العلاَّمة الأمين لجنوبية: الحوار المسيحيّ الإسلاميّ إما تكاذبي أو تنابذي

العلامة السيد محمد حسن الأمين
"نرى في الحوار المسيحي الإسلامي، ضرورة حضاريّة، إنسانيّة، بالدرجة الأولى، وذلك بقطع النّظر عن الضرورة الخاصّة التي تُمليها المسألة اللبنانيّة، أي العيش المشترك للمسلمين والمسيحيّين، في وطن واحد". هذا ما أعلنه سماحة العلاَّمة المفكر السيد محمد حسن الأمين لـ"شؤون جنوبية" في هذا الحوار الذي أجرته معه، والذي يدور حول الحوار الإسلامي في المسيحي الحقيقي / العميق والفاعل، ومقتضياته ومآلاته.

·        ما هي الضرورة إلى الحوار الإسلامي المسيحي، وهل هو ضرورة ملحة على المستوى العالمي؟

إننا نرى في الحوار المسيحي الإسلامي ضرورة حضارية إنسانية بالدرجة الأولى، ذلك بقطع النظر عن الضرورة الخاصة التي تمليها المسألة اللبنانية أي العيش المشترك للمسلمين والمسيحيين في وطن واحد. إن قيم الإيمان المشترك بين المسيحية والإسلام كالإيمان بالله الواحد وبأنه مصدر الكون والحياة. وإن الإنسان يمارس خلافة الله على هذه الأرض والإيمان بحياة الروح واستمرارها وانبعاث الإنسان بعد الموت… وكذلك الإيمان المشترك بالغاية عن استخلاف الله للإنسان على الأرض. وما ينشأ عن هذا الإيمان المشترك من القيم الروحية والأخلاقية بين الإسلام والمسيحية… إنما يشكل ذلك كله حافزاً من أجل تطوير العلاقة، وتعميقها بين هذين المصدرين الروحيين العميقيين والأكثر غنى وتواصلاً بين كل العقائد الدينية الأخرى، وغير الدينية لكل الشعوب على هذه الأرض.. ومما لا شك فيه أن حاجة عالمنا المعاصر، إلى هذين المصدرين تزداد بازدياد حاجته إلى التوازن والعدالة وحاجته لتوفير المعنى والهدف للمسيرة البشرية، وما يرافقها من سرعة في التطور التقني الذي يعمق مع فقدان المعنى والهدف – شعور الاستلاب لدى الإنسان المعاصر والغربي منه بصورة خاصة..

مصدر واحد

يشكل الحوار، بالمعنى العلمي لمفهوم الحوار، أفضل أشكال التواصل بين الأفراد والجماعات، سواء كانت داخل الأمة نفسها بين فرقها ومذاهبها؛ أو كان ذلك بين الأمم والشعوب والأديان المختلفة. والحوار الإسلامي المسيحي هو ضرورة تمليها الاعتبارات والدوافع التي تحتوي عليها هذه الأديان السماوية. وإن كنت أرى أن الحوار لا يجب أن يقتصر على الأديان ولكن هذين الدّينيين بالذات، هما أكثر الأديان اقتراباً من بعضهما، لجهة المبادئ والأهداف ومن خلال هذا الحوار نأمل أن تتحقق، لجزء كبير من العالم، مبادئ وقيم مشتركة لا يقتصر نفعها على أتباع الدينيين هذين بل يتعداهما إلى هذا العالم الذي هو بحاجة إلى قيم ومبادئ مشتركة تسهل على هذا العالم، تجاوز كل صور الصراع والتنابذ بين الأمم والشعوب. وتفتح أفقاً جديداً من الاتحاد والتفاهم وتجاوز الأزمات التي تعصف بعالمنا الراهن. وأرى أن من السهل الوصول إلى هذه المبادئ والقيم المشتركة نظراً لكون الإسلام والمسيحية، بالأساس، ذوي مصدر واحد هو الوحي والتعاليم السماوية، إن هذا الحوار المشترك بينهما هو الجزء الأكثر أهمية في حوار الحضارات، التي هي شعار عالمنا المعاصر.

مرتكز نسبي

وبالتأكيد فإن لبنان يشكل مرتكزاً ولو ضيّقاً نسبياً لاتساع المسيحية والإسلام، إلا أن بوسعه من خلال حوار جدي وعميق بين الطرفين أن يقدم نموذجاً حياً، ومؤثراً لمشروع الحوار الأشمل بين الإسلام والمسيحية وأن يقدم للبنانيين وطناً تعددياً نموذجياً، ينعكس بصورة إيجابية على تطلعات اللبنانيين إلى مجتمع المواطنة والعدل، وتداول السلطة، والانتقال من النظام الطائفي السلبي إلى نظام المواطنية والحياة المشتركة، التغلب على الأزمات، التي يسببها النظام القبلي الطائفي والذي ينتمي بنظرنا إلى ما قبل عصور النهضة والحداثة في الاجتماع البشري.

