بري وميقاتي..وسنوات العسل

فجأة طارت الأمتار القليلة التي تفصل بين مكتب نجيب ميقاتي في فردان، وعين التينة، مقرّ الرئيس نبيه بري. بلحظة انفصال موضعيّ، سببته تعددية الاجتهادات الدستورية حول الجلسة التشريعية العتيدة، كبرت المسافة وصار بينهما كيلومترات من التباعد.

هكذا تساوت «سنوات العسل» بين الرجلين، مذ أن عاد القطب الطرابلسي إلى السرايا الكبيرة، بتلك الأسابيع القليلة التي حلّ فيها الجفاء والبعد بين الجاريْن. وكأنهما انتظرا تلك الفرصة كي يصفّيا حسابات قديمة، تسللت إلى أجندة العلاقة، وبقيت مكتومة إلى حين «تواجها» حول شرعية الجلسة النيابية… التي لم تولد بعد.

مشهد بدا استثنائياً على خارطة طريق جمعت «دولتيْ الرئيس» منذ سنتين وسبعة أشهر. يعرف ميقاتي مكانة «أبو مصطفى» جيداً، ويقدّر له دوره الإيجابي في أكثر من محطة لمسار الحكومة الميقاتية. فرئيس المجلس كان من أكثر المتحمسين، إلى جانب وليد جنبلاط، لتسمية «البيزنس مان» كي يخلف «الشيخ الصيداوي» المخلوع من أمام باب البيت الأبيض.

حقيقة لا ينكرها أبداً مصرّف الأعمال. ويحفظ لها مكانة في منظومة الحسابات. ومع ذلك سُمح للتباعد أن يسجّل له موقعاً في تلك العلاقة التي بدت أكثر من متينة في عزّ الاشتباك الحكومي بين أهل البيت الواحد.

حتى على المستوى الشخصي، باستطاعة رحلة روما التي أخذتهما على طائرة واحدة للمشاركة في تنصيب البابا فرنسيس، أن تروي فصولاً وفصولاً من جلسات الضحك المطولة بين بري وميقاتي وصحبهما، في مقاهي العاصمة الإيطالية وبين شوارعها التراثية.

شريط السمن والعسل يبدأ من لحظة التكليف. تنسيق فوق العادة حرص النائب الوافد من عمق عاصمة الشمال، أن يخصّ به الجالس في عين التينة منذ أكثر من عشرين سنة. حنكة «النبيه» لا بل ثعلبيته، كما خبرته الطويلة والطويلة جداً، حرّضت ميقاتي على مشاطرته في كل صغيرة وكبيرة، لتسهيل قيام الحكومة. اتصال شبه يومي لتبادل آخر تقلبات بورصة التأليف، ويجمع لقاء أسبوعي بينهما، لتداول الأخبار بعيداً عن «آذان المتلصلصين».

في هذه المرحلة أيضاً، تمكّن رئيس الحكومة من إصلاح ما أفسده الزمن بين رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس المجلس. علاقته المتينة بالرجلين سمحت له بأن يكون دينامو التواصل بين بعبدا وعين التينة، والمختارة طبعاً ثالثتهما. حتى اعتقد بعض أصحاب المخيلات الواسعة، أنّ رئيس حركة «أمل» سيخرج من جلده ليتشح بوشاح الوسطية، ليكون رابع تلك التركيبة الواقفة على حافة الاصطفاف السياسي.

استقالة نجيب ميقاتي كانت واحدة من أبرز تعثّرات تلك العلاقة. تكدّست الاجتهادات حول الأسباب وهوية المحرّضين الذين دفشوا القطب الطرابلسي إلى هاوية الطلاق الحكومي. روايات من هنا وهناك بلغت مسامع الرجل الذي تلتقط راداراته إشارات كثيرة، حول طبخات كانت تعدّ بهدوء وبعيداً عن ناظريه لتحيله إلى نادي التقاعد الحكومي. ومع ذلك لم يخرج عن صمته ليوجه اتهاماً صريحاً لأحد… احتفظ ميقاتي بكل ما ورده من أخبار، مؤكداً أنّ ما أقدم عليه كان نتيجة قرار شخصي أملى عليه الابتعاد عن الواجهة.

