعة 20 كانون الأول 2013: “ما لم تقله فيروز أنها ضد “الربيع العربي” بصورته الحالية”. والحق أنه ما كان على الكاتب أن يترك الأمر لذكائنا في استنتاج أي ربيع عربي هو الذي يناسب السيدة فيروز!. في المقابلة المثيرة للجدل يقول زياد الرحباني: “فيروز تحبّ السيد حسن كثيراً، مع العلم أنها ستعتب عليّ كما المرة الماضية عندما ظهرت في مقابلة تلفزيونية، وكشفتُ عن بعض الامور الخاصة بها وقاطعتني حينها”.

إذاً، الموقف من حسن نصرالله “أمر خاص” بالنسبة الى السيدة فيروز، وهي قاطعت ابنها لأنه أظهر الخاص الذي ما كان يجب أن يظهر إلى العلن في غير مرة. هذا يعني  أن الإبن عاود الكرّة فانتهك خصوصيات امه لتوظيفها بما ينسجم مع موقفه من الإنقسامات السياسية الحادّة في المنطقة!
هناك من حاول الدفاع عن حب فيروز لنصرالله بأن باغت الخصوم بسؤال: “هل ان الفن من أجل الفن؟”. وللأمانة، فإن الفن ليس من أجل الفن بقدر ما هو معبّر عن حالة اجتماعية، أو حقبة تاريخية، أو قضية معيّنة، ينتجها وتنتجه. وقد جاء في التاريخ، أنه وفي إطار صراع سيد قطب وجماعته مع ما صاحب ثورة 23 يوليو 1952، ومع ما طرحت من مفاهيم جديدة على كل الأصعدة ومن ضمنها الفن بكل صنوفه وتلاوينه، أوقفت أغاني السيدة أم كلثوم بحجة أنها غنّت للعهد البائد (عهد الملكية) في الإذاعة المصرية، واستمر ايقافها لمدة (18) يوماً إلى أن عرف الزعيم جمال عبد الناصر فأمر بإيقاف المنع فوراً، وكانت حجته أن “الإهرامات أيضاً من العهد البائد، فهل نقصفها بالمدافع مثلاً”؟!

في ذلك الوقت كانت إذاعة “الشرق الأدنى” المسيطر عليها من قبل الإحتلال الإنجليزي تبث أغاني فيروز، لكن أم كلثوم عادت، وغنت لعبد الناصر كما غنّت للعهد البائد، وما زالت أغانيها تصدح في شوارع القاهرة ومقاهيها إلى يومنا.
أمّا زرياب، فقد انطلق من قصر هارون الرشيد، ومنه أكمل إلى قصر عبد الرحمن الثاني حاكم الأندلس، لتسقط الأندلس، وينتهي العهد العباسي فتليه عهود، لكن زرياب بقي مخلّداً في أثره، ومن آثاره الموشح الأندلسي، والوتر الخامس في العود، وبعض قواعد في العزف والغناء التي مازالت صامدة إلى اليوم تلهم من اقتفوا أثره، جيلاً بعد جيل.
رغم كل العروض والإغراءات لم تغنِّ فيروز لحافظ الأسد، أو صدام حسين، أو ياسر عرفات، أو أيٍ من ملوك وأمراء الخليج،  أو غيرهم في عز سطوتهم وجبروتهم، حين كان وطنها يتمزّق في حرب طائفية طاحنة. لكنها غنَّت لدمشق الأموية (7) أغانٍ خالدات، غنّت للقدس، لبيروت، لبغداد، للإسكندرية، للكويت، لمكة، لتدمر، للأندلس ..
في المعركة الدائرة حول توظيف الموقف المنسوب لفيروز من حسن نصرالله، وبالتالي الموقف من ثورة الشعوب العربية على بؤسها واستعبادها، يفترض الفريق السياسي المؤيّد لهذا الموقف، أنه حقق مكسباً عظيماً، وألحق الخسارة الثقافية والمعنوية بالفريق الآخر، لا بل يذهب بعضهم أبعد من ذلك في تصور قلّة الذوق الفني بالخصم المحلّي، في حين تذيع محطات العدو الصهيوني أغاني فيروز، وأم كلثوم، وفريد الأطرش وغيرهم إلى اليوم.

منذ بداية 2011 تهاوت رموز ثقافية وفنية كثيرة أيّدت هذا الطرف أو ذاك ، عادل إمام، دريد لحام، أدونيس، ولفيف من الأسماء متفاوتة الشأن في كافة حقول الأدب والفن، لكن كيف يترجم هذا السقوط؟ هل ستتوقف الناس عن قراءة أدونيس؟ أو حضور أفلام ومسرحيات عادل إمام أو دريد لحام؟ و هل ستتوقف الناس عن سماع فيروز بعد موقفها الأخير؟
يذكّرنا توظيف موقف فيروز من حسن نصرالله بالشعار الذي رفعته حركة “الإخوان المسلمين” في مصر قبل بدء الإنتخابات في العام 2012: “الإسلام هو الحل”، ليأتِ السؤال مباشرة: “وماذا لو فشلوا؟ هل نقول إنّ الإسلام فشل؟”. سقط “الإخوان المسلمين” في 3 تموز 2013، فهل سقط الإسلام؟
النفق الذي أدخلت فيه المنطقة سينتهي، ومن يدري: هل سيبقى “حزب الله”، و”داعش” أم سيتلاشيان كما تلاشت قبلهما أحزاب وأيديولوجيات كثيرة، لكنّ الأكيد أن فيروز باقية ما بقيت شعوب سمعتها واعتزّت بها بأطيب آثارها: أليست فيروز سفيرتنا إلى النجوم؟

ستُخلّد فيروز بمن خلّدت، بزنوبيا، بدمشق والأندلس والقدس وغيرها. هي التي وصفها الموسيقار محمد عبد الوهاب بأنّها “ملاك”، والملاك صامتٌ عالٍ مترفّع طاهر، يعمل للخير والحب والجمال دون ادّعاء أو دعائية. لكن لكل حصان كبوة، ومقابل كل ملاكٍ شيطان، وحدها الآلهة منزّهّة عن الذنوب والخطايا. ما الضير إن تعثّرت فيروز مرّة؟

ن كان منكم بلا خطيئة فليرجم فيروز بما شاء.

السابق
حرب الإستنزاف السعودية تغضب «السيّد»
التالي
إرسلان لسلام: تعلم جيدا أن حكومات الأمر الواقع أوصلت لبنان للتفجير