الجيش بين «الرغبة» و«الاستطاعة».. وبازار السياسة

عندما يقول قائد الجيش العماد جان قهوجي إن «قرار الجيش الحازم هو التصدي للعابثين بالأمن في أي مكان كانوا وإلى أي جهة انتموا بعيداً عن الحسابات السياسية والفئوية»، فهو صادق في ما يقول.. ولكن.
وراء هذه الـ«لكن» تكمن كل مأساة طرابلس وأهلها، ومعهم سائر اللبنانيين.
ولكن.. لا تكفي إرادة قائد الجيش ونواياه الحسنة وشجاعة كبار ضباطه، لإنهاء الواقع الدرماتيكي في عاصمة الشمال.
ولكن.. لا يمكن الركون الى كلام السياسيين المعلن في تفويض الجيش تطبيق الأمن، وإغفال توجيهاتهم المضمرة في إبقاء شرارة الاقتتال مشتعلة لحسابات وأغراض، منها داخلية ومنها بتوجيهات ودعم خارجي.
ولكن..لا يمكن للجيش أن يحسم عسكرياً فقط في مناطق نزاع، يتضافر فيها البؤس الطائفي والاجتماعي والاقتصادي.
ولكن..الحل في الشمال يبدأ من سوريا ولا ينتهي في السعودية وما ومن بينهما من قوى وزعماء محاور وسياسيين وطامحين.
ولكن، وهذا أخطر ما في الموضوع، لا يمكن «التصدي»، بعيداً عن «الحسابات السياسية والفئوية»، كما يطمح، عن حسن نية، العماد قهوجي.
فبحسب أحد السياسيين الوسطيين إن «العلاج الجذري في طرابلس لن يكون في متناول اللبنانيين في المدى المنظور. لقد تحولت المنطقة ساحة رديفة، وأحياناً بديلة، لساحات اقتتال اخرى. بالتالي فإن ازمة طرابلس طويلة وجولات العنف ستتكرر». يضيف: «لا شك مطلقاً بقدرات الجيش على الحسم العسكري. قد يكون لهذا الحسم كلفة باهظة على المؤسسة العسكرية، غير أن هذه المؤسسة لم تبخل يوماً بتقديم التضحيات في سبيل الحفاظ على استقرار البلد وإعادة السلام والحياة الطبيعية إليه. لكن ما يجب أن تنتبه اليه قيادة الجيش هو استسهال السياسيين توريط المؤسسة في مواجهات مفتوحة من دون تأمين الغطاء والدعم السياسي الكافي لها. فالكلام الإنشائي شيء والممارسة الفعلية والواقعية شيء آخر».
ويتابع السياسي: «لا يمكن أن نُسقط الحسابات السياسية من كل عمل امني. فالصالونات السياسية تضج بالكلام عن الشبَه بين طرابلس ونهر البارد. يقال صراحة إنه كما اوصل حسم معركة نهر البارد قائد الجيش يومها العماد ميشال سليمان الى سدة الرئاسة الاولى، فإن إنهاء الأوضاع الشاذة في طرابلس سيوصل العماد جان قهوجي الى موقع الرئاسة. وهذا كلام له وجهان متناقضان. أحدهما إيجابي ودقيق، لجهة البحث عن رئيس قوي، يساوي بين الجميع، ومن خلفية وطنية معتدلة غير منحازة. كما ان للكلام سلبياته، فتوقيت انتخابات الرئاسة الاولى، البعيد نسبياً، يحتمل حرق أسماء كثيرة، فكيف إذا كانت اسهم بعض هذه الأسماء مرتفعة كاسم قهوجي؟ بالتالي فإن لقوى كثيرة مصالح في إضعاف الاسم، إن لم يكن إسقاطه من السباق. ولقوى كثيرة اخرى حسابات اكثر عملية في مسألة البيع والشراء والتفاوض والابتزاز على موقع الرئاسة الاولى. وفي كل هذه الحالات فإن قهوجي، ومعه ومن خلفه المؤسسة العسكرية، سيتعرضون للكثير من التحديات والاختبارات ومحاولات الإفشال، بدءاً من طرابلس وربما انتهاءً بها. والأخطر انهم سيورطون الجيش في موضوع الحسم العسكري ويتركونه وحيداً في منتصف الطريق، عالقاً بين دورَي أبو ملحم حيناً، ورامبو في أحيان أخرى. والدوران لا يحققان حسماً وسلاماً على ارض معقدة كطرابلس».
في موازاة هذا الكلام يؤكد مصدر سياسي على علاقة ثقة بقيادة الجيش ان «قهوجي تصله أصداء مثل هذا الكلام والتحذيرات يومياً، وهو اختار ان يضعها خلف ظهره. فهو، وكبار الضباط في المؤسسة العسكرية، على تماس يومي مع ما هو اخطر وأكثر اهمية. فما من ألم اكبر من استشهاد اي جندي او ضابط، وما من معاناة امرّ من ان يكون الجاني لبنانياً وفي اقتتال داخلي عبثي. لذا فإن الجيش سيحسم بغض النظر عن مواقف السياسيين المضمرة. ستأخذ القيادة وعود السياسيين المعلنة بالدعم وتأمين الغطاء وتسهيل المهمة على محمل الجد وتحاسب على اساسه. ففي النهاية، اهل طرابلس والشمال هم أبناء الجيش وحاضنوه وخزانه، ولن تسمح القيادة بعد اليوم بأن تتحكم حفنة من الخارجين عن القانون بالمدينة وسكانها الأبرياء. فليتحمل كل شخص مسؤولياته، ولتكشف كل القوى السياسية عن مشاريعها. لكن الأكيد ان المدنيين الطامحين للسلام في طرابلس يشكلون مع الجيش الأكثرية، والجيش الذي أهله معه لا يعود مهماً من هو ضده».
قد يكون في ما ينقله السياسي عن القيادة العسكرية بعض حماسة العسكر و«أيديولوجيتهم». وقد يكون يستند الى وقائع ومعطيات. وحدها الأيام القليلة المقبلة ستفصل ما بين «المشتهى» و«المستطاع» لدى قيادة الجيش، وبين «بازار» السياسيين وحساباتهم.. وتصفية حساباتهم.

السابق
تلاقٍ سعودي – “جمهوري” – إسرائيلي
التالي
أَسقِطوا الخط الأحمر