موسكو الأمثولة الرديئة طهران الحذر الضروري 2

هاني فحص

ان المصلحة الإيرانية الوطنية الحقيقية اقتضت أن تغض طهران نظرها عن الاحتلال الأميركي لأفغانستان، تاركةً لواشنطن في العراق مؤقتاً أن تقوم بعملها لمصلحتها وحدها، أي من دون مشاركة إيرانية عسكرية، ما جعل طهران تلزم «منظمة بدر» العسكرية العراقية المعارضة للنظام العراقي، أن تقف جانباً، حتى لا تعكر صفو الحصرية الأميركية المزينة بمشاركات أوروبية أملتها ضرورة أميركية بالشراكة في تحمّل المسؤولية عن العملية، وقد كان في عمق الأسباب العديدة الكامنة وراء السلوك الإيراني، التهديد المتكرر من «طالبان» بإزعاج ايران، من دون أن يمنع ذلك ايران من استقبال قيادات طالبانية وقاعدية، وفدت اليها من أفغانستان لتستمتع بالحماية، وتتحول الى رصيد أو احتياطي ذهبي تستخدمه طهران عندما تقتضي الظروف، من دون التزام نهائي بالتحالف العميق مع العدو وطبقاً لمقتضيات التبدل في ميزان المصالح مع الأعداء الآخرين، وكان التخلي عن القائد الأفغاني قلب الدين حكمتيار وإخراجه من طهران دليلاً آخر على ان طهران كغيرها، في رجوعها الى موجبات مصالحها الوطنية على وقع المتغيرات التي تجعل الموقف المبدئي غير نهائي، من دون أن يكون ذلك خيانة الا في خيال البلهاء من الأتباع والحلفاء، لأن المبدئية في الحراك السياسي والتنقل من حال الى حال، لا تتعارضان، بل هما من مستلزمات المصالح الوطنية المتحركة بما يعني ذلك من مرارات للحلفاء جراء الانكشافات من نظام القيم السياسية.
اننا وبمناسبة ظهور الحب المتبادل بين ايران والولايات المتحدة الى العلن، بعد عقود من الغزل العذري السري والسباب والكيد المتبادل، على الطريقة التي قلبت العلاقة بين الشاعر العربي من السباب المتبادل بينه وبين (أميمة) في وادي (بغيض) الى مودة عميقة… فكأن السباب لم يكن إلا تعبيراً سلبياً عن الإعجاب ثم الغرام.
ونتساءل ألا يمكن أن تقتضي مصلحة ايران سلطة وشعوباً، أي بتطابق هذه المرة، بناء على أن أغلبية الشعب الإيراني لم تعد ترى بلدها مضطرة بعد الثورة ودورتها ونموها الذي يملك كل أسباب التصاعد، وأن يقتضي الاستقرار الأمني الداخلي وتعاظم دورة الانتاج لترميم تصدعات فترة التوتر بعد الحرب الإيرانية العراقية، وبعدما استطاعت ايران تعويم شيعيتها وقوميتها من خلال الشراكة في تحرير جنوب لبنان، متغلبة على مشاعرها الأقلوية مذهبياً وقومياً في لحظة اهمال عربي بعد احتلال لبنان العام 1982… وصولاً الى الرفاه الذي كان غيابه من أهم الحجج التي تم تسويغ أو وجوب الثورة بها، وكان تحقيقه من أهم وعود الثورة والدولة وأهم انتظارات الشعب الايراني الذي اضطر في لحظة ضيق سياسي بنقص الحريات وضيق اقتصادي أن يهتف ضد الدعم المالي لـ«حزب الله» وحركة «حماس» في أكثر من مظاهرة جمعت بين الخبز والحرية؟
ألا يفضي كل ذلك أو يقتضي أن يعود «البلدوزر» الإيراني من الخارج الى الداخل، ليجرف المصاعب والعوائق التنموية مستعيناً بالمشروع النووي الذي لا سبيل لتوظيفه تنموياً إلا بالشفافية التي ترسخ سلميته، أي أن لا تكون الضرائب المترتبة عليه أكثر من فوائده، قياساً على تجربة باكستان مثلاً، التي أنجزت مشروعها النووي من أجل أمانيها وازدهارها، ولكنها لم تزدهر ولم تستقر سياسياً ولا اقتصادياً، وأصبحت ملزمة بمسايرات وتنازلات سياسية، وتكاليف اقتصادية لحماية مشروعها النووي، ما يجعل إدخال الخوف الإيراني وفكرة التوازن مع باكستان، على معطيات واحتمالات مذهبية وقومية معروفة ويمكن بالحوار العميق تجاوزها، يجعل هذا الإدخال أمراً قاصراً عن أن يبرر الخسائر المترتبة على عسكرة المشروع النووي الإيراني… الذي يهدد دول الخليج بما يتعدى مفاعيل مشكلة الجزر الى ما هو أبعد بكثير خاصة اذا ما أخذنا في اعتبارنا كما يفعل الخليجيون وخاصة دولة الامارات العربية المتحدة، التي يمكن أن تغض النظر أو تؤجل أو تهدئ من جدلها مع ايران حول الجزر من دون تخل نهائي، ورغم تجاوز إيران المتكرر والمتدرج لاتفاقية العام 1971، من خلال التوسع والتمكن المتعاظم لوجودها في هذه الجزر (…).