غير أنّ «أبو مصطفى» لم يبلع تلك الخطوة. صوّرها على أنّها طعنة في الظهر، مع أنّ بعض الخبثاء لا يغسلون يديّ رئيس المجلس من دماء «صلب الحكومة». وحصل تباعد صامت وللمرة الأولى منذ زمن بين عين التينة وفردان، لم يخرقه أي سجال منبري… إلى حين وقوع «الاشتباك الدستوري»، مع أن ميقاتي لا يقدّمه إلّا بصفة «تباين اجتهاديّ».

خلال المؤتمر الصحافي «التاريخي» للرئيس بري الذي دافع خلاله عن «حصون» مجلس النواب ورئاستها، لم يوفّر رئيس حكومة تصريف الأعمال من رشقاته النارية. لا بل اتهمه بالتلاعب على وتر الكلام، عبر التنصل من تأييده للجلسة التشريعية، حتى لو كانت متخمة بجدول أعمال طويل عريض.

إذ سبق للرجلين أن تبادلا الحوار هاتفياً حول تلك الجلسة، حيث اعتبر بري أنّه سحب موافقة ميقاتي ليفتح باب المجلس تشريعاً، وتمديداً لسن تقاعد كبار الضباط كي يسمح للعماد جان قهوجي البقاء باليرزة محمياً بقانون يقيه شرّ السياسيين.

ولكن لرئيس حكومة تصريف الأعمال روايته: صحيح أنّه أمسك بيد رئيس المجلس للسير في جلسة تشريعية ضمن العقد العادي، لا سيما أنّه ليس ضرورياً فتح دورة استثنائية قد تشكل عرفاً أو سابقة… لكنه لم يناقشه في جدول أعمال تلك الجلسة على اعتبار أنّ الأولوية كانت لمسألة سنّ تقاعد الضباط… وإذ بميقاتي يفاجأ من وسائل الإعلام بأنّ بري يحضّر «وليمة دستورية»، قد تصيب المجلس بـ«عسر هضم».

قد تكون من المرات النادرة التي يرتفع فيها منسوب الغضب عند «أبو مصطفى» لهذه الدرجة. إذ اعتبر أنّ «صديق السنتين الأخيرتين»، تخلى عنه في أول امتحان صعب يواجهه، لينضمّ إلى جوقة مطوّقي المجلس لتعطيله والحؤول دون التئامه، مع أنّ ميقاتي مصرّ على أنّ موقفه ليس خدمة لأي فريق أو طمعاً باستعادة ودّ فُقد منذ عودته إلى السرايا الكبيرة، وإنّما عن قناعة بعدم تكريس عرف مشكوك بشرعيته.

وكان شبه قطيعة بين الرجلين، مع العلم أنّ ميقاتي تعالى فوق كل الانتقادات التي كانت تصله عن لسان رئيس المجلس، وأمسك الهاتف ليهنئه على إشارته خلال المؤتمر الصحافي، بأنّ هذا الاشتباك ليس سنياً – شيعياً بقدر ما هو تباين في القراءات الدستورية. ثم عاد وكرر هذا التنويه أمام الإعلام.

وهكذا قصد ميقاتي مجلس النواب ليلتقي فقط رئيسه من دون منح «الفيزا» لالتئام الجلسة التشريعية… ليكون لقاء الأمس أول جلسة مطولة بين الرجلين منذ أن سلكت العلاقة مساراً انحدارياً، من دون أن تعني أنّهما تخليا عن وجهتي نظرهما.

فميقاتي المعروف ببراغماتيته وبـ«ضرسه القطّيع»، أثبت قدرة على «هضم» الانتقادات بابتسامة لافتة، وهو الذي بلع كل حملات التجريح التي ساقها «الحريريون» ضدّه بهدوء عقلاني لا يعرف الانفعال. وباستطاعته اليوم أن يحجب غيمة الصيف عن سماء العلاقة مع «أبو مصطفى» وأن يغض الطرف عن النتوءات الاستثنائية، لتعود الحرارة بين رجلين جمعت بينهما الكيمياء الشخصية… والسياسية، في ظل استمرار تعثّر تشكيل حكومة تمام سلام.

السابق
7 آب 2013: هرمنا
التالي
كونيللي: تورط حزب الله في سوريا يعرض لبنان للخطر