·        ما هي مزايا الحوار الناجح برأيكم؟

إن الحوار الذي ينطلق من مبادئ مشتركة، ويرتفع إلى الحوار حول مواطن الاختلاف، فهو إما أن يحلها وإما أن ينظم العلاقة بهذا الاختلاف، فلا يعود سبباً للصراع والتنابذ، وهو يؤدي – أي الحوار – إلى قبول الحوار كما هو وليس كما نريده أن يكون.

إن أكثر العقبات في مواجهة الحوار الإسلامي المسيحي، هو التقاسم الطائفي للسلطة وهذا التقاسم نفعيّ لا يريد للحوار المسيحي الإسلامي، أن يكون خطراً على هذا النظام الطائفي، وعلى المستفيدين منه. لذلك هم (السياسيون) يتحدثون عن الحوار ويمارسونه بأشكال سطحية، حتى يقال أن هناك حواراً. والواقع أن ما هو موجود ليس حواراً إنما هو تكاذب. ومظاهر حوار لا عمق لها ولا تأثير فعلياً على صيغة الحياة الوطنية.

وتتمُّ مواجهة هذه التحديات بنهوض كتلة وطنية مسيحية إسلامية، تعتنق فكرة تطوير النظام والاستفادة من معطيات الإسلام والمسيحية. حتى الآن لا أرى تطلعات جدية نحو هذا الحوار الفاعل؛ إلا من عدد قليل من النخب الثقافية وبعض النخب السياسية في هذا البلد.

إن الحوار الإسلامي المسيحي، عالمياً، هو ضرورة ملحة لإطلاق تيار روحي ثقافي قوي، يساعد على إعادة التوازن لإنسان العصر من جهة، ولعلاقات الشعوب بعضها مع البعض الآخر وينشط حركة السلام والعدل والحرية بوصفها صمام الأمام لحياة الشعوب الخاصة والمشتركة.

فكرة قديمة

·        أين دورنا نحن – اللبنانيين – في دعم فكرة هذا الحوار وإنضاجها على المستوى العالمي بين الإسلام والمسيحية؟

قد لا تكون فكرة أن للبنان دوراً خاصاً، في إطلاق هذا المشروع، فكرة جديدة. بل هي بالتأكيد فكرة قديمة، رافقت كل الأدبيات اللبنانية التي تحدثت عن دور لبنان الحضاري وعن آفاق الحوار المسيحي الإسلامي في لبنان. ولكن هل استطاع اللبنانيون أن يدفعوا هذا الحوار إلى الآفاق التي تلامس هذه الغاية؟ السؤال هنا لا يتناول تجربة الحوار المسيحي الإسلامي اللبناني في المستوى الفكري والنظري. إن السؤال ينصبُّ على البعد الجوهري للمسألة، أي على الحياة اللبنانية نفسها: إلى أي مدى كانت تجسيداً لهذا الحوار… إن الكلام على الآفاق المستقبلية للحوار المسيحي الإسلامي في لبنان، لا بد أن يستند إلى موقف نقدي لهذا الحوار كما شهده لبنان في المراحل السابقة.

إن أي حصيلة نقدية موضوعية وصريحة للحوار المسيحي الإسلامي، كما شهده لبنان في المراحل السابقة، وحتى هذه اللحظة سوف تقودنا، إلى مزيد من اليقين بضرورة تجديد هذا الحوار، وبدون هذه الحصيلة النقدية قد نتوهم أن الحوار هو من بين الوسائل العقيمة التي لم يجنِ منها المجتمع اللبناني أي ثمرة جدية، في سبيل ترسيخ وحدته الوطنية، فيما الصحيح هو العكس، بمعنى أن الثغرات التي أصابت الوحدة الوطنية اللبنانية، كانت بسبب هزال الحوار المسيحي الإسلامي وليست دليلاً على عقمه وانتفاء جدواه.

