غني عن القول إن العلاقات الطائفية والمذهبية تتغذى اليوم على الأزمة السورية، حيث يُقدر للانخراط فيها أن يضاعف تعقيد العلاقات المعقدة أصلاً، ولو مضى ذلك من دون تصريح، بين الشيعة والسنّة.
فظاهرياً يبدو أن الأمور مستتبة على حصص مستقرة وحدود معروفة. فالسنّة، ولديهم مفتيهم، يسمون نائب رئيس البلدية، ويحظون بسبعة أعضاء من أعضائها الـ21 فيما يحظى المسيحيون بعضو واحد. والمعروف أن مقترعي السنّة في المدينة نفسها يبلغون عشرة آلاف، فيما يرتفع عددهم في بعلبك – الهرمل إلى أربعين ألفاً قياساً بـ160 ألف صوت شيعي في المحافظة منهم 21 ألفاً في المدينة. وهم يحتلون مواقع تمتد من الإمساك، إلى جانب الكاثوليك، بالمقاليد التجارية والتعليم، إلى العمل في المهن البسيطة كالأفران والملاحم والحدادة جنباً إلى جنب القليل من الفلاحة والرعي.
لكن شيئاً من مرارة التاريخ نابض في الشعور الراهن بالحصار. فمنذ بدايات القرن العشرين بدأ الشيعة يتحولون أكثرية عددية في بعلبك ليصيروا، بعد الاستقلال، أصحاب النفوذ والزعامة. وهي علاقة مزدوجة دائماً: فالسنّة أقلقتهم الهجرة المتواصلة من الأرياف التي تقلل عددهم وتُضعف شوكتهم بعدما كانوا الأكثرية، إلا أن تجارهم يعتمدون على المتسوقين من الأطراف. وقد تبادل الطرفان، ولا زالا يتبادلان، بيع الأراضي والعقارات، كما اختلط الزواج بينهما واتسعت لهما حارات وأحياء مشتركة، كالقلعة. غير أن غالبية السنّة (عائلات الرفاعي وصُلح ورعد وعثمان والجمال…) تعيش في أحياء وحارات يتسمى معظمها باسم تلك العائلات. ولا يخلو الأمر من نزاعات قديمة ولو بدت ضامرة، كحال «الجامع الخربان» المملوكي في رأس العين المتنازع عليه، إذ يعتبره السنّة وقفاً سنّياً وتقول بيئة حزب الله المتسعة إنه يضم رأس الحسين بن علي.
ويعيد أحمد الغز مطالع التوتر المعلن إلى 1980، إبان تشييع نقيب الصحافة الذي اغتيل عامذاك، رياض طه. فقد وقع اشتباك بين حركة أمل، وهي في بداياتها، وبين حزب البعث و «جبهة التحرير العربية» المدعومة من العراق اللذين انتسب إليهما بعض الشبان السنّة.
قبل هذا، كان لظاهرة التهميش السياسي وذاكرتها أن شكلتا خلفية قاتمة: فحتى 1960، لم يكن للسنّة نائب عن بعلبك – الهرمل، وفي 1964 رشح فؤاد شهاب رئيس الحكومة اللاحق تقي الدين الصلح، البيروتي الصيداوي الأصول، عن ذاك المقعد، ففاز بأصوات العشائر الشيعية خارج مدينة بعلبك.
واستمر طويلاً شعور سنّة بعلبك بالبُعد عن المركز، خصوصاً أن البيروتيين الذين انشدّوا إلى إقليم الخروب القريب جغرافياً أو تملكوا في البقاع الغربي، لم ينجذبوا إلى البقاع الشمالي.
وهو وضع لم يتغير إلا جزئياً مع الحريرية التي اهتمت بالتعليم وشملتهم باهتمامها، فأحسوا بأنهم باتوا جزءاً من المركزية السنّية. مع هذا، لم يظهر وجه قيادي بارز هناك، حريري أو غير حريري، بعد النائب حسن الرفاعي. وهذا جميعاً ما يفسر الانفجار العاطفي اللاحق حيال الثورة السورية، لا سيما أن سنوات الوصاية التي تُوجت بمقتل رفيق الحريري وقعت عليهم وقع المعاناة المتصلة. يعزز هذا واقعُ الصلات المتينة، تجارياً وقرابياً، بين سنّة بعلبك وسنّة عرسال، الشيء الذي يصح خصوصاً في آل صُلح، العائلة السنّية الثانية عدداً بعد الرفاعي.
… وبعلبك المسيحية
على عكس السنّة، هاجر المسيحيون على دفعات من بعلبك، والذين بقوا منهم مارسوا ما يشبه الاستقالة من الواجبات العامة والانكفاء على «حارة المسيحيين» التي تضم من تبقى منهم.
ويصلح انكماش وزن المسيحيين موضوعاً لأعمال الأدب والسينما التي تدور حول النوستالجيا. فهم، وفق قيد النفوس، لا يزالون ثلث السكان، إلا أنهم عملياً قرابة 5 في المئة منهم. أما في المحافظة ككل فتقل أصواتهم عن الـ25 ألف صوت أكثرهم كاثوليك، يليهم الموارنة فالأرثوذكس، إلا أن قلة منهم هي التي تصوت.
لقد ارتبط الوجود المسيحي بأسماء كخليل مطران، «شاعر القطرين» الذي عُد واحداً ممن مهدوا للحداثة الأدبية، وبأمكنة كفندق بالميرا الشهير قبل أن يبيعه أصحابه من آل ألوف. ويعدد السفير السابق جهاد مرتضى صالات السينما التي كانت قائمة في حارة المسيحيين كـ «أمبير» و «روكسي». أما في السياسة، فيذكرنا بأن هنري فرعون اختار أن يبني زعامته بين مسيحيي بعلبك وعائلاتهم (المطران وفريحة وسركيس وشامية وأبو ناضر…) قبل أن يبرز حبيب مطران. والحال أن وجوهاً كفرعون ومطران كانوا، في زمن الرجحان المسيحي قبل 1975، يمعنون في ربط البقاع بالجبل وبالسياسات الوطنية عموماً، ما كان يؤسس وزناً يعادل الانشداد إلى سورية ويوازنه.
لكنْ، مـــع حرب السنتين، شرعت الأمور تتغــــير. فقد افتُتحت تلك الحرب بهجوم علـــى قرية القاع المسيحية في البقاع، وبدأت أعداد من المسيحيين تغادر منطقتها. ذاك أن سقوط مقاتلين حزبيين من أبناء بعلبك في مجابهات بيروت، كان يوتر الأجواء ضد المسيحيين، لا سيما أن بعض شبانهم كانوا قد انتسبوا إلى أحزاب مسيحية مقاتلة.
أما في أوائل الثمانينات، مع ولادة حزب الله وانفجار التدين والأسلمة، فتنامت حركة النزوح عن بعلبك كما تنامى بيع الأراضي التي يملكها مسيحيون.
«وعندما خسرتهم المدينة – على ما يقول جابر الرفاعي، رئيس الدائرة التربوية في بعلبك – خسرت نكهتها السياحية وشيئاً أساسياً من روحها».
مقطع من تحقيق مطول ينشر في الحياة تحت عنوان: بعلبك بوابة سورية وحربها