إن أي عملية تنمية واستئناف للنهوض الذي بدأ بعد نهاية الحرب العراقية مؤكداً انه إذا كان للحرب بعض الفوائد على كثير من المضار، فإن السلم هو الشرط النظيف للازدهار والاستقرار وممارسة الأدوار التكاملية مع الشعوب القريبة جغرافياً أو وجدانياً.
ومعروف ان «البلدوزرات» لدى الدول الكبرى أو القوية عندما تعبر الحدود تكون مضطرة لأن تساعد على البناء ولو جزئياً في مناطق السيطرة أو الاستلحاق، ولكن ذلك يتم دائماً على حساب شعوبها التي تدفع الأثمان من دون نتائج مرضية، وتتحول الدول الغنية كالولايات المتحدة الى سبب في فقر شعوبها كما يعرف الجميع عن الشعب الأميركي الذي أصبح مضطراً، بناء على مواجعه ومخاوفه، أن يجاهر بأنه لم يعد يؤيد الحروب وتشغيل «البلدوزر» الأميركي خارج الحدود، وهذا أحد الأسباب التي جعلت الكونغرس الأميركي يستيقظ على مخاطر الضربة الأميركية لسوريا بذريعة الكيميائي التي لو توفرت سابقاً في أي بلد عربي لكانت قد حصلت حتماً، والكونغرس يمثل ويعرف توجهات القوى الاجتماعية التي يمثلها ويعبّر عنها… وأتمنى هنا أن يكون ذلك أحد أسباب الالتفات الإيراني الى مخاوف لم يعبّر عنها كثيراً، لدى الشعب الإيراني من عسكرة المشروع النووي الإيراني، ما جعل طهران تسلك مسلكاً آخر أقل معاندة ومكابرة، وعلى ما تقتضي مصالح شعبها، ومن دون وقوف طويل عند احتياجات المناطق والحركات والأحزاب والشعوب والجماعات التي اشتغل «البلدوزر» الإيراني في أراضيها… ما جعل هذه الأطراف تشعر بفائض قوة وتمارس ما يجعلها على فصال خطير مع شركائها في أوطانها وقضاياها (حماس وحزب الله والحوثيون، والمعارضة البحرينية التي لم تضعف فيها تماماً إرادة التمايز عن إيران من دون معاداتها).
مرة اخرى نتساءل: ألا يمكن أن تصل مصلحة الشعب الإيراني المستيقظة على نفسها في الحالة الشعبية وفي عقل كثير من أهل السلطة فضلاً عن المعارضة، في الاستقرار واستغلال الثروات لمصلحة الداخل من دون إضرار بالأصدقاء والحلفاء ومن دون خضوع للخصوم الأقوياء، بل مع التفاهم الذي يمكن أن يقوم على التكافؤ، أن يعطي قادة البلدوزر الإيراني الأولوية للشأن الإيراني، فيتم، وعلى سبيل المثال الملحّ، ترك أمر الرئيس السوري للشعب السوري، مشروطاً بالحفاظ على مقدار كاف وقابل للنمو بالتفاهم والتعاون وتنقية الذاكرة الذي بات صعباً جداً، من مصالح ايران الطبيعية في سوريا؟ على صعوبة شديدة أيضاً وتشتد أكثر مع كل شراكة مباشرة أو غير مباشرة في احداث سوريا… من دون أن تصل الى حد الاستحالة التي لا معنى لها في القاموس والتاريخ السياسيين… بما يستتبع ذلك أو يستلزم من عودة حزب الله بمقاتليه الذين أُعدوا لهدف حصري هو مقاومة اسرائيل وتحملوا كثيراً من أجل الحفاظ على هذا الحدث وصبروا الى أن تم التحرير وأعقبته حرب العام 2006 التي كان يمكن تفاديها وإن كانت انتهت بالسلامة للحزب ومقاتليه، وكان يمكن ومرغوب أن تعقلن السلوك السياسي الحزبي في لبنان، أكثر من إغرائه باستخدام قوته في تعويق الدولة على الرغم من الإصرار على قوله بأنه يبنيها… وهي التي لا تبنى إلا بالشراكة في الفعل والرؤية… في حين ان حرب 2006 التي انهزمت فيها اسرائيل بمقدار ما عجزت عن تحقيق أهدافها، نبهت اسرائيل الى ثغرات عميقة في بنيتها القتالية ومخاطر حقيقية تنتظرها فعمدت الى الاستفادة من ذلك باتجاه تفادي أو ترميم الخلل، الذي لا سبيل الى تفاديه فعلاً إلا بإيقاف الاستيطان تمهيداً لمفاوضات جادة تمهيداً لسلام أقل هشاشة مع الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية التي ارتقت دولياً الى عنوان الدولة.
هذا علماً بأنه من الضروري أن إيران لا تخون الحزب إذا ألزمته أو اتفقت معه ولو من موقع عدم التكافؤ في الشراكة، بالعودة الى داخل لبنان من بوابة الحوار باتجاه بناء كتلة تاريخية تعددية تعيد وترسخ بناء جديداً لدولة تعددية، وحدتها وميزتها، كامنة في مقدار التوازن بين مكوناتها، بصرف النظر عن الأعداد وموازين القوى العسكرية.
ما يعني ان وضع سلاح «حزب الله» في عمارة الدولة وحراستها وإمرتها المتفاهم عليها تعريفاً وتنفيذاً، وتحويله من أداة تكتيك حزبي أو شيعي لا يمكن أن يرقى الى مستوى استراتيجية وطنية بالفصال مهما كانت الخطابات اليومية عالية النبرة، وتحويله الى شأن استراتيجي دفاعي ضد اي عدوان اسرائيلي بالشراكة مع الدولة المحفوظة مكانتها، ما يعني ان «حزب الله» مؤهل للاستمرار فاعلاً مشاركاً، لأن الاستئثار ضار به وبمن يمثله أو يختزله من طائفة، قضت عمرها الوطني آمنة مأمونة، تشكو وتجزع من الظلم والتهميش ولكنها لا تسيء الجزع، وتصرّ على تأهيل نفسها علمياً وعملياً للشراكة الوطنية على أساس الإنصاف من دون استبعاد للاعتراض والاحتجاج والإصرار على أولوية الدولة. وهذه شهادة تاريخية لها من شركائها أولاً… ولم يزدها التحرير إلا مصداقية تلزم «حزب الله» بالطموح بمزيد من دمج الشيعة والاندماج.
إننا مضطرون لأن نطمئن الى ان العقلانية الوطنية هي التي سوف تحكم نتائج ما نتوقعه من تأثير إيجابي لإيران بعد التفاهم مع الغرب وأميركا، على حزب الله وسلاحه، باتجاه الحفاظ على الدستور اللبناني واستكمال تطبيقه تمهيداً لتطويره، لا تغييره على أساس مقايضة السلاح (المحتملة) بالمثالثة، التي يلمح اليها بعض أصدقاء «حزب الله»… على ما يعني ذلك من زعزعة الوجود المسيحي والحضور فيه، ما تسقط معه كل الخطابات الحزبية التي تعلن الحرص على المسيحيين، كما تحرص على انقسامهم.
هذا كله يحتاج الى تفاهمات إيرانية عميقة ونهائية في اتجاه تحويل القوة الإيرانية الى سند عربي وتحويل الثروات العربية ومجالات الاستثمارات العربية الى مجال ايران وسنداً لإيران بصرف النظر عن الفوائد المباشرة وحجمها، وفي اتجاه الكف أو التقليل من الإندفاع الى التسليح في إيران(…)
ان التوجه الإيراني نحو الداخل من دون إهمال الخارج هو الذي يحفظ لإيران استقرارها وأمنها ودولتها ودورها الإقليمي الذي لا يكون مشروعاً ولا نافعاً لإيران إلا بمقدار ما يكون ملائماً للشراكة العميقة بين إيران وجيرانها العرب خاصة (…)
ختاماً، ان ايران بإمكانها أن تستدرك وتعوض ولو جزئياً عما فاتها مما كان ينتظر منها ويتوقع لها من دور في تفادي الكارثة السورية التي سوف تترك آثارها غير الحميدة على مستقبل المنطقة كلها حتى لو تمت معالجتها بجدية وفاعلية.
كان بإمكان إيران أن تنقذ النظام والشعب السوري باستخدام رصيدها السوري والعربي من أجل الترغيب والمساعدة الفاعلة والممكنة على اصلاحات عميقة تضع سوريا على طريق السلام الأهلي والوحدة الوطنية ومقدار من الديموقراطية يقترب من معدل الديموقراطية الإيرانية التي تتعرض للانتقاص النسبي بين لحظة وأخرى.

السابق
المخيّم!
التالي
الطقس غداً قليل الغيوم مع بقاء درجات الحرارة منخفضة