جوانب الخلل الأساسية

·        برأيكم ما هي سلبيات هذا الحوار أو جوانب الخلل فيه؟

نكتفي هنا بتسليط الضوء على بعض جوانب الخلل الأساسية في الحوار المسيحي الإسلامي كما عرفه لبنان. غياب المؤسسات الحوارية ساعد القوانين والتشريعات اللبنانية، على فرز الطوائف، وباتت المجالس الطائفية جزءاً من تنظيمات الدولة نفسها، وبدلاً من أن يتحول نظام المجالس الطائفية، لإقامة جسور التواصل والحوار، للتفاعل والانصهار بين اللبنانيين، تحولت هذه المجالس، إلى أسوار طائفية تستنفر العصب الطائفي وتحول دون التواصل. بسبب هذا الفرز الذي عزّز الأداء السياسي الطائفي، ضاقت هوامش الحوار الإسلامي المسيحي، أو بالأحرى فإن الحياة السياسية والاجتماعية استغرقها شكلان من أشكال الحوار، أحدهما حوار تنابذي يهدف إلى النفي والنفي المتبادل والمخاوف المتبادلة. وهذه العلاقة في جوهرها ليست حواراً، إنها صراع يستبعد الدِّين ويستنفر العصب الطائفي ويُغيِّب مساحات الفكر والروح والمصلحة المشتركة ويستحضر مساحات الخلافات ويعمقها. ولعل الحرب اللبنانية في بعض جوانبها كانت تعبيراً عن هذا الحوار التنابذي، أعني الصراع لأنه البديل الطبيعي لحوار التواصل. أما الشكل الآخر للحوار المسيحي الإسلامي، فهو الذي طغى عليه عنصر الخطابة والمجاملة في كثير من الأحيان، أصبح أسير التكاذب.. وفي أحسن الأحوال فإن هذا الحوار ظل هامشياً لم يخترق البُنى الطائفية.

وقائع وأخطار

·        إن الحوار الإسلامي المسيحي في بُعديه التنابذي والتكاذبي قاد اللبنانيين إلى الحرب، فما هو حوار المستقبل الذي يقودنا إلى السلام؟ ويقود لبنان إلى دور مميز في محيطه وفي العالم؟

يواجه لبنان خطر العواصف العرقية والدينية وازدهار الطائفية والمذهبية فيه.. وخطر النظام الدولي الذي لن يعترف للبنان بوضعية استثنائية داخل العالم الثالث، كما هو تصنيف لبنان دولياً. وهذا الخطر بدأ بالظهور على شكل تحكم دولي وإقليمي، بالشأنين الداخلي والخارجي للبنان، وعلى شكل ضغوط اقتصادية تؤول إلى التأثير على البنية الاجتماعية والسياسية، بما يشبه بنية دول العالم الثالث. إن الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان، لا يمكن أن يدور بمعزل عن هذه الوقائع والأخطار، بل يجب وضع مناهجه وموضوعاته وفقاً للأهداف الوطنية المشتركة. فيكون الحوار عندئذٍ سبيلاً للوحدة الوطنية الراسخة، ولإقامة مجتمع العدل والكفاية، وبالتالي لإطلاق النموذج المتجسد والحي، لتعايش المسلمين والمسيحيين في هذا العالم.

إن دور الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان أن يُحرر الفرد والمجتمع اللبناني معاً، من الانتماء الطائفي الضيّق، وأن يُعيد هذا الانتماء إلى القيم الدينية الأصيلة، بحيث لا يشترط المسلم على المسيحي إلا أن يكون مسيحياً حقيقياً؛ ولا يشترط المسيحي على المسلم إلا أن يكون مسلماً حقيقياً. وبذا تتساقط المخاوف والمخاوف المتبادلة، ولا يعود الخوف سبباً، في إرجاء المسائل الحيوية أو الاقتتال بشأنها، فلا يعود بحث إلغاء الطائفية السياسية غولاً مخيفاً ولا هوية لبنان العربية تهديداً للاستقلال. ولا كتابة التاريخ الوطني الموحَّد إلغاء لعناصر الغنى والتنوع في المجتمع اللبناني.

إن الحوار المسيحي الإسلامي هو إعادة تأهيل للبنانيين، لكي يكون لهم حضور وازن، في اختيار مستقبلهم وصيغة حياتهم الوطنية. وتقع مسؤولية هذا الحوار على المجتمع والدولة. فنرى أن المجتمع الأهلي المدني اللبناني، هو الذي يتحمل مسؤولية انبعاث هذا الحوار، إن المؤسسات والندوات الإعلامية والثقافية والصحافة، ودور النشر تتحمل مسؤولية الدعوة إلى هذا الحوار، وإطلاق شعاراته ويدخل ضمن مؤسسات المجتمع الأهلي المؤسسات الدينية التي تحرس قيم الدين لا الطائفية. وكذلك علماء الدين المسيحيون والمسلمون الرافضون للترويض والتطبيع الطائفي.

السابق
توتر في العديسة
التالي
القنطرة بوابة التحرير: نعمة الاستراتيجيا.. ونقمتها