موسكو الأمثولة الرديئة

نشر السيد هاني فحص مقالين في جريدة "السفير" الأسبوع الفائت، نعيد نشرهما على حلقتين، اليوم وغدا، تعميما للفائدة.

إن اختلافي عن «حزب الله» ونقدي لمسلكه السياسي في لبنان وعمله في سورية، من دون إعجاب بمسالك اخرى، لا يعني أن لي ثأراً عليه، أما مقاومة اسرائيل حصراً ودون غيرها، كما كانت، من دون اعتراض لدينا الا على تفاصيل قللت الى حد ما من فرحتنا، ولكنها لم تنقلنا الى موقع العداء.. أما مقاومة اسرائيل المطلقة في وجوبها الإنساني، والمقيّدة بظروف متغيرة، والمشروطة باحترام ارادة الشعب الفلسطيني، في حالَي الصواب والخطأ.. فهي شأننا، شأن أهلنا وأجيالنا حتى النهاية التي تحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية.. ودون غيرها، أي مقاومة اسرائيل، تكراراً، مهما تكن الذرائع المضخمة والمستندة الى قرار مسبق بالتدخل في سوريا، وفي ايام الحركة الشعبية الاعتراضية ومظاهراتها السلمية، أي قبل اختراق التطرف للمشهد السوري. من دون أن يكون لدى المتطرفين حاجة الى الاحتجاج بالآخرين، الذين يحسنون القول في الاعتدال، مع بقاء مسافة طويلة وعميقة بين القول والفعل.
هذا مع شك العقلاء والمراقبين ويقين المطلعين عن كثب، بأن الحاضن الحقيقي أو الشريك المضارب للتطرف، هو النظام السوري. على ما ذقنا وعلمنا من تواطؤ الأضداد والأعداء الظاهريين، بما يستدعي ستر سلوكهم وتمويهه، على انكشافه لذوي النظر، من تناحر وتقاتل، لأن الأجساد التي تتساقط، والعمارات التي تتهاوى، والأرواح التي تزهق، ما هي إلا أدوات ووسائل لدى عشاق السلطة والجاه والمال، الذين لا تنقصهم المبررات المفتعلة أو الملفقة أو المضخمة أو المؤولة، بالدين والوطن والقومية وفلسطين.
بناء على هذا كله، أقول بارتياح كافٍ، إن اسرائيل مرتاحة في ظل القرار 1701، منذ سنوات، والذهاب للقتال في سوريا، من قبل طرف أو أطراف متعاطفة مع الخط المتطرف من المعارضة مع ضآلة قدراتها (في لبنان) على القيام ميدانياً بأي عمل مجدٍ إن لم يكن ضاراً ومساعداً للآخرين على تسويغ فعلهم، أو من قبل الطرف المؤهل تدريباً وسلاحاً وتجربة قتالية ومالياً، ما يؤهله لأن يكون فاعلاً، من دون أن تكون نهايات هذا الفعل محمودة أو حميدة، الا اذا كانت هناك نية وقدرة على الاستدراك وتعديل المسار.
كما أن اسرائيل مرتاحة ومطمئنة، رغم اصرار نتنياهو (عطاء الله بالعبرية) على تكرار غضبه وجزعه وقلقه من التفاهم الأميركي الإيراني، لأنه خائف على مصيره الانتخابي، مصرّ على الذهاب الى المبالغة في المخاطر، ليساعده ذلك على التنصل من موجبات مفاوضات السلام المستأنفة، والتي يبدو أن هناك توجهاً دولياً لجعلها منتجة لحساب الشعب الفلسطيني وعلى حسابه في الوقت ذاته.. اسرائيل مرتاحة بازدياد نيران الفتن الداخلية، في اليمن وسورية ولبنان والعراق الخ.. وقد ارتاحت فعلاً من الكيميائي بفضل نجم الممانعة، الذي لم يكن استخدامه للكيميائي عفوياً أو لسبب ميداني محض. ثم ارتاحت اسرائيل من النووي الإيراني من دون اضطرار للمقامرة عسكرياً قياساً على تدميرها للمفاعل العراقي في ظروف مختلفة عن ظروف إيران التي تستدعي التدقيق في حسابات الجغرافيا والديموغرافيا واستعداد الشعب الايراني، لأسباب وطنية إيرانية معهودة على مر العصور، للاستيعاب والمواجهة، وقدرته على تعديل أولوياته عند الضرورة الوطنية.
وعليه فقد رجحت السلطة الايرانية داخلها على الخارج، ورفاه شعبها على تعاظم نفوذها المحفوف بالمخاطر، من دون قطيعة كاملة مع رغبتها المكنونة والمعتقة بالانتشار خارج حدودها، بإملاء من ذاكرة امبراطورية لم يمحها التاريخ.. فرجحت الحوار مع الغرب على استمرار القطيعة، أي انها اعتمدت التكتيك العميق بدل الاستراتيجية المزاجية.. ولو متأخرة قليلاً، ومضطرة لتحمل خسائر هذا التأخر، كما جرى لها عندما تشبثت بالرهائن الأميركيين، في حادثة اقتحام السفارة في طهران بُعيد نجاح الثورة، على الرغم من الأثمان التي عرضت عليها مقابل تحريرهم، الى أن عادت بعد سنوات الى تحريرهم من دون مقابل مجزٍ.. كما تأخرت في قبول القرار الدولي (598) لإنهاء الحرب مع العراق المتسبب الأول فيها ومن دون مسوِّغات مقبولة، الى ان اكتشف الإمام الخميني أسراراً ووقائع عسكرية جعلته يقبل بإنهاء الحرب. وكأنه يشرب السم، مؤكداً انه قبل اطلاعه على الواقع، كان يفضل الاستمرار في الحرب.
وهنا نتذكر السوفيات، أي روسيا من دون رضوخ للمخادعات الأممية، وقد وثقت روسيا السوفياتية علاقاتها، ووسعت استثماراتها هي والصين أيضاً، في السودان، بعدما أعدم الرئيس جعفر النميري رجال الانقلاب الشيوعي على الطريقة السوفياتية مع تميز بمراعاة الخصوصيات السودانية، عبد الخالق محجوب وعثمان حمد الله والشفيع الشيخ أحمد وهاشم عطالله قائد الانقلاب، وبابكر عوض الله، الذين سلم القذافي القومي التقدمي لجعفر النميري بعضهم تسليم اليد وبالطائرة.
وعندما تصدّى ملك المغرب السابق الحسن الثاني بقوة للحزب الاشتراكي (الشيوعي) في المغرب، سارع السوفيات (الروس) الى عقد اتفاقية الفوسفات الشهيرة، لأن مصلحة الشعب الروسي، بصرف النظر عن الشعارات الثورية والأممية المعلنة والمكررة دائماً، اقتضت ذلك.
وعندما كان الزعيم الشيوعي السوفياتي، نيكيتا خروتشيف يجلس مبتهجاً الى جانب الرئيس جمال عبد الناصر وعبد السلام عارف وأحمد بن بيلا، في أسوان، في حفل افتتاح العمل في بناء السد العالي بمساعدة موسكو، كان الشيوعيون المصريون السوفيات في سجون مصر مع «الإخوان المسلمين» في العنابر نفسها.
ولو كانت المصلحة الروسية (الإمبريالية على ما قال الماويون) قد اقتضت غير هذا السلوك، لكان الأمر يسيراً، ومنسجماً مع طريقة لينين في ادارة الصراعات المتماثلة بطرق مختلفة، ما فات من قرأوا أوائل الصفحات في كتاب لينين ولم يقرأوا نهاياتها، بعد قوله المعروف: «أيها الرفاق علينا أن نكون خبثاء جداً». وقوله: «إن الشيوعي لا يكون شيوعياً حقيقياً الا اذا زحف ولمسافات طويلة، على القاذورات من أجل الوصول الى هدفه».
ولا أعتقد ان لينين في هذا بدع، بل هو نموذج أو نمط متكرر في كل السياسات التي تتحلل من كثافاتها الإيديولوجية، لتصبح هي الإيديولوجيا المتحكمة.
من هنا اجتاحت الدبابات الروسية مدينة بودابست الجميلة عاصمة هنغاريا العام 1956 لتقضي على الربيع الأول والحراك الشعبي المعارض، بعد تحول الشركاء الإفتراضيين للسيد الروسي، الى خدم للبلد الأم والمنشأ في الشيوعية والأممية الثانية (روسيا) بعد تحويل البلدان الاشتراكية الى توابع مذعنة للإمبريالية الجديدة، ومن هنا برزت حساسيات الصين القومية فمالت الى الفصال مع موسكو، مقدمة في ذلك أمثولة، لم تقرأها كل الشيوعيات خارج السور الستاليني الحديدي، وخاصة الشيوعيات الآسيوية، لأنها تقرأ بالحرف الروسي (اليمن، صومال باري الذي انقلب بشكل بشع، والموزامبيق وكوبا التي تفتخر ببؤسها التقدمي، الخ).
ومن هنا كان انسحاب الماريشال (الرقيب سابقاً) جوزيب بروز تيتو وسحبه للاتحاد اليوغسلافي من الفلك السوفياتي (الروسي) ليبني دكتاتوريته على حسابه ولحساب الصرب على حساب الكروات والبوسنة والهرسك وكوسوفو والجبل الأسود ومقدونيا، ومن هنا توقف أنور خوجة عن السفر الدائم الى موسكو لتلقي الفتاوى في الشؤون التفصيلية من حياة الشعب الألباني، ومن هنا نشأت حالات شيوعية تيتوية وخوجوية، في العالم الثالث، أثار السلوك القومي الشوفيني الروسي، حساسياتها وأيقظها على المراوغة الأممية التي وظفت العام الأممي في الخاص الروسي، كما هو مألوف في تاريخ القوى الغالبة التي ادعت شيئاً وأضمرت شيئاً أو نقيضاً.
ومن هنا اجتاحت الدبابات الروسية بسرعة، مرة ثانية بلداً اشتراكياً آخر، وارتكبت مجازرها في ربيع براغ (بلغاريا) العام 1968 ونصبت رجلها المذعن (هوساك) بدل الرئيس والأمين العام للحزب الشيوعي البلغاري الذي لم يقمع التحرك في بدايته (دوبتشيك) والذي أرسل سفيراً الى تركيا، تمهيداً لموته في الحياة.. وكان ذلك فاتحة للتغيير في بولندا من غومولكا الى ياروزلسكي، انتهاء الى ليش فاليسا، تمهيداً أيضاً للانقلاب الواسع والعاصف في المنظومة الاشتراكية، بدءاً من بلد النشأة أو البلد الأم روسيا، بسبب تخلف أو تراجع او انكشاف عميق في الأطروحة الأممية، وتطور عميق في نظام المصالح الروسية، سجله غورباتشوف في كتابه «البيروسترويكا» ورعا تنفيذه ممهداً لبوتين بعد الفاصلة الهزيلة في عهد يلتسين.. ليستعيد بوتين الآن بطرس الأكبر مخلوطاً بالإمبراطورة كاترين والرفيق ستالين.
هكذا إذن تفعل المتحولات المعرفية والتجريبية العميقة، في إعادة بناء العلاقة بين المراكز المتغلبة والأطراف المغلوبة أو المغشوشة، وهكذا اقتضت المصلحة الإيرانية ان تؤيد ايران الجمهورية الاسلامية حركة «البوليزاريو» في الصحراء المغربية وتشجعها على الانفصال، ثم تكف عن ذلك، مقابل حصولها على الود المغربي، وهكذا اقتضت المصلحة الوطنية الايرانية أن تندفع ايران الثورة، قبل انتصارها وبعده بأيام قليلة، نحو حركة «فتح» وزعيمها ياسر عرفات، مقابل اندفاعه ايضاً. ثم اقتضت المصلحة فصالاً لم يخلُ من المجاملات والمناكفات بين حين وآخر، بعدما اتضح ان ايران تريد «فتح» كلها في حسابها وبين أوراقها، وأبو عمار يريد العكس شاهد المقدمات والبدايات في العلاقة والنهايات غير النهائية، كما هي غير نهائية النهايات الفصالية بين ايران و«حماس»، والتي تبقى المصالح والضرورات الإيرانية حاكمة على العلاقة معها، بشكل أقوى من احتكام حماس الى الضرورات الفلسطينية.
أسارع الى الاحتياط بالقول بأننا لسنا في صدد الإدانة أو الاعتراض او الاستهجان على ايران أنها توظف كل شيء في سبيل مصالحها الوطنية واستقرارها وازدهارها واستقلالها، لأن ذلك، موضوعياً لا يضرّ بنا إن لم ينفعنا، ولا شرط لنا عليه، الا أن يمر أو لا يمر بمصالحنا، وأن لا يكون على حسابنا المشترك بيننا وبين مواطنينا في كل بلد عربي وبيننا وبين محيطنا العربي.

السابق
إعلام حزب الله الرديف: شهداؤنا تخطوا 1001 في سوريا
التالي
وزارة المال: التنسيق مع النيابة العامة المالية كان ولا يزال